قصة قصيرة

فدا عينيك يا ولدي
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

هذه المرّة لم يأتِ وسيم إلى مدافن الغرباء في ذكرى رحيلها بباقة ورد فقط كما كان يفعل في كلّ المرّات السابقة. الباقة وضعها عند الباب الحديديّ الذي حاصر الصدأ ما بقي من طلائه الأسود العتيق، وجلس في فيء شجرة السرو العظيمة التي تظلّل القبر، وبسط فوق ركبتيه شهادته التي نالها بدرجة امتياز من الجامعة الرسمية في جراحة التجميل، وأخذ يقول: «أنظري يا أمّي. لقد حصّلتُها بفضل تعب يديكِ، وسهر عينيكِ، وصدق صلواتك». ثم اضمحلّت الابتسامة عن شفتيه، واغرورقت عيناه بالدمع: «لَكَم كنت أتمنّى أن أصبح جرّاحًا قبل أن يرفعكِ الله إليه، كي أُزيل تلك التشوّهات التي أخذت بنضارة وجهك ونقاء بشرتك!... ماذا تقولين؟ أعرف يا أمّي. أعرف أنك كنتِ سعيدة بها لأنها أنقذتكِ فأنقذتِني... كيف تسألين يا أمّي! بالتأكيد ما زلتُ أحفظ وصيّتك، تلك التي طالما ردّدتِها على مسمعي: لا يخدعنّكَ الجمالُ الظاهر يا ولدي. أنظرْ دائمًا بعين قلبك إلى ما خفي عن ناظريك من قبح وجمال».
أراح ظهره إلى جذع الشجرة الهرمة، وأغمض عينيه؛ فهبّت نسمة رقيقة مضمّخة بعطر شجيرات الوزّال القريبة؛ فأحسّ ببرودتها على وجهه. ومن غير إرادة منه رفع يده إلى خدّه الأيمن يتلمّسه بأصابعه، وعلَتْ ثغره ابتسامة ذابلة عندما عادت به الذكرى إلى يوم قديم مضى.
في ذلك اليوم قبل أكثر من عشرين عامًا عاد ابن الثمانية من المدرسة مطأطئًا رأسه جارًّا قدميه، وفي يده كرتونة حمراء تحمل معدّلات علاماته المحصّلة خلال السنة. «دعني أرى»، أمرت «سلمى» أمّه، وتناولت الكرتونة بعدما رفعها وسيم إليها بيد نصف ممدودة. ولما نظرت فيها، جفّ حلقها، وتقطّب جبينها، وقفز الغضب إلى عينيها؛ فما كان منها إلا أن صفعت ابنها على خدّه الأيمن صفعة غير كافية لتجعله يندم على تقصيره. وبدلًا من أن يدير لها الأيسر أيضًا، مضى إلى الداخل ساترًا خدّه بيده، واستقرّ أمام المرآة، وقرص جلده بشدّة حتى احمرّ، وخرج متباكيًا: «أنظري ما فعلتِ بي. أبهذه القسوة تضرب الأمّ ولدها!؟». ولما أبصرت سلمى احمرار خدّه، اندفعت نحوه تضمّه إلى صدرها وتقول بصوت يحاكي البكاء: سامحني يا ولدي. ليكسر الله يدي.
لا، لم يكن وسيم مجتهدًا في دروسه. ولقد أعيت والديه الحيلة والوسيلة لحمله على الاجتهاد؛ فبقي كارهًا كلّ ما يمتّ إلى العلْم بِصلة من الكتاب إلى الدفتر والقلم والمدرسة والمعلّم. حتى اللون الأزرق كرهه لأنه كلّما رآه ذكّره بمريوله.
- عليك أن تجتهد وتتعلّم، قال الأب؛ فالعلم مفتاح النجاح في الحياة.
- إسمع كلام أبيك يا ابني، قالت الأمّ. الحياة غدّارة، لا يمكن مغالبتها إلا بالسلاح. وخير سلاح العِلم.
