سياحة في الوطن

فخامة الجمال الطبيعي وسحر التاريخ العابق بكثير من الأسرار
إعداد: باسكال معوض

كفرذبيان
“قرية الغزلان” وعيون السيمان المتعاقدة أبداً مع الجنرال الأبيض
بين السماء والأرض تستعرض كفرذبيان فراداتها: من فوق, عيون السيمان المتعاقدة دائماً مع الجنرال الأبيض في تآلف شتوي ­ صيفي... في الوسط, فقرا حيث الجمال الطبيعي في صيغته الفخمة والباذخة. وقرب القلب على مستوى صدر الجبل, الآثار الفينيقية ­ الرومانية ­ العالمية شاهد إثبات على قدم لبنان وغنى تاريخه.
وتذكر بعض المصادر أن لفظة كفرذبيان تعني قرية الغزلان, وذلك في التسمية السامية المنحدرة من السريانية. والواقع أن تاريخ البلدة يعود الى حقبة قديمة, إلا أنه بقي محفوفاً بالغموض بسبب غياب المراجع والأصول الأثرية والتاريخية.
أما في التاريخ الحديث والمعاصر “فالرؤية” تصبح حسنة. ويظهر أن البلدة لعبت في الماضي القريب دوراً مميزاً حين غدت مركز مقاطعة الجرد في عصر المتصرفية (1860- ­ 1914). وقد كانت رائدة في مجال المجالس البلدية, حيث كانت الأولى في تأسيس أول بلدية في منطقة جبل كسروان في العام 1900.
وتشهد على عراقة البلدة وتاريخها التراثي آثار البيوت اللبنانية القديمة ومعاصر الزيتون ومطاحن القمح الباقية في وادي الصليب والحواري الضيّقة القديمة في قلب البلدة.
رحلة فريدة على إيقاع نسمات الهواء الأنقى على أكتاف جبل لبنان...

موقع فقرا الأثري
على ضفاف نبعي اللبن والعسل, وفي إطار طبيعي تجلله الهيبة وتسكنه الرهبة جراء إحاطته بصخور الدولوميت التي تنتصب كغابة من النصب الأثرية, موقع فقرا الأثري الذي كان مجمعاً دينياً منذ أقدم العصور, ويعتبر من أرحب المجمعات الدينية في جبل لبنان وربما أعظمها على الإطلاق.
ثلاثة نصوص عتيقة تعيد حكاية بناء الموقع الى عصور مختلفة؛ فقد نُسب بناؤه تارة الى عبد الملك سليمان في القرن التاسع ق. م, ثم الى عهد البطالسة في القرن الثاني قبل الميلاد, وفي نصوص أخرى أيضاً, أعيد بناؤه الى عصور غير محددة يلفّها الغموض.
وتفيد كتابتان يونانيتان محفورتان, الأولى على عتبة الباب الرئيسي لأحد أبراج الموقع الرئيسية, والثانية على حجر الزاوية يميناً, أن البناء قد تمّ في العام 43. أما معبد أترغاتيس فقد حفرت عليه مجموعة نقوش يونانية تحدد تاريخ بنائه في العام 49.
بني “موقع فقرا” في العصر الروماني على الطراز الكورنثي, وكان يضم مجموعة أبنية ذات طابع ديني وهي كما يلي:
- البرج الكبير: وهو بشكل مربع ويتكون من طابقين, ويقال أن سقفه كان مخروطياً على هيئة الأهرام. ويتم الدخول إليه عبر درج صغير يؤدي الى المدخل الرئيسي الذي كان جيد الإقفال بفضل بابين لا تزال آثارهما واضحة على حجارة المدخل.
ويمكن ولوج البرج عبر درج ينقسم الى مسارين منفصلين لا يلبثان أن يلتقيا عند سطح الطبقة الأولى من البناء؛ وفي الداخل, هنالك غرفة مقفلة بواسطة باب منزلق, ويلاحظ وجود فتحات في جدران البرج كافة, كانت تستعمل لمراقبة أنحاء الموقع ومحيطه.
وعلى جوانب البرج نقشان بالكتابة اليونانية يفيدان أن أهالي المنطقة قدّموا هذا البناء للأمبراطور الروماني تيبيريوس كلوديوس عام 43؛ ويعكس مضمون النقشين حالة من المناوشات والنزاعات التي عاشها الشرق تحت سيطرة الرومان خلال القرن الأول للميلاد. لذا لا يُعلم إن كانت فقرا قد بقيت تحت سيطرة الملك أغريبا أو كانت جزءاً من مقاطعة بيروت أو جبيل, إنما بقيت فعلاً تحت السيطرة المباشرة للأمبراطور كلوديوس كجزء من أراضي الأمبراطورية الرومانية. وفي ظل هذا الواقع التاريخي, قام أهالي المنطقة وعلى نفقتهم ونفقة الهيكل الكبير, ببناء البرج الذي أهدوه للأمبراطور كلوديوس, ما وضع المنطقة برمتها بمنأى عن الصراعات التي عصفت بمقاطعات الشرق كافة.
إن موقع البرج فضلاً عن هندسته المعمارية, له وظائف متعددة. فهو مركز للمراقبة, وخزنة الموقع المحصّنة لحفظ ثروات المعابد الدينية...
وفي الموقع أيضاً مذبح كبير مربّع الشكل قبالة المحل الرئيسي للبرج, ومن المرجح أنه معاصر له. ويبدو التأثر بالفن الفرعوني واضحاً في هندسة حارة الإفريز في محيط المذبح الذي رُمم في فترة الأربعينات.
- المزار: بني على قاعدة مربعة يعلوها رواق من اثني عشر عموداً يحيط بحجر كبير يحمل سقفاً مكوراً على شكل قبّة. وقد نقش على الحجر في الجهة الشرقية, شكل هلال مع أشكال أخرى تآكلت معالمها على مرّ الزمن. وتتبع هندسة بناء هذا المزار تقليداً قديماً يعود الى ما قبل التأثير الهلنستي على الشرق.
- المعبد الكبير: بني على أرض اتخذت شكل المستطيل ويعتبر المبنى الأكثر حفاظاً على معالمه الأساسية من تلك الفترة القديمة. ويتبع بناؤه نمطاً هندسياً سامياً قديماً معروفاً في مواقع أخرى قائمة في لبنان وفي بعض مناطق الشرق عموماً. ترميمه المتأخر تمّ بطريقة غير علمية أساءت للبناء الأساسي. لكن هذا الصرح بقي من المآثر الجليلة إذ عمل البناؤون فيه على نحت الصخر القائم في تلك الأرض, وجعلوه أساساً للمعبد, واستعملوا الحجارة المنحوتة كمواد لبنائها, ولم يتخذوا من الصخر جداراً للبناء الذي يفصله عنه دهليز خارجي من الأعمدة الكورنثية المدمرة. داخل الهيكل فناء داخلي حيث المذبح الذي يحيط به رواق من الأعمدة الكورنثية يزينها ملاكان منحوتان في الصخر. وتؤدي درجات عدة الى فسحة الأعمدة, ومنها الى “قدس الأقداس”. ويقال أن القسمين الأخيرين كانا مسقوفين بالخشب, وأن افريز الهيكل والمراقي التي كان يرتقيها الزوار, والسواري الماثلة في مدخل المعبد كانت فخمة عظيمة الشأن.
وقد عثر داخل المعبد علي مجموعة نقوش يونانية لم تستطع إجلاء المزيد من لغز بنائه؛ فالمقارنة المعمارية للهيكل مع بقية أبنية فقرا الأثرية تدفع الى الإفتراض بأن عملية البناء لم تتم في مرحلة واحدة بل تواصلت خلال حقبات تاريخية عدة.
وذكرت النقوش اليونانية إله الهيكل “بل غلاسوس”, الأمر الذي يدفع الى الإعتقاد بتأثير أيطوري ­ آرامي على الموقع. فإسم “غلاسوس” يعود الى البعل الفينيقي الذي انتشرت عبادته على المرتفعات بحسب تقليد كان متبعاً.
- معبد اترغاتيس: يتبع هذا المعبد نسقاً هندسياً فريداً فهو على شكل مستطيل ذي جوانب متوازية, ويقسم الى ردهتين كبيرتين من دون أروقة, مع باب يفصل بينهما من الداخل. وقد يكون البناء كنيسة عتيقة, أو هيكلاً وثنياً قديماً كما ذكر أرنست رينان في كتابه “بعثة فينيقيا”؛ فهندسته تختلف عن هندسة الهياكل القديمة والكنائس المسيحيــة.
وقد خضع المعبد لتحولات معمارية, بالأخص في الغرفة الداخلية التي تحوّلت في العهد البيزنطي الى غرفة العماد لكنيسة بنيت قربه وظلت قائمة حتى القرن السابع. ويذهب البعض الى التأكيد على كون هذا البناء هيكلاً ينتصب فيه مذبح يشبه مذبح فينوس في بعلبك, ولكنه ليس مثمن الأضلاع, بل يتكوّن من 16 عموداً صغيراً, وقد محيت كل الرسوم والنقوش الكائنة خلف الأعمدة.
وعثر داخل المعبد على نقش يوناني يحدد تاريخ بنائه, ويفيد أن الكاهن الأكبر وأهالي المنطقة بنوا هذا المعبد وقدّموه الى ابنَي الملك أغريبا الأول: جوليوس ماركوس اغريبا الثاني, واخته بيرينيس التي كانت زوجة هيرودوس ملك خلقيس لبنان من العام 41 الى العام 48 للميلاد, كما أشير في النقش الى الآلهة اثرغاتيس التي وصفت بالعربية. وقد أسس الأيطوريون في القرن الثاني ق. م. مملكة خلقيس التي أصبحت سريعاً قوة إقليمية مرهوبة. إنما بعد سيطرتهم على الشرق العام 63 ق. م. أعاد الرومان تنظيم هذه المملكة وقسموها, بحيث أعطى الأمبراطور كلوديوس خلقيس لبنان الى هيرودوس (حفيد هيرودوس الكبير). وبعد موت الأخير في العام 49 ق. م. منحها لحفيده أغريبا الثاني الذي لم يتزوج إنما عاش مع أخته الأرملة. كل هذا يدفع الى ترجيـح سيطرة الأيطوريين على فقرا في تلك الفترة.
تنتشر حول معبد أترغاتيس, وخصوصاً لجهته الجنوبية الشرقية, المقابر المتنوعة الأشكال المحفورة في الصخور, والنواويس, والمغاور المنحوتة من الداخل والمؤلفة من حجرات مدفنية تزينها صلبان على الطراز البيزنطي, ما يعني أنها كانت تستخدم خلال الفترة المسيحية.
وتجدر الإشارة الى وجود أبنية متنوعة, خصوصاً الى جانب معبد اترغاتيس. إنما في غياب المصادر الأثرية والتاريخية والدراسات المختصة, ولعدم التنقيب في المنطقة, يظل الغموض يلف واقع هذه الأبنية ومبررات إقامتها.
ويمكن القـول أن منطقـة فقرا الأثرية قد بنيــت وتوسعــت خلال حقبات مختلفة, لكن من دون أن يكـون ممكناً تحديد زمن بناء كل من الأبنية التي ما زالت قائمة اليوم...

جسر الحجر
ينتصب هذا الجسر الطبيعي متحدياً عبقريات المهندسين القدماء والمحدثين, حتى ليبدو أن يد الخالق حفرته بعوامل الطبيعة عبر الأزمان, فجعلت منه لوحة طبيعية أخاذة تخلب الألباب. وقد اختار هذه المنطقة ليكمل مشهد الجنة الذي يزخر “بالماء” من نبعي اللبن والعسل, و”الخضراء” في إشارة الفيء الوافرة.
جسر الحجر قوس طبيعي يرتفع عن مجرى مياه نبع اللبن نحو 58 متراً بفتحة تبلغ 38 متراً وبطول 65 متراً وعرض 45 متراً, وتسير مياه النبع منحدرة كشلال في الوادي السحيق.
وقد تمت إنارة هذا الموقع فأصبح ممكناً التمتع بمنظره الرائع ليلاً. والجدير ذكره أن الوادي الذي تحت الجسر يزخر بالمتحجرات البحرية المتنوعة الأشكال والأجناس.

التزلج... في كفرذبيان
غير بعيد عن آثار فقرا, في الأعالي, تقوم منطقة عيون السيـمان التي أسس فيها مركز عيون السيمــان للتزلج فوق كفرذبيــان في العام 1957, ثم تأسـس مركز ثان جديد سمي بإسم المنطقة “الوردي” في العام 2000. ويعتبر هذان المركزان من الأكثر شهرة في لبنــان من الناحية السياحية وهما مجهزان بمصاعد كهربائيــة لارتقاء القمم, تكــون متاحة لهواة التزلـج طوال فصل الشتاء.
وتقوم في منطقة عيون السيمان فنادق ومطاعم فخمة يديرها نخبة من الإختصاصيين. ولقد أصبح مركز عيون السيمان بمحطتيه الجديدة والقديمة, وبمبارياته الرياضية الشتوية, محط أنظار وإهتمام محلي وإقليمي ودولي, ويشكّل نقطة جذب سياحية مميزة.

نادي فقرا
على مجموعة تلال قبالة آثار فقرا, تأسس في العام 1973 مركز سياحي خاص يضم شاليهات وفيلات فخمة ويجتذب إليه فئة محلية وإقليمية وعالمية معينة, إنه نادي فقرا المجهز أيضاً بالمصاعد الكهربائية والفنادق والمطاعم الفخمة, وهو يتمتع بحماية أمنية خاصة بحيث يبدو كقرية صغيرة داخل بلدة كفرذبيان.

البلدة والبلدية وغابة أرز باسم قائد الجيش
للإضاءة على واقع المنطقة وما ينفذ فيها من مشاريع, إلتقت “الجيش” رئيس بلدية كفرذبيان المهندس جان عقيقي الذي قال: بلدتنا زراعية أولاً وأساساً وذلك لوفرة مياه الري فيها, والتي مصدرها الأساس نبعا اللبن والعسل وعيون نبع الساقية والجوزة والتينة والسنديانة والقطارة والعروس والغصين والنصراني والبرمل وعين جبال.
وتنتج بلدة كفرذبيان جميع أنواع الفاكهة التي تزرع في المناطق العالية, ولا سيما التفاح بحيث تنتج سنوياً نحو 300 الف صندوق منه سنوياً. وفي بعض المناطق المنخفضة في البلدة تنتشر زراعات مختلفة تتم داخل البيوت البلاستيكية من خضار وبقول, إذ أن الأرض خصبة جداً وتصلح لجميع الزراعات. أما في المناطق البرية فتكثر أشجار السنديان والعفص والصنوبر البري بحيث تشكل بلدة كفرذبيان تكاملاً زراعياً مثمراً وحرجياً مميزاً.
في كفرذبيان صناعات صغيرة ومنها مصنع عرق فقرا وبعض الصناعات البيتية الصغيرة “المونة” أي المؤونة من خلّ وكشك وأصناف العصير والمربيات. ونسعى لإقامة معارض محلية دائمة لتصبح مورداً دائماً لربات البيوت.
أجريت في العام 1999 الإنتخابات البلدية مرة ثانية بعد الإنتخابات الأولى, وعلى أثرها انتخبت 15 عضواً على رأسهم الرئيس الحالي. وباشرت البلدية المنتخبة برنامج عمل مكثّف إبتدأ بتأهيل الشارع العام في البلدة فتم تزفيته وصيانة وترميم الأرصفة وتشجير جوانب الطرقات وإنارتها؛ وتم إكمال المشروع الصحي, وتأهيل الطرقات الزراعية لتسهيل عمل المزارعين في أرضهم.
أما المشروع الأكثر بروزاً فهو بناء قصر بلدي جديد يليق بالبلدة وسكانها, ويضم مكتبة عامة تحوي 2500 كتاب للصغار والكبار معززة بأجهزة كومبيوتر متصلة بالإنترنت, وذلك بمساهمة من مجموعة الدول الفرنكوفونية, وبإشراف لجنة لتنشيط المكتبة. وأما المشاريع المستقبلية أمام البلدية فتتضمن أولاً إستدراج عروض لبناء محطات لتكرير مياه مجاري الصرف الصحي بمساهمة من البلدية ومن أهالي البلدة, والمشروع الثاني, من حيث الأهمية هو بناء المدرسة الرسمية المقرر إنشاؤها قريباً.
أخيراً وقبل أن نغادر البلدة, يشار إلينـا الى أن أعالي عيون السيمـان توجـت بغابة أرز حديثة تضم 500 غرسة وتحمل إسم قائد الجيـش العماد ميشال سليمان عربون تقدير ومحبة.

بطاقـــة
تضم بلدة كفرذبيان 3600 بيتاً و15 كنيسة وديراً بنيت بمعظمها بين القرنين 16 و20. وفي هذا الإطار الأثري يعيش حوالى 12 ألف من سكان البلدة وهم من عائلات: عقيقي, سلامه, زغيب, مهنا, بطيش, صقر, صفير, بعينو, حداد, مخلوف, مبارك, الخازن وبعلبكي.

وزير مالية كلوديوس بنى البرج الكبير
في كتـاب “عالم رومـا” للـمؤرخ “ميـشال غرانـت”, ورد ذكر لسبب بناء البرج الكبير في فقرا. إذ إتخذ القيصر كلوديوس وزراءه وحاشيته من الشعوب التي اكتسبت حريتها المدنية. ومن بين هؤلاء, اختار ثلاثة وزراء, الأول وهو وزير المالية ويدعى “بعل بالاس”, وكان من المغتربين الفينيقيين الذين تدفقوا كالسيول على العاصمة الرومانية. وقد أشار إليهم الشاعر الروماني جوفنال في إحدى قصائده بقوله ما معناه أن “نهر العاصي يتدفق بغزارة في نهر التيبر”.
وكان هذا الوزير الفينيقي وقتئذ أغنى رجل في روما, أما الثاني فهو وزير الخارجية نرسيس, والثالث كاليستوس وهو يوناني. وكان وزير مالية الأمبراطور كلوديوس المسؤول الأول عن الأبنية والإنشاءات التي يأمر الأمبراطور بإنشائها. وهو الذي نفّذ مشيئة الأمبراطور بإقامة البرج الكبير, وبذل في بنائه أقصى العناية, حتى جاء على أفضل ما يمكن للأبراج أن تكون...