كارثة بحجم الوطن

فاجعة الرحلة 409 ويوميــات البحـث عـن الضحايا والحطام

أيام طويلة وجهود وألم

سوف تمضي أعوام طويلة قبل أن يزول ثقل الفاجعة عن صدور عشرات العائلات، ويتوقف نزف الجراح. قدر قاسٍ ظالم سلّم 90 مسافراً الى أمواج البحر وغضب السماء. صعدوا الى متن الطائرة الأثيوبية لتقلّهم الى وجهات مختلفة. كان لكل منهم آماله وأحلامه وحياته. أخذهم القدر الى وجهة واحدة، وابتلع الآمال والحكايات والأعمار.
لم يعرف لبنان في تاريخه مثل هذه المأساة، ولم يعرف الجيش اللبناني أوجع من هذه المهمة التي اضطلع بها فور وقوع الكارثة فجر 25 كانون الثاني المنصرم. بدأت المهمة بآمال إنقاذ ناجين، لكن الآمال انحسرت وتقلّصت الى أقل من انتشال جثث الضحايا.
الأهالي يصارعون حزنهم وينتظرون بين شاطئ البحر وردهات مستشفى رفيق الحريري الحكومي سيارة إسعاف تقلّ قريباً او عزيزاً أو حبيباً. ينتظرون نتائج فحوصات تؤكد أن في داخل النعش ما يعود الى مَن ترك غيابه في النفس جرحاً من الصعب أن يلتئم.
العسكريون المضطلعون بعملية البحث يصارعون البحر بكل جرأة واندفاع. كل واحد منهم كان كتلة اندفاع ونخوة، همّه أن يجد ما يمكنه التخفيف من وقع الكارثة على أم أو أب أو إبنة أو زوجة.
«أيام طويلة، جهود إستثنائية، ووجع إستثنائي». هكذا يصف أحد غطّاسي فوج مغاوير البحر مشاركته في أعمال البحث عن ضحايا الطائرة الأثيوبية المنكوبة وحطامها. يتحدّث ورأسه بين يديه إخفاءً لملامح الحزن والوجع: «هذا أصعب ما قمت به في حياتي... في نهر البارد استشهد رفاق الى جانبي. حملت أكثر من واحد منهم على كتفي وهو ينزف ويلفظ آخر أنفاسه، وأنقذت أكثر من مصاب... لكنّ في هذه المهمة شيئاً آخر لا يمكن مقارنته بشيء، وجعاً آخر لا يمكن وصفه... البحث بين أمواج البحر عما بقي من مفقودين، كانوا بكل بساطة منطلقين الى أعمالهم... كانت أصوات أهلهم ودموع أحبائهم تغلي في عروقي، شعرت أنني يمكن أن أغطس الى ما لا نهاية، أريد أن ألتقط أجسادهم وأعيدها الى أحبّائهم... مع ذلك، وفي ظل الإمكانات المتوافرة، لقد حقّقنا أكثر مما كنا ننتظر».
كلام هذا الغطّاس قد يختصر كل ما شعر به رفاقه: أولئك الذين كانوا في عباب اليم، وأولئك الذين اضطلعوا بمهماتهم عبر الطوافات أو على الشاطئ، أو في غرفة العمليات. الجميع كانوا في عمق الفاجعة.

 

فجر الكارثة
كيف تعاملت قيادة الجيش مع الكارثة، وكيف توزعت المهمات على القطع التي شاركت في عمليات البحث عن الضحايا وحطام الطائرة وصندوقها الأسود؟
فجر 25 كانون الثاني 2010 ورد الى غرفة العمليات الجوية اتصال من برج المراقبة في مطار رفيق الحريري الدولي.
الاتصال أفاد عن اختفاء طائرة مدنية واحتمال سقوطها في البحر مقابل منطقة الناعمة. غرفة عمليات القوات الجوية أفادت عمليات القيادة مباشرة.
الخبر نفسه تلقته القوات البحرية، وأفاد عنه اللواء التاسع الذي تحدث عن «مشاهدة كتلة نارية كبيرة تهوي نحو البحر ما بين السعديات وخلدة، وقد أفيدت عمليات قيادة الجيش فوراً».
قيادة الجيش طلبت على الفور تقدير الموقف والمباشرة بعمليات البحث والإنقاذ. وتمّ التنسيق بين القوات الجوية والقوات البحرية والخافرات التابعة لها.

 

المهمة بدأت على الفور
أقلعت طوافة سيكورسكي تحت جنح الظلام وتبعتها أخرى من نوع UH - IH، وبوشر التفتيش عن حطام الطائرة بمؤازرة طوافتين من قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، وأخرى قبرصية بالاضافة الى طوافة بريطانية وطائرة فرنسية ذات أجنحة ثابتة.
في ما يخص القوات البحرية، توجّهت مراكبها وزوارقها باتجاه شاطئ الأوزاعي - خلدة، وأنشئت على الفور غرفة عمليات في قاعدة بيروت البحرية برئاسة مسيّر أعمال القوات البحرية، لمواكبة الكارثة.
من جهته نشر اللواء التاسع وحدات مزوّدة مناظير على طول الشاطئ الممتد من خلدة الى نهر الأولي للبحث عن ناجين أو جثث أو حطام عائد للطائرة، في مهمة بدأت ساعة وقوع الحادث واستمرت «حتى إشعار آخر».
في وزارة الدفاع كان وزير الدفاع الوطني الياس المر وقائد الجيش العماد جان قهوجي في غرفة عمليات القيادة للإشراف على عمل الوحدات وتزويدها التوجيهات اللازمة. وقد جرى التأكيد على حشد كل الطاقات لمواجهة الكارثة، وعلى أولوية إنقاذ الأحياء أولاً، ومن ثم انتشال جثث الضحايا وحطام الطائرة.
وبناءً على المعلومات والمعطيات الأولية التي توافرت لدى قيادة الجيش حدّد مدير العمليات العميد الركن مارون حتي مكان سقوط الطائرة على الخريطة، في بقعة بحرية غرب رأس الناعمة.
فوج مغاوير البحر اضطلع ايضاً بالمهمة منذ بدئها، وتولى غطّاسوه البحث عن الضحايا وحطام الطائرة، وسرعان ما انضم اليهم غطاسون من القوات البحرية ولواء الدعم - فوج الهندسة.
طلعات طوافات القوات الجوية استمرت يومياً «من أول ضوء حتى آخر ضوء»، وهي استطاعت انتشال ستة جثامين خلال اليوم الأول، بينما انتشلت الطوافة البريطانية جثمانين، نقلت جميعاً بواسطة سيارات الصليب الأحمر اللبناني من قاعدة بيروت الجوية الى المستشفى الحكومي.
 


أيام طويلة
مهمة البحث استمرت أياماً طويلة صعبة بكل لحظاتها وتفاصيلها. وقد شارك فيها إضافة الى القوات البحرية والجوية وفوج مغاوير البحر وفوج الهندسة، كل من الطبابة العسكرية والشرطة العسكرية. فقد اضطلعت الطبابة بتقديم العون لغطّاسي فوج مغاوير البحر وعملت مفرزة منها مع القوات البحرية وفوج مغاوير البحر والأدلة الجنائية على توضيب الجثث والأشلاء العائدة للضحايا.
أما الشرطة العسكرية فأشرفت على عمليات نقل الجثث والأشلاء وكل ما يعثر عليه من حطام الطائرة او الضحايا البشرية الى المستشفى الحكومي، والأعتدة والمقتنيات الى قاعدة بيروت البحرية، وتولت إعداد بيانات وصفية دقيقة، قبل التسليم وإجراء اللازم:
تمّت العمليات بتوجيهات قيادة الجيش وإشراف أركان الجيش للعمليات ولجنة التحقيق الخاصة بالحادثة.
في اليوم الثاني، تمكّنت قوى الجيش من انتشال مزيد من الجثث ليرتفع العدد الى 14 جثة، وتمّ تجميع أجزاء من حطام الطائرة كما أوضح بيان صادر عن مديرية التوجيه - قيادة الجيش بتاريخ 26/1/2010: «منذ الفجر تقوم سفينة أميركية مجهّزة بأعتدة متطوّرة مع مركب مدني قادم من قبرص متخصّص بأعمال الإغاثة والإنقاذ، إضافة الى قطعتين بحريتين تابعتين لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، بسبر أعماق المنطقة حيث يحتمل وجود الجسم الرئيس للطائرة».
في 27/1/2010، عقد في قاعدة بيروت البحرية اجتماع برئاسة نائب رئيس الأركان للعمليات العميد الركن عبد الرحمن شحيتلي لتنسيق عمليات البحث عن ضحايا الطائرة الأثيوبية المنكوبة وجسمها الرئيس.
ضمّ الإجتماع من الجيش كلاً من قائد القوات الجوية ومدير التوجيه وقائد القوات البحرية وقائد فوج مغاوير البحر، وضباطاً من مديرية المخابرات والشرطة العسكرية، وقائد فوج الإطفاء، وممثلين عن الدفاع المدني والصليب الأحمر اللبناني، الى جانب مدير عام الطيران المدني ورئيس لجنة التحقيق الفنية اللبنانية الدكتور حمدي شوق وعدد من أعضاء اللجنة، ومدير عام وزارة الصحة الدكتور وليد عمار، والملحق العسكري الأميركي يرافقه فريق غطس متخصص، وممثل عن السفينة المدنية المتخصصة «OCEAN ALERT» السيد وليد نعوشي وفريق عمله، وعدد من ضباط القوات البحرية التابعة للقوات الدولية ورئيس لجنة التحقيق الفرنسية السيد ايمانويل ديلبار وخبير من فريق عمله.
وقد عرض المجتمعون، كل في مجال عمله، المعطيات المتوافرة لديه حول مجريات عملية البحث والإنقاذ النهائي وهو انتشال جميع الضحايا والعثور على جسم الطائرة والصندوق الأسود، كما عاين المجتمعون مكان جمع حطام الطائرة داخل مستوعب في قاعدة بيروت البحرية.
من جهته أكد العميد الركن شحيتلي ضرورة عقد اجتماعات متتالية، كلما دعت الحاجة لتنسيق الجهود ومتابعة سير الأعمال المطلوبة.
وفي نهاية الاجتماع توجّّه الدكتور حمدي شوق الى جميع المشاركين في عمليات البحث بوجوب توخي الحرص في التعامل مع جثث الضحايا وحطام الطائرة حفاظاً على الأدلة والحقائق».
منتصف ليل 27 - 28/1/2010، أفاد طاقم المدمّرة الأميركية «U.S.S. Ramage» العاملة مع القوات البحرية اللبنانية والدولية في عملية التفتيش عن الطائرة الأثيوبية المنكوبة، أنه تلقى إشارات بثّّها الصندوق الأسود العائد الى الطائرة المذكورة.
بيان مديرية التوجيه الذي أذاع الخبر أعلن ايضاً أن السفينة المدنية «Ocean Alert» تقوم بمسح أعماق منطقة البث، للعثور على الصندوق الأسود وانتشاله، وسوف يتم تزويد وسائل الإعلام المعلومات المستجدة فور ورودها.
وعلى الرغم من صعوبة العمل في ظل العواصف والأنواء والأمواج العاتية، تواصل العمل مع تحقيق نتائج ملموسة، الى أن أعلن الجيش في بيان صادر عن مديرية التوجيه بتاريخ 2/2/2010، أن مجموعة تابعة لفوج مغاوير البحر تمكّنت من العثور على إحدى الجثث وبعض الأشلاء البشرية على مسافة 5 كلم من شاطئ الناعمة، حيث تمّ تسليمها الى الصليب الأحمر اللبناني بعد اتخاذ الإجراءات القانونية بشأنها.
هذا البيان أعقبه آخر أعلن انتشال مغاوير البحر، قطعة من جناح الطائرة على مسافة 4 كلم غرب رأس الناعمة. وقال البيان ايضاً إن القوات البحرية اللبنانية رصدت بالتعاون مع فريق البحث الفرنسي وفوج مغاوير البحر، مؤشرات حول احتمال وجود بقايا للطائرة في البقعة عينها. على الأثر توجّهت السفينة «Ocean Alert» إلى البقعة المذكورة وباشرت أعمال التفتيش.
واستمرت المهمة بعزم وجهد كبيرين.
وفي 6/2/2010، أعلنت مديرية التوجيه أن «أعمال البحث توصلت الى العثور على أجزاء من حطام الطائرة الأثيوبية المنكوبة، في منطقة التفتيش المعلن عنها سابقاً، وتعمل الوحدات المشاركة على تصويرها لتقييم الوضع بشكل كافٍ تمهيداً لانتشالها».
اليوم التالي (7/2/2010) شهد انتشال الجناحين الخلفيين للطائرة. وفي وقت لاحق من النهار نفسه انتشل مغاوير البحر الصندوق الأسود للطائرة، الذي نقل الى قاعدة بيروت البحرية لتسليمه الى لجنة التحقيق، وعثروا على ثماني جثث للضحايا، وذلك في بقعة العمل نفسها.
في 10/2/2010 أعلنت مديرية التوجيه «أن غطّاسي فوج مغاوير البحر بالاشتراك مع غطّاسي القوات البحرية وفوج الهندسة، تمكّنوا من انتشال قاعدة الصندوق الأسود الثاني التابع للطائرة، وقد تبيّن أن الجزء المتعلّق بذاكرة مسجّل محادثات قمرة القيادة مفصول عنه. وستتابع قوى الجيش العاملة في هذا المجال البحث عنه». إلى أن كان البيان التالي، بتاريخ 16/2/2010، بعد أيام من العمل المتواصل:
تمكّن غطاسو فوج مغاوير البحر والقوات البحرية العاملون في إطار البحث عن ضحايا الطائرة الإثيوبية المنكوبة وحطامها، من العثور على مسجّل محادثات قمرة القيادة التابع للصندوق الأسود الثاني، وقد تمّ تسليمه الى لجنة التحقيق الخاصة بالحادث بعد تحققها منه».
ويستمر العمل أيضاً، ومعه الأمل في استعادة أجساد الأحباء أو شيء منها، ففي استعادتها ومعرفة حقيقة ما حصل قليل من العزاء. أمل معقود على زنود عسكريين شجعان نفّذوا أصعب مهمة يمكن أن تواجههم، وبذلوا أكثر ما في وسعهم للمواساة.