إلا أن هذا الكلام لم يكن ليُقنع وسيمًا. ولا حتى قضيب الخيزران في يد أبيه أقنعه. لقد كان يؤمن بالحظّ. فمَن كانت الدنيا عليه، لا عِلم ينفعه. ومَن كانت معه، لا يحتاج شهادته. وخير مثال على ذلك كان أباه. لقد حصل على شهادة في الهندسة. لكنه لم يستفد منها في شيء. لقد عمل في التجارة، وأصاب ثروة طائلة بنى بها قصرًا هو هذا الذي يعيشون فيه عيشًا رغيدًا، وكلّ ما يتمنّونه في متناول أيديهم.
* * *
ومرّت من الزمن سنتان كانت السعادة في أثنائهما تنسحب رويدًا رويدًا من القصر الذي أقامت فيه طويلًا. والشقاء الذي كان يتسلّل من النوافذ كاللصّ، بات في الأيّام الأخيرة يدفع الباب العريض بقدمه ويدخل. وإن غادر، فليوم أو يومين، ثم يعود زائرًا ثقيلًا، إلى أن أصبح من أهل البيت، بل سيّده وحبيسه. وفي الحكاية أن كاملًا، أبا وسيم، دُعي يومًا إلى عشاء عمل في مطعم فخم. وهناك تعرّف إلى سيّدة من سيّدات «المجتمع المخمليّ» يُقال لها «فيفي». فيفي هذه فتنته وخلبت لبّه؛ فما عاد يستطيع أن يلملم نظراته عمّا يكشفه ثوبها القصير من جسمها الجميل وقدّها الرشيق. ولا كانت أذناه تلتقطان من الأصوات في تلك الأمسية إلا نغمة صوتها ورنّة ضحكاتها. بعد ذلك بات يمضي أكثر الليالي في الملاهي يقرع بكأسه كؤوس ندمائه الذين لم تكن سهرتهم لتحلو إلا إذا حضر أبو وسيم، وراح يلقي المُلَحَ والنوادر بأسلوبه الظريف، ولا ليله ليطيب إلا إذا كانت فيفي حاضرة. وكم مرّة دعوه ولم يذهب لأن فيفي اعتذرت! وهكذا، وبعدما كان يؤوب من عمله إلى بيته محمولًا على أجنحة الشوق لزوجته، أصبح يكره القصر كره السجين سجنه والطائر قفصه.
ذات ليلة، وكانت السهرة برفقة الأصحاب عامرة، أخذت فيفي بين شفتيها الممتلئتين سيجارًا أشعلته، وارتمت إلى جانب كامل لصيقة به، ومالت نحوه، وقرّبت السيجار من شفتيه؛ فتناوله سعيدًا مغتبطًا.
- أتعرف يا كامل؟ قالت فيفي. أنا حقًّا أشفق عليك.
- تشفقين عليّ!؟ سأل متعجّبًا، وأضاف كمَن يتهيّأ للضحك: ولمَ تشفقين! أترين أنه ينقصني شيء!
- أجل. ثمّة شيء ينقصك.
- أوضحي يا فيفي. قولي ما تريدين قوله بصراحة.
- ما ينقصك هو...
وامتنعت عن الكلام؛ فجذب أحدهم طرف الحديث، وقال: ما ينقصك يا كامل هو... بصراحة... امرأة... أعني سيّدة مجتمع.
وقبل أن يفتح كامل فمه بكلمة، تولّى آخر الكلام. قال: إن صديقينا لعلى حقّ يا كامل. كلّنا يعرف أن أمّ وسيم ربّة بيت فاضلة. لكنك رجل معروف يا أخي. وتحتاج إلى امرأة تعرف كيف تستقبل الزوّار وتتحدّث إلى الناس. أعني سيّدة مثقّفة لها مكانتها في المجتمع.
لم ينبس كامل ببنت شفة. وبعد دقائق قليلة ودّع أصحابه ومضى إلى بيته، وكان الليل قد انتصف أو كاد. وإذا كان الكلام الذي سمعه قد ذهب ببعض عقله، فإن فيفي قد سلبته كلّ ما بقي منه.
دخل، وإذا سلمى تنتظره. لقد غالبت النعاس حتى يعود. دنت لتطبع قبلة على وجنته وتخلع عنه سترته كعادتها؛ لكنه صدّها، وتابع إلى غرفته؛ فلحقت به.
- إلامَ تنظرين!؟ سأل وهو يفكّ ربطة عنقه.
- هل ثمّة ما يضايقك يا حبيبي؟ هل أخطأتُ بكلمة أو تصرّف وأنا لا أعرف؟ قل لي؛ فأعتذر. صارحني؛ فأطلب السماح.
هكذا قالت، ودنت منه لتحيط خاصرتيه بذراعيها وتريح رأسها على كتفه. لكنه صدّها ثانيةً.
- ما الأمر يا حبيبي!
- لا تقولي حبيبي.
- حسنًا. يا عزيزي. يا زوجي.
- كانت ساعة نحس. ساعة تخلٍّ.
ظنّت سلمى أن أمرًا ما في العمل ساء زوجَها ودفعه إلى مثل هذا الكلام وهذا التصرّف؛ فتراجعت، ومضت إلى غرفة وسيم تنام إلى جانبه، وتضمّه، على أمل أن يطلع الصباح، وتجوز غمامة الصيف بسلام. لكنّ الصباح أطلّ على سماء تحجب غيومها السود وجه الشمس.
ها هي سلمى تأتي بالقهوة إلى غرفة النوم حيث كان كامل ما يزال في سريره ينظر إلى الخارج عبر النافذة بعينين زجاجيتين، ويفكر. ألقت عليه التحية؛ فلم يردّ. سكبت القهوة، وجلست في السرير إلى جانبه.
- هذه قهوتك يا حبيبي.
- لا أريدها. اشربيها أنتِ.
- ألا تخبرني بما يزعجك يا كامل؟
- أمصرّة أنتِ على أن تعرفي؟
- بالتأكيد. ألست زوجتك!
- ما يزعجني... هو أنتِ.
- أنا!؟
- أجل. هي الحقيقة.
لم تصدّق سلمى ما سمعت أذناها؛ فلوت رأسها فوق صدرها، وشعرت بأن أحزان الخليقة كلّها قد تسلّلت إلى قلبها. وبعد صمت طويل، نظرت إلى زوجها بعينين غارقتين بالدمع: «لماذا تقول مثل هذا الكلام يا كامل!...ألأنني لم أنجب لك غير ولد واحد، بتَّ تكرهني!؟».
- حمدًا لله أنكِ لم تنجبي إلا غبيًّا واحدًا يشبهكِ. مَن كان ليضمن أن الثاني لن يكون مثلكِ أيضًا؟
- أمِن قلبك يخرج هذا الكلام يا كامل؟
- بل من صميم قلبي.
- طلّقني إذًا. أجل طلّقني، وتزوّج بامرأة لديها العِلم والفهم، والحرص على بيتها أكثر مني.
هكذا قالت ونزلت عن السرير جاهدةً في حبس دموعها خلف أجفانها. وقبل أن تخرج، قال كامل بصوت عالٍ: سوف أفعل إن شاء الله.
* * *
بات كامل يلتقي فيفي كلّ مساء، ويقضي معظم الليل بصحبتها، ويغرقها بالهدايا الثمينة. أما سلمى فأخذ يعاملها معاملة السيّد جاريته، ولا يكلّمها إلا أمرًا ونهيًا. ولما لم يعد لها على التحمّل قدرة وعلى الصبر طاقة، طلبت منه الطلاق وبإلحاح هذه المرّة.
- ووسيم؟ سأل.
- آخذه معي. إنه يحتاج إليّ بعد.
- لا. الصبيّ يبقى في رعايتي.
- لكن ستسمح له بأن يخرج برفقتي من وقت لآخر، اليس كذلك؟
- نجوم السماء ستكون أقرب إليكِ من هذا. متى خرجتِ من هنا، فلن تراه عيناك أبدًا.
هذا الحوار تناهى إلى مسمعي وسيم في غرفته؛ فخرج باكيًا، ولاذ بأمّه: «لقد صرت أكره هذا البيت. إن خرجت أمّي منه، فسأذهب معها». وما لفظ كلمته الأخيرة، حتى استدار أبوه نحوه، ووجّه إليه صفعة شديدة: «أنت غبيّ مثلها». ثم انهال عليه ضربًا وركلًا: «لقد رضعتَ الحماقة منها، وورثت الخساسة من أخوالك». فاندفعت الأمّ تحمي ابنها وتتلقّى الضربات عنه، وتصرخ: أخواله رجال شرفاء تحلف الناس بحياتهم. أما أنت...
- أنا ماذا؟ قولي يا حقيرة.
- إفتح أذنيك واسمع ما يقوله الناس فيك، تعرف مَن أنت وما أنت. أتظنني أجهل قصّتك مع عاهرتك، ابنة الشوارع، المسمّاة فيفي!؟ عرفت وسكتت لعلّ ضميرك يردعك. لكن كيف يرتدع مَن لا ضمير له!
- أنتِ طالق. أسمعتِ؟ طالق، طالق.
- لن أخرج من هنا إلا وابني برفقتي.
- إن كنتِ تريدينه، فوقّعي هذا التعهّد بأنكِ تتحمّلين مسؤولية رعايته. قال وهو يُخرج من جيبه وثيقة كان قد أعدّها مسبقًا، ويضرب المنضدة بها، ويناول سلمى قلمًا.
- هات. قالت، وأخذت القلم ووقّعت؛ فطوى كامل الوثيقة، ودسّها في جيبه: «الآن هيّا اخرجي من بيتي».
- هيّا يا وسيم، قالت. أدخل ووضّب ملابسك وكتبك في الحقائب.
وما استدار وسيم ليدخل خلف أمّه، حتى اعترضه أبوه بيده: «لا. أنت تبقى هنا معي». ثم أخذ سلمى من يدها ودفعها عبر الباب. ثم جمع فساتينها وملابسها كيفما اتّفق في حقيبة واحدة، ورماها خارجًا: «إن كان لكِ عندي شيء أتيتِ به من بيت أبيكِ، فخذيه أيضًا معك». لكن عزّة نفس سلمى منعتها من أخذ الحقيبة أو الالتفات إلى الوراء؛ فمضت، وأخذت تبتعد، ونداء ابنها وبكاؤه يتلاشيان في مسمعها شيئًا فشيئًا.
عندما بلغت الطريق العامّ، استقلّت حافلة متّجهة إلى المدينة، وألقت بنفسها على مقعد في المؤخّرة حيث لا ركّاب من حولها، وشبكت ساعديها على مسند المقعد الذي أمامها، وأراحت عليهما رأسها، وأغمضت عينيها. لم تكن غاضبة، لكن حزينة حتى الموت، وعاتبة على الحياة التي أعدّت لها هذا المصير.
طوال الطريق كانت تفكّر في وسيلة تستعيد بها ابنها، تستعيد روحها التي تركتها داخل جدران القصر وخرجت من دونها. لكنها لم تهتدِ إلى أيّ وسيلة. كلّ السبُل بدت مسدودة في وجهها.
بعد مسير نصف ساعة ترجّلت وهي لا تعرف إلى أين تذهب. هي غريبة في هذه المدينة، بل في هذه البلاد. كامل أتى بها إليها بعد زواجهما بشهر واحد. هنا كان يعمل منذ سنوات في تصدير بعض الإنتاج الصناعيّ إلى لبنان. وقد تأقلم سريعًا مع المجتمع الجديد. أما سلمى فكانت لا تزور أحدًا ولا تعرف أحدًا. شغلها الشاغل كان بيتها، وتربية ولدها، وانتظار زوجها حتى يعود من العمل.
ليلة وصولها إلى المدينة مع غياب الشمس، نامت تحت أحد الجسور مفترشة التراب. وعندما بزغ الفجر، نهضت، وراحت تبحث من حيّ إلى حيّ عمّن يريد خادمة في بيته. ولمّا لم تجد ضالّتها، خرجت إلى ضاحية المدينة؛ فقادتها قدماها إلى مزرعة بدأت تعمل فيها في ما تقدر عليه لقاء أجر يكفيها مؤونة مدّ اليد للناس، وكوخ خشبيّ تأوي مساءً إليه.
عندما غادرت البيت ولم يكن معها إلا الثوب الذي يكسوها، كانت تأمل أن يبحث كامل عنها ويعيدها. لكن بعدما مرّ شهر وبعض الشهر ولم يفعل، قرّرت أن تأخذ منه حقّها الشرعيّ، ثم تستعيد ابنها، وتعلّمه ليصبح رجلًا تفخر به؛ فهو أملها الوحيد الذي بسببه ومن أجله ما زالت تكافح.
قصّت حكايتها على صاحب المزرعة، وطلبت مساعدته؛ فرقّ لحالها. وكان عجوزًا صالحًا يناصر الحقّ، ويقف في صفّ صاحبه. لذلك طلب من محاميه رفع ظلامة المرأة إلى القضاء على نفقته. ولما حان موعد الجلسة، حضر المحامي، وواجه خصمه أمام القاضي، ولكن... بغير سلاح؛ فعاد مهزومًا يجرّ أذيال الخيبة.
- أستطيع أن أقرأ الحزن على محيّاك. ما الحكاية؟ سأل العجوز في حضور سلمى.
- لقد أبرز خصمي للمحكمة وثيقة خطّية تتنازل فيها السيّدة أمّ وسيم عن كامل حقوقها لقاء طلاقها من زوجها.
- ماذا! غير معقول، صرخت سلمى. لقد خدعني إذًا... يومذاك قال إنه إقرار بتحمّلي مسؤولية ابني إذا أخذته في عهدتي. هكذا قالت، ووضعت أصابعها على شفتيها المرتعشتين، وفارت الدموع من عينيها.
- هل تستطيع أن تفعل شيئًا؟ سأل العجوز... هذه خديعة.
- القانون لا يحمي المغفّلين يا سيّدي.
- أنا أكثر من مغفّلة. إني حمقاء. وقّعت من غير أن أقرأ.
- لا بدّ من إيجاد مخرج ما، قال العجوز بإصرار.
- سأرى ما بإمكاني أن أفعل.
ومرّت الأيّام والشهور، وتعدّدت الجلسات والمرافعات أمام قوس المحكمة من دون جدوى لأن في هذه الأرض أيضًا مَن هم أقوى من القانون. فنسيت سلمى القضية، لكن أنّى لها أن تنسى حقّها الذي لا يعادله كلّ مال الأرض وذهبها! كيف تنسى ابنًا حملته في أحشائها، غذّته من دمائها، ولدته بأوجاعها، وهزّت سريره يمناها!
ذات صباح، وكان الشوق قد استبدّ بها ولم تعد تستطيع صبرًا، ارتدت فستانًا عتيقًا، وودّعت العجوز ومضت بعدما زوّدها بالقليل من المال والكثير من الدعاء، واستقلّت الحافلة إلى البلدة التي غادرتها قبل سنة، وقصدت البيت الذي طُردت منه. وبعدما غطّت بالنقاب وجهها، قرعت الباب لتفتح لها سيّدة شقراء.
- ماذا تريدين؟ انصرفي، قالت السيّدة بصلف، وهمّت بردّ الباب.
- لستُ أريد صدقة يا سيّدتي. جئت أسأل إن كنتم تريدون خادمة تخدمكم.
- خادمة؟... أجل، أجل...أقصد هل تحسنين غسل الثياب وكيّها، وجلي الصحون و...
- أستطيع أن أقوم بكلّ أعمال البيت. جرّبيني يا سيّدتي، وأعدكِ بأنك لن تندمي.
- مَن في الباب؟ سأل كامل وهو يقترب يتبعه وسيم. ولمّا وقع نظر الأمّ على ابنها، خفق قلبها، وأفلت من بين ضلوعها يتمرّغ على قدميه، يقبّل يديه، يدور حوله يحتفّ به. وكادت أن تسقط على ركبتيها وتفتح له ذراعيها، لكنها جالدت، ومنعت الدموع من تجاوز أجفانها.
- جاءت تعرض علينا استخدامها، قالت السيّدة.
- ألم أعدكِ يا فيفي يا حبيبتي بأن أقصد غدًا أحد المكاتب وأطلب واحدة!؟
- قد يتأخّر مجيئها لشهر أو أكثر. أيهون عليك أن أقوم بكلّ أعمال البيت وحدي كلّ هذه المدّة يا حبيبي!؟ قالت جملتها الأخيرة بغنج، فيما ازدردت سلمى ريقَها، وانعقد حاجباها؛ فقالت في سرّها: أنتِ هي فيفي إذًا. بئس زمان تصبح فيه السيّدة جارية في بيتها، وابنة الملاهي سيّدة فيه.
- لكِ ما تريدين. قال كامل. فيما تبعت سلمى سيّدتها إلى الداخل. ولما سألتها عن اسمها، أجابت:... مؤمنة.
«لكِ عون الله ورحمته يا سلمى. منذ الآن عليكِ أن تطيعي الأوامر، وتتحمّلي الإهانات وتسكتي». هكذا ردّدت أمّ وسيم في سرّها. «ولكن لا بأس. ليكن ذلك فداء عينيك يا ولدي».
الدموع الخرساء كانت رفيقتها في مخدعها كلّ مساء. والصلاة وحدها كانت مبعث كلّ أمل ورجاء. كم مرّة حمّمت وسيمًا، ولفّته بالمنشفة، وألبسته ثيابه، وسرّحت شعره من غير أن تضمّه وتقول له: تعال إلى حضن أمّك يا حبيبي! كم مرّة غسلت مريوله بدموعها، وكوته بحرارة محبّتها، وقبّلته سرًّا مخافة أن يراها أحد!
كانت سلمى حريصة كلّ الحرص على تغيير نغمة صوتها كلما كلّمت أحدًا من أهل البيت. كذلك كانت حريصة على ستر وجهها بالنقاب حتى أسفل عينيها كلما خرجت من مخدعها. آه ما أظلمكِ أيتها الحياة! الوجوه الجميلة التي تحاكي البدر إشراقًا والورود نضارة، تستتر بالبَراقِع. وكم من وجه سافر تنبو عن بشاعته الأنظار، كان أولى بأن يستتر!
* * *
كان صباح ذهب فيه وسيم إلى المدرسة وفيفي إلى السوق. وبينما كانت «مؤمنة» تقدّم لكامل فنجان القهوة وتضعه على المنضدة إلى جانبه، التقط معصمها، وقال بتودّد: «أراهن على أن وجهك جميل؛ فلمَ تحجبينه!». إذ ذاك ارتعدت فرائصها خوفًا، وراح قلبها يضرب جنبات صدرها؛ فتملّصت بلباقة، وتراجعت خطوة إلى الوراء، ثم أحكمت شدّ اللثام وهي تقول: إن لي وجهًا مشوّهًا لن ترغب في رؤيته يا سيّدي.
عادت إلى مخدعها، وأوصدت الباب خلفها، وتقوقعت في سريرها ترتجف نظير ورقة صفراء في مهبّ الريح، وراحت تفكّر في وسيلة تبعدها عن الشرّ الذي بدا لها متربّصًا بها. أتهرب قبل أن يُفتضَح سرّها؟ لا. لن تستسلم. لن تبرح هذا المكان لتحيا حياة بائسة بعيدًا عن ابنها مرّة ثانية. ولكن ما العمل؟ سيّدها لن يكفّ عن التحرّش بها. كلّما صدّته، سيزداد إصرارًا. ومَن يدري؟ قد يُكرهها على رفع حجابها. عندئذٍ ستكون في موقف لا تُحسد عليه.
تلك الليلة لم يغمض لها جفن. كانت الأفكار تأخذها بعيدًا وتعيدها. كلّ السبُل بدت مسدودة في وجهها. وأخيرًا اهتدت إلى ما عليها فعله. ثمّة أذية ستلحق بها. لكن لا بأس؛ فمن أراد قطف الوردة، لا يعبأ بأشواكها.
في الصباح الباكر استأذنت سيّدها، وذهبت إلى السوق تسأل عن حاجتها من حانوت إلى حانوت حتى اهتدت إلى مرادها؛ فابتاعت ما يكفيها في زجاجة صغيرة، وعادت إلى القصر على جناح السرعة، ودخلت مخدعها، واستقرّت أمام المرآة تحدّق في وجهها الجميل، وتبكي بصمت: «فدا عينيك يا ولدي».
فتحت القارورة، وسكبت منها على خرقة، وبيد مرتجفة مسحت خدّها وجانبًا من عنقها، وكادت تصرخ ألمًا لولا أنها تماسكت. وبلحظة واحدة احترقت بشرتها وتغضّنت. آه! لقد فعل ماء التوتياء فعله.
لم يتراجع كامل عن محاولة الفوز بمؤمنة. فانتهز بعد يومين فرصة غياب وسيم وفيفي، وناداها لتساعده في ارتداء سترته. ولمّا أتت، أمسك ذراعها وشدّ ناحيته برفق: «لماذا تهربين مني؟».
- أتركني أرجوك.
- دعيني أرى وجهك وثغرك.
- أما قلت لك إن لي وجهًا بشعًا لن تُسَرّ في رؤيته!
- لا أصدّقك. لا بدّ من أن هاتين العينين النجلاوين تتوسّطان وجهًا نضرًا.
ساعتئذٍ فكّت مؤمنة الحجاب، وكشفت الجانب المشوّه من وجهها؛ فما كان من كامل إلا أن أشاح مغمضًا عينيه عاقدًا حاجبيه: «انصرفي. قبّح الله وجهك أكثر ممّا هو قبيح».
انصرفت مؤمنة غير مستاءة، وشكرت الله على نجاتها، وعادت إلى مزاولة أعمالها مطمئنّة. ومضت الأيّام رتيبة حتى مرض وسيم وانقطع عن المدرسة.
استولى الحزن والقلق على مؤمنة؛ فأخذت تعتني به، وتعطيه دواءه بانتظام، ولا تخرج من غرفته إلا لإحضار طعامه وغسل ثيابه.
ذات مساء، وكان وسيم ما يزال مريضًا، سألت فيفي كاملًا: ألا نخرج لتناول العشاء برفقة بعض الأصدقاء؟
- كيف نترك وسيمًا بهذه الحال!
- لا بأس عليه ما دامت مؤمنة إلى جانبه.
- ولكن...
- أشعر، داخل هذه الجدران، بضيق شديد حتى لأكاد أختنق. لنخرجْ، أرجوك.
- حسنًا. هيّا بنا.
بدّل ملابسه، وخرج وزوجته، فيما بقيت مؤمنة إلى جانب وسيم عينًا ساهرة، وقلبًا نابضًا بالحنان.
في تلك الليلة طلب وسيم من مؤمنة أن تنام إلى جانبه؛ فنزلت عند رغبته سعيدة، واحتضنته، وضمّته إلى صدرها، وسرّحت شعره بأصابعها. يا لفرحها! لقد كانت تنتظر هذه اللحظة كما تنتظر الزهرة الذابلة أولى قطرات المطر.
بعد تنهيدة طويلة، قال وسيم ومسحة من الحزن تغشى محيّاه: ما أشبهكِ بأمّي! تخافين عليّ، تحزنين لحزني، وتفرحين لفرحي. تعرفين ما أحبّ وما لا أحبّ من غير أن أخبرك... آه كم أنا مشتاق إليكِ يا أمّي، وكم أتمنّى لو انني الآن معكِ أينما كنتِ!
كانت مؤمنة تصغي ودموعها تسقي وجنتيها. ولما طلب منها وسيم أن تريه وجهها، أماطت اللثام من غير تردّد عن الجانب السليم من وجهها؛ فأخذ وسيم يتحسّسه في ضوء المصباح الخافت: «ووجهكِ أيضًا يشبه وجهها. لكأنكما توأمان حقًّا».
- أنا... قالت، وخنقت العبرات صوتها. ثم جالدت وتابعت: أنا هي... أمّك يا ولدي.
- أمّي!!!
- أجل يا حبيبي، قالت وهي تبكي وتوزّع قبلاتها بين وجنتيه وعينيه ومفرق شعره. ثم أخبرته بكلّ شيء إلا قصّة تشوّهات وجهها. قالت له إنها احترقت بألسنة نار شبّت في المزرعة التي كانت تعمل فيها.
بكى وسيم لبكاء أمّه: «كنت أعرف أنك ستعودين. قالا لي إنك تخلّيت عني. لكنني لم أصدّقهما. قلبي حدّثني بأنني سألتقيكِ لأبقى معك».
لم ينتصف الليل إلا كانت الوسادة قد سمعت كلّ حكاياتهما، وشربت الكثير من دموعهما. وفجأة نهض وسيم من سريره، وأخذ يد أمّه: «قومي».
- إلى أين يا حبيبي؟
- سنهرب معًا. الآن وتحت جنح الظلام.
- لا يا بنيّ. لا أريد لك حياة البؤس والعذاب. دعنا نبقى هنا فأكون أمّك وخادمتك.
- لا يا أمّي. إنّ كوخًا أعيش فيه بقربك، لأحبّ على قلبي من قصر صرتُ أكرهه لأنك لست فيه معي.
نهضت سلمى مدفوعةً بشعور جميل يجتاحها. بعد اليوم لن تكون «مؤمنة». إنها سلمى أمّ وسيم. نهضت ووضّبت وابنها بعض الملابس في حقيبتين على عجَل، وحملاهما وخرجا سيرًا على الأقدام إلى الطريق العامّ. ومن هناك استقلاّ حافلة إلى المزرعة؛ ففتح لهما الحارس، وأعطاهما مفتــاح بــاب الكــوخ.
سُرّ العجوز بعودة سلمى. لقد كانت تعطف عليه، وتُعدّ له طعامه، وتزوّد خادمته ببعض الإرشادات المتعلّقة بإدارة المنزل، وتطلب منه بإلحاح أن يتناول دواءه بانتظام، ويمتنع عن تناول ما يضرّ بصحّته من طعام. وكان دائمًا يبتسم ويمتثل. ولم يمضِ طويل وقت حتى دعاها وابنها إلى السكن معه في بيته الذي خلا منذ زمن بموت زوجته وسفر أولاده. وتعهّد بتعليم وسيم في مدرسة رسمية قريبة، ودفْع كلّ نفقة لازمة.
دأب وسيم على الذهاب إلى المدرسة كلّ يوم من غير انقطاع. وبعدما كان مقصّرًا يكره الكتاب، انقلب مجتهدًا يلتهم العِلم التهامًا. لم يكن دافعه الخلاص من حياة البؤس فحسب. كان يطمح إلى أن يصبح طبيبًا مختصًّا في جراحة التجميل؛ فيصلح ما شوّهته مياه التوتياء في وجه أمّه ليعود مشرقًا ونضرًا مثلما كان. الآن هو يعرف كلّ الحقيقة. العجوز أخبره بها.
غداة اكتشاف غياب وسيم والخادمة، بحث كامل عنهما في كلّ مكان. وأخيرًا اقتنع بكلام فيفي، وكفّ عن البحــث يــوم قالــت لــه: الخادمــة ألله لا يردّهــا. غدًا نأتي بغيرها أوفــى منهــا. ووسيــم، إن كــان ابنًــا صالحًــا، فســوف يعــود. وإن لــم يعُد، فهو ليس بصالح. وإذ ذاك لماذا نواصل البحث عنه!
... ومرّت الأيّام وتعاقبت الأعوام، ووسيم ينتقل من صفّ إلى صفّ بنجاح منقطع النظير. وقُبل في جامعة المدينة الرسمية كطالب طبّ. ومات العجوز بعدما أوصى بالمزرعة لأولاده ولوسيم بالتساوي. أما سلمى فأُصيبت بداء عضال ألزمها الفراش زمنًا قضته في الصلاة وطلب الرحمة للعجوز والدعاء لابنها. ثم ردّت الأمانة إلى ربّها راضية.
في ذلك اليوم لم يمشِ خلف نعش سلمى إلا وسيم وعمّال المزرعة قبل أن تُوارى في مدافن الغرباء. هناك رثى وسيم أمّه فأبكى جميع المشيّعين. وفي الحفرة التي استقبلت جسدها دفن قلبه وروحه.