دراسات وابحاث

فلسفة الحرب في المدارس الفكرية
إعداد: الدكتور احمد علّو
عميد متقاعد

تقوم فلسفة الحرب على دراستها وتفحّصها بما هو أبعد من المسائل النمطية السائدة المتعلقة بالاسلحة والتسلح، والتكتيك والاستراتيجيات. إنها تحقيق في المعنى، وغَوْص في علم الأسباب المولّدة لها (Etiology)، وماذا تعني للبشرية، وللطبيعة الإنسانية، ولأخلاق المهنة وآدابها.
ولذلك نرى أن فلسفة الحرب تتداخل في بعض اقسامها مع فلسفة التاريخ والفلسفة السياسية، وفلسفة القانون وأخيراً فلسفة الأديان. كما يرى البعض أن هناك مراجع تعتبر من اكثر الاعمال المؤثرة في فلسفة الحرب، وهي كتاب «فن الحرب» (The art of war) للفيلسوف الصيني «صن تزو» (Sun Tzu)، وكتاب «أرتاشاسترا» (Arthashastra) لمؤلفه الهندي «تشاناكيا» (Chanakya)، واخيراً كتاب «في الحرب» (On War) لمؤلفه كارل فون كلاوزويتز (Clausewitz).
وكل كتاب من هذه الكتب يمزج بين الملاحظات في الاستراتيجيا مع مسائل الطبيعة البشرية وأسباب الحرب. فكلاوزويتز مثلاً يدرس غائية الحرب (Teleology)، هل للحرب معنى وغاية خارج ذاتها؟ أم هي غاية بحد ذاتها؟! وبعد الدراسة يستنتج كلاوزويتز ان السؤال الثاني لا يمكن ان يكون صحيحاً، وان الحرب بالتالي هي «سياسة بوسائل اخرى»، وانها لا يجب ان تكون لذاتها بل يجب ان تخدم بعض مصالح الدولة وغاياتها.
كذلك يعتبر البعض ان كتاب «الحرب والسلم» لمؤلفه ليو تولستوي يضم استطراداً فلسفياً واضحاً حول فلسفة الحرب، بل ابعد من ذلك (تأثير ما ورائي، غيبي، ناتج عن ملاحظات تولستوي للحروب النابليونية)، وهذا ما كان له تأثير فعال في ما بعد في الافكار عن الحرب وخصوصاً تأثيره على غاندي وفلسفة اللاعنف.
كذلك، فإن «نيقولو ميكيافللي» كتب ايضاً كتاباً هو «فن الحرب» ركز فيه على الاسلحة والاستراتيجيا والتكتيكات اكثر من الفلسفة، ولكن جزءاً من كتابه «الأمير» يناقش الحرب من وجهة نظر فلسفية.

 

الحرب في المدارس الفكرية
يرى الناشر أناتول رابوبوررت في مقدمة ترجمته لكتاب كلاوزويتز «في الحرب» (On war)، أن هناك ثلاث مدارس رئيسة للفكر في فلسفة الحرب هي:
1- المدرسة الكوارثية (The Cataclysmic).
2- المدرسة الأُخروية (The Eschatological).
3- المدرسة السياسية (The Political).
وهناك مدارس أخرى غيرها تتناول فلسفة الحرب، ولكن هذه المدارس الثلاث هي الأكثر شيوعاً.
تعتبر الحرب (مجازياً) وفق مدرسة الفلسفة السياسية «لعبة ستراتيجيا» كلعبة الشطرنج، ووفق الفلسفة الُأخرَوِيّة كرسالة، او حل عقدة درامية، أما في الفلسفة الكوارثية فتعتبر كالنار أو الوباء، ولكن هذا - بالطبع - لا يستنفذ مفاهيم الحرب التي سادت في أزمنة مختلفة وأماكن شتى، فمثلاً: اعتبرت الحرب لأزمنة عديدة، كتسلية او مغامرة، أو كأنها الحيز الحقيقي الوحيد للنبلاء لتحقيق اعمال الشرف (عهد الفروسية).
كذلك اعتبرت الحرب كطقس ديني (وفق حضارة الازتك) ومتنفس للغرائز العدوانية، أو تعبير عن الرغبة في الموت أو أنها أسلوب الطبيعة لإصطفاء الأقوى والأفضل، أو منافية للعقل عند الإسكيمو، أو أنها عادة وحشية متجهة للإنقراض كالعبودية والجريمة.

 

المدرسة الكوارثية (Cataclysmic)
هي التي تتوافق مع ليو تولستوي في كتابه الملحمي «الحرب والسلم» والتي ترى أن الحرب هي لعنة على البشرية، سواء كان يمكن تجنبها أو أنها لا ترد، والتي تخدم أهدافاً قليلة الى جانب التسبّب بالدمار والألم، والتي يمكن أن تولد تغيرات اجتماعية عنيفة، ليس وفق المعنى الغائي والهادف.
يمكن اعتبار وجهة نظر تولستوي كمقولة ثانوية مساعدة لفلسفة الكوارثية الكونية في الحرب، كذلك يمكن اعتبار الكوارثية الأعراقية (Ethnocentric) كمقولة ثانوية للفلسفة نفسها، والتي تبرز بشكل دقيق على عهد إلهي، أو الاعتقاد بـِ «سُمُوّ عرقي» لأُمة معينة، فمثلاً: تنظر اليهودية الى الحرب كعقاب وقع من الله على الاسرائيليين كما ورد في بعض كتبهم (تاناخ، العهد القديم)، والتي ترى ان الحرب عمل مفروض من الله، ولا يمكن تجنبه. لذلك فإن تولستوي يرى ان الحرب هي شيء يصيب الإنسان، وهي ليست بأي شكل تحت تأثير ارادته الحرة. ولكنها، بدلاً من ذلك، نتيجة فعل القوى الكونية التي لا تقاوَم.

 

المدرسة الأُخْرَوِيّة (Eschatological)
ترى هذه المدرسة أن الحروب، خصوصاً الكبرى منها، وكأنها تتجه نحو هدف ما، وتؤكد ان بعض النزاعات النهائية سيكشف الطريق المرسوم لكل الحروب، والذي يتشكل بـ«ثَوَرَانٍ» اجتماعي هائل يتبعه مجتمع جديد خالٍ من الحروب، (هناك نظريات ترى ان هذا المجتمع قد يكون مثالياً أو قد يكون عكسه تماماً).
وهناك نظريتان حول هذا الموضوع: الكونية، والمسيحانية:
- النظرية الكونية وتعبّر عنها الماركسية.
- النظرية المسيحانية، ورؤيتها لمعركة «هارمجدون»، والتي ستؤشر الى المجيء الثاني للمسيح، وهزيمة الشيطان النهائية.
وهذه النظــرية هي مَثَلٌ للفلسفــة المسيحــانية الأخرَوِيّة، والتي تنبثق من المفهـوم اليهودي - المسيحي للمسيح، وترى ان الحروب تبلغ ذروتها في اتحاد البشرية في ايمان واحد وتحت سلطة حاكم واحد مسيطر.
كذلك يمكن اعتبار الحملات الصليبية والجهاد ومفهوم النازية للعرق الأسمى وغيرها، كتعبير عن هذا التوجه والمفهوم.
 

المدرسة السياسية (Political)
يعتبر كارل فون كلاوزويتز أحد أركان هذه المدرسة والذي كان يرى ان الحرب هي أداة بيد الدولة، وفق مقولته الآتية:
«إن الحرب هي أداة عقلية (منطقية) للسياسة الوطنية».
إن الكلمات الثلاث: «عقلية»، «أداة»، «وطنية»، هي المفاتيح الاساسية للنظرية.
وبهـذه النظرة فـإن قـرار الحرب يجب ان يكون:
اولاً: «عقلياً ومنطقياً»، بمعنى استناده على تقديرات أكلاف الحرب ومكاسبها.
ثانياً، إن الحرب يجب أن تكون «أداة أو وسيلة»، بمعنى أنه يجب اعلانها لتحقيق اهداف معينة، وليس لذاتها، وأيضاً بمعنى ان الاستراