متاحف في بلادي

فضاء فني واسع ومشروع طموح «مقام» في عاليتا - جبيل
إعداد: جان دارك أبي ياغي

أعمال يوسف الحويّك والروّاد تجاور أعمال الشباب

 

في منطقة عاليتا- قضاء جبيل، حوّل الثنائي سيزار نمّور وزوجته غابرييلا شوب مصنعًا من فترة السبعينيات، إلى فضاء يحتضن منحوتات وأعمالاً فنية مهمّة، من دون أن يتخلّى عن ذاكرته الأولى. يسعى «مقام» (متحف الفن الحديث والمعاصر في لبنان) إلى عرض أكبر قدر من الأعمال الفنية البصرية التي أُنتجت في لبنان على مدى العقود الستة الماضية.
مجلة «الجيش» زارت المتحف وسجّلت الرقم 15 ألفًا في عدد الزائرين الذين تعرّفوا إليه.

 

المصنع المهجور فضاء للفن
يقع المتحف الذي افتتح في 29 حزيران 2013، على تلة جميلة في بلدة عاليتا-جبيل. هناك تخبرنا اللافتة أننا وصلنا إلى «متحف الفن الحديث والمعاصر» «مقام»، والإسم يأتي من الحروف الأولى لعبارة بالإنكليزية Modern And Contemporary Art Museum. للوهلة الأولى، يخال المرء نفسه أمام مصنع مهجور. وفي الداخل ديكور متقشّف، فلا أضواء مشعّة، ولا بلاط لامعًا، أو جدران منمّقة، وإنما نظرة فنية خاصة تجمع نماذج لإبداعات فنية مختلفة أنتجت خلال العقود الستة الماضية.
قبل العام 2013، كان المكان يتألف من مصنعين مهجورين يعودان إلى فترة السبعينيات: أحدهما ينتج الأقلام الشمعية الملونة والطبشور الأبيض والملون والألوان المائية وألواح الكتابة للأطفال والمدارس، والثاني ينتج أكياس ورق «الكرافت» في طيات متعددة للترابة والكلس. بعد تأهيلهما، وبفضل مبادرة ثنائية لسيزار نمّور وزوجته غابرييلا شوب، تحوّلت الآلات الحديدية التي كانت في

 

داخله إلى منحوتات وأعمال فنية.
بداية المشروع كانت مع تأسيس «جمعية الفن المعاصر – عاليتا» وهي جمعية لا تتوخى الربح، تضم رواد هذا الفن ومنهم سيزار نمور وغابرييلا شوب وجاد الحاج ومجموعة من الأصدقاء، وقد جمعهم هدف إنشاء متحف للفن الحديث والمعاصر هو الأول من نوعه في لبنان.
بعد حصوله على الأرض التي تبلغ مساحتها حوالى عشرة آلاف كلم2، وتضمّ المصنعين المذكورين (يمتدّان على حوالى 4000 كلم2 من البناء الجاهز، الذي يزيد ارتفاع سقفه على سبعة أمتار)، استكمل نمّور رحلة توثيق الفن اللبناني التي كان قد بدأها في جريدة «النهار» في سبعينيات القرن الماضي. وقد شملت هذه الرحلة أيضًا تأسيسه «دار الفنون الجميلة» التي أصدرت 22 كتابًا عن الفن اللبناني، ومكتبة Recto Verso (في شارع مونو) التي تحتوي مئات المؤلّفات التوثيقية عن الفن اللبناني الحديث.
يستعيد المتحف حقبات شبه زائلة أو مهددة بالزوال من تاريخ الفن اللبناني الحديث، ويحفظها من خلال قسمين أساسيين: قسم للنحت، وقسم للأعمال الفنية المعاصرة. ويضم القسمان حاليًا حوالى 450 منحوتة وعملاً لـ85 فنانًا لبنانيًا، جمعها الثنائي نمّور وشوب، وأعاد عرضها بما يتيح للزائر تكوين لمحة عن تطوّر الفن وأشكاله خلال السنوات الستين الأخيرة في لبنان.

 

مساحة للتعليم
يرى نمّور أنّ «الهدف الأساسي للمتحف بعد هدفه التوثيقي يكمن في التعليم». لذلك عمل على تخصيص مساحة للأطفال، ما يتيح إصابة عصفورين بحجر واحد: حثّهم على المشاركة من جهة وتعريفهم بالمخزون الثقافي اللبناني من جهة أخرى. وعند المدخل طاولات ومقاعد ومعدات رسم وتلوين وتركيب يستخدمونها عند زيارة المتحف، وما ينجزونه يعلّق على الجدران.
نكمل الجولة، فنصل إلى قاعة واسعة خصصت للمنحوتات اللبنانية الحديثة وهي لأبرز وجوه النحت في لبنان (400 منحوتة لـ 115 فنانًا). وقد قسّمت الأعمال إلى 4 أقسام: معدن، خشب، حجر، وخزف، وعرضت لكل فنان منحوتة أو أكثر، مرفقة بتعريف عنه ولمحة عن أعماله.
ثمّة أعمال جمعها نمّور من أصحابها، فيما البعض الآخر هو من مجموعته الخاصة. نقف أمام أعمال لروّاد النحت اللبناني الحديث، أمثال يوسف الحويك، والإخوة بصبوص، ومروان صالح، وسلوى روضة شقير ودوروثي سلهب ومعزز روضة وزفين حدشيان وماريو سابا وندى صحناوي والياس ديب وعزت مزهر وحسين ماضي ومحمد قدورة ونعيم ضومط وسامي الرفاعي إلى آخرين من جيل الشباب.
لا مانع من عرض أعمال لفنانين غير لبنانيين يقول نمّور، شرط أن تكون الأعمال منفّذة في لبنان. وهذا ما جعل إدارة المتحف تذكّر بالفرنسي ألفونس فيليبس الذي قضى حياته في لبنان، وتستقبل عملاً تجهيزيًا للفنان السوري المقيم في لبنان ثائر معروف.
نصل إلى أحدث النحّاتين اللبنانيين، منهم اللبنانية جنان مكي باشو التي عرضت أعمالها الأخيرة المنجزة من مواد جمعتها من شظايا القذائف خلال الحرب. إلى جانب هذه المنحوتات، تُركت آلتان حديديتان كبيرتان من بقايا المصنعين. ووضع إلى جانب الآلتين بعض مصنوعاتهما: طبشور، وتلوين، وأكياس للاسمنت... ويردّ نمّور هذا الأمر إلى «المحافظة على ذاكرة المكان وهويته».

 

تجهيز معاصر
القاعة الثانية في المتحف، وهي واسعة أيضًا، خصصت لأعمال تجهيز لبنانية معاصرة، شملت كل تلك التي حصدت جوائز، أو عرضت في الخارج...
يحمل كل من نمّور وشوب عددًا من الخطط لتطوير متحفهما. فهما يسعيان إلى إقامة طبقة ثانية حين يحصلان على التمويل الكافي لإضافة قاعة تحتوي على الأعمال التشكيلية اللبنانية. وقد وجدنا في إحدى الصالات معرضًا لعدد كبير من مخططات معمارية لتطوير المتحف، رسمها طلاب جامعيون يختصّون بالفن المعماري. في نهاية المطاف، نشاهد فيديو عن النحت اللبناني في غرفة بصرية - سمعية.

 

مغامرة فنية
يكتسب المتحف أهميته من ثلاث نقاط: أولاً لكونه مغامرة فنية من دون دعم رسمي، وثانيًا، لأنّه فضاء فنيّ خارج الإطار المديني، وثالثًا لأنه يسعى إلى إعادة الاعتبار إلى مرحلة ذهبية في تاريخ الفن اللبناني. ولذلك من المتوقع أن يصبح في المستقبل القريب موقعًا مميزًا للسياحة ولطلّاب الفنون الجميلة.
في إطار برنامج «مقام» نفّذت نشاطات فنية وثقافية متعددة، بالإضافة إلى المعرض الدائم للنحت والتجهيز التشكيلي. كما نظّم المتحف في ربيع 2014 مسابقة بين الفنانين لإنجاز تجهيزات تشكيلية لصناعات محلية، واستضاف فنانًا لإنجاز عمل تجهيزي ضخم في مصنع الكلس المجاور، وقدّم مسرحية («لوحة بيضاء» لجاد الحاج من إخراج غابي يمين وتمثيل ميراي معلوف ورفعت طربيه). وفي الصيف ينظّم المتحف محترفات دولية يشارك فيها 45 فنانًا من 24 دولة، ويستقبل مشاريع تصوير فوتوغرافي وسينمائي وسواها في أرجائه الواسعة.
بين رائحة خبز الصاج الآتية من الكافيتريا وإبداعات روّاد وشباب وأطفال، يقدّم «مقام» الكثير من المتعة، فضلاً عن كونه فرصة فريدة للطلاب ولأساتذة الفنون والباحثين في تاريخ النحت في لبنان.
أخيرًا، نشير إلى أنّ المتحف يفتح أبوابه ثلاثة أيام في الأسبوع للزوّار (الجمعة والسبت والأحد)، ويستقبل طلاّب المدارس بناء على موعد.