شعر وأدب

فؤاد الخشن شاعر الطبيعة الأمثل
إعداد: وفيق غريزي

جاء في طليعة جيله، ليحدّد الحس الشعري، بكل قوة، وتواضع، وبساطة، وأدب في التجديد، مستكملاً شيئاً فشيئاً أدواته الشعرية، لم يأخذ المكان الذي يستحقه، في طليعة الشعراء العرب المجددين، أمثال بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي وغيرهم. رحل بعد أن رسم على صفحات الغدران وجذوع الزيتون أحلامه البعيدة الإشعاع، وأناشيده القروية المرهفة الحاسية التي إغتذت من مهارة فنية، في تقنية الإنفعالات البكر في رقة صورة، ورهافة بث، وصدق إيصال، ترفدها كلها ثقافة شاملة، عربية وعالمية. رحل مخلّفاً وراءه غابة الزيتون تبكي غيابه، والطيور تحول غناؤها إلى أنين. إنه الشاعر الرقيق فؤاد الخشن.

 

من الفجر إلى المساء
إنبثق فجر شاعرنا فؤاد الخشن لحظة ولادته في العاصمة بيروت مطلع العام 1924، ولما هاجر والده العام 1926 إلى البرازيل، عاد مع عائلته إلى بلدته الشويفات، الهائمة بكرومها وعيونها ما بين جبل لبنان والبحر. وفي مواسم القطاف كان يرافق الأهل إلى غابة الزيتون الواسعة. تأثر شاعرنا بجده لأمه الشاعر الزجلي سليمان نعمان صعب. فبدأ شعره باللغة العامية، ومنها صعد إلى اللغة الفصحى. لكنه مع عودة والده من المهجر العام 1939 عاد إلى بيروت، حيث درس في مدرسة حوض الولاية، على يد الشاعر اللغوي الشيخ راشد عليوان. فكتب أولى قصائده بعنوان «بلبل» ثم قام بتعريب قصيدة لامارتين «الخريف» التي فازت بجائزة «محطة الشرق الأدنى» من يافا. العام 1944 التحق بمدرسة دار المعلمين، وراح يقرأ بالفرنسية أشعار أرثور رامبو، وشارل بودلير، وبول فاليري وفيرلين، وبالعربية أعمال: شيلي وبترارك وبيرون وطاغور. وفي أثناء ذلك، أبدع قصائده «الراقصة السوداء» و «إلى ملهمتي الأولى» وقد نقلها المستشرق البريطاني اللورد آربري إلى الإنكليزية العام 1946، وهو عام زواجه من الشاعرة أديل الخشن. واستمر شاعرنا في العطاء حتى غزاه المرض وحمله على أجنحته إلى العالم الآخر.

 

ينابيع الشاعرية
إن أستاذية الشاعر تحول دون أن تتحول قصائده إلى رسوم طبيعية للطبيعة ذاتها. فلو اكتفى بإعطائنا صوراً طبيعية, لما كان حقق ما ينتظر من شاعر مثله.. إن مجمل إبداعات شاعرنا تعيد طرح المسألة التي أطلقها الشاعر الفرنسي مالارميه، سابقاً، بصورة محكمة تقريباً، عالم رامبو وفيرلين المتفلت في أقاليم النفس والوجدان وكشف حقائق الوجود العميقة، مع إطلالة على حداثة مدهشة في تلوّن الحروف وتحرر وجودي صادق وعميق في تصوير عالم العلاقات المحرّمة والملهبة بين جسد وجسد، روح وروح، وخيال وخيال.
لقد تأثر فؤاد الخشن بثلة من الشعراء العالميين من أمثال: لوركا، ناظم حكمت، نيرودا، مايا كوفسكي، إيلوار، أراغون وسان جون برس وغيرهم. ولكن إتجاه فؤاد الخشن الشعري، هو إتجاه الفرد دي موسيه، والياس أبو شبكة الذي يقول إن الشعر إبداع يجب أن يكون حراً لكي يضيف جمالاً جديداً إلى جمالات الحياة، أو يحقق كشفاً ما، في عوالم الروح والكون، وأن يعمق رؤية الإنسان لهذه الجمالات، لكي يقول الجمال، ويملأ القلوب والوجدان بالرغبة العارمة، لكنه لا يستطيع أن يتحقق، ويزهر في النفوس والقلوب والوجدانات إلا عبر إنفعالية تجريبية، ليس شرطاً أن تكون فقيرة، كأيوب، في آخر أيامه.

 

تجديد الحس الشعري
إن صورة بنيوية شاملة لمجمل العمارة الشعرية، عند شاعرنا الخشن، تقودنا إلى تميّز منطق فني يتأسس على الأولويات الشعرية الإنفعالية، مرتقياً إلى الجماليات الوجدانية الأرقى مستوى، من حيث إرهافه الصورة، والتركيز في صياغة التجربة، ومحاسبة القلم على كل فلذة، وقافية، والذي يرضي الضمير الفني والإجتماعي والإنساني لمن تتبع تطور مضامين فؤاد الخشن، غير المنفصلة عن أشكالها المتينة المطابقة لتلك المضامين، هو أن الوعي الإجتماعي، المرفوع إلى أفق الشعر، لم يهبط على شاعرنا في موسم مفاجئ، ولا تجاوباً مع «ضفدعية» بعض الذين إلتزموا ولم يفوا بالتزامهم.
إن تعمق المضمون الإجتماعي، أي الشعور الإنساني المصاغ شعراً وهّاجاً ومعبئاً للشعور بموقع الشخص من حركة المجتمع والكون. لم يتفتح في شعر فؤاد الخشن بصورة تلقائية آلية، بل كانت له هزاته وزلازله الاجتماعية المعروفة التي وضعت شاعر المرأة والريف في صميم الإلتزام السياسي الواعي، الحر، الصادق، والذي يتصف، لهذه الأسباب وغيرها، بقيم خفية، كالجداول السارية تحت الأرض، أو كجذوع بعض النباتات الأصلية، التي تجتاز مسافات تحت التراب الأسود، ثم تتفتح أزهاراً وثماراً وظلالاً.
ووظائف شعر فؤاد الخشن الأساسية تتحدّد:
1- الكشف عن الحس الحقيقي إزاء الحوافز الجمالية وصياغتها ببساطة ورهافة.
2- التماس الصلات الظاهرة الخفية العاملة في أعماق تطور الشاعرية المبدعة.
3- الإتصال بين تطور الوعي الإجتماعي والنضالي والحضاري لدى جمهور الشاعر، وهذه القيم في إبداعات الشاعر مع الأخذ في الحسبان الطابع النوعي، المميز.

 

رائد نموذجي
في الشعر، الكلمات، عند انتظامها في قصيدة، تصبح طقوساً موسيقية، وقد تكون إيحائية أو تشكيلية، أو غير ذلك، لكنها تظل بسيطة ومفردة الدلالة، وذات وظيفة خاصة في إطار القصيدة المفردة، فمهمات الألفاظ اللغوية، في البناء الشعري، وبعضها تشكيلي نغمي موسيقي، وبعضها نفساني يتخذ إيقاعاً معيناً توصلاً إلى غاية بنائية أو إيحائية أو درامية معينة، والآخر كوني المدلول، يسعى بكل جهد وجبروت وإلى درجة التمزق، كما في «صلوات الشيخ الأزرق» وقد يؤتى الشاعر «ساعة الحظ» أو المصادفة السعيدة، فتتناسق كل مقومات الصدام، في نمطية جمالية شاعرية ممتعة، رائعة التأثير والتغلغل في حنايا الوجدان الشعري لدى القارئ.
ولقد تمحورت إشكالية الشعر الحديث، حول عدد من الشعراء العراقيين، لدى النقاد العرب، الذين تناسوا عن قصد أو عن غير قصد، أن الشاعر اللبناني كان في طليعة المجددين في الشعر الحديث، ولهذا فهو رائد بين رواد الشعر الحديث.

 

الغزل
ثمة من يسأل، ما هي عناصر ريادة فؤاد الخشن في مجال الشعر الغزلي والريفي في تلك الأيام؟
ريادة فؤاد الخشن بوجود الياس أبو شبكة وسعيد عقل وشعراء المهجر، والنظرات المجددة لدى مدرسة «أبولو» و «استراحة الملاح التائه»، في ذلك الحين، إلى سائر هذه المؤثرات التي لم تغب عن ثقافة شاعرنا، تكمن في ان كان قد اختار طريقه، وكان قد تبلور لديه، في أعماق وجدانه، وصميم حقله الشعري، أنه لن يكون مبشراً بنظرية شعرية معينة.
في قصيدته «الراقصة السوداء» نجد أن شكل جسد الراقصة ينبع من مضمون يتفجر كضياء النافورة الزئبقية المتواثبة، الناشبة المولودة من ذاتها.. إن حركة رقص هذه المرأة، هي ذاتها تجعلها معلّقة بين أرض الغريزة وسماء التحليق الروحي، بمفاتن الجسد النسائي البديع في أثناء حركته العفوية الخاطفة حين يلتقطها وجدان شاعر مرهف الحس له قاموسه الخاص، ولغته الخاصة ومجالاته الإيحائية الأصلية.
إن غزل فؤاد الخشن، في رقته، وعفويته، وبساطته الآسرة، له بعد تشكيلي لطيف أيضاً. وهل في غزل شاعرنا تقصير عن شعر من ماثل في صدق وعمق درامي وشعوري، لا يفصل بين الحبيبة والوطن والقضية؟ إن العام موجود دائماً في الخاص، ولكل شاعر سيرورته وخط تطوره. تتجلى في أعمال فؤاد الخشن إضاءة تجربة حب هادئ متغيّر، ككل شيء في العالم:
«لم يعد يرويك ثغري
لم تعد دنياك دنياي ولا خمرك خمري

ونسيتِ
من سنا الأمس عشيّة
حينما كنتِ ندّية
وبريئة
لم تذوقي بعد أثمار الخطيئة
وزهور اللوز كانت
كقناديل مضيئة!».

رحل فؤاد الخشن، على غصّة ومرارة وتمزّق، عن الساحل الرملي المزركش بقباب الزيتون الرمادي الحزين، إلى العالم الوسيع، الخالي من الفساد والحقد والكراهية والعداء، وذوائب شعره تعانق نجوم الصيف فوق عرزال قمري، وتنطلق كالسر الخفي، أو كنيزك الوجد في القلوب العاشقة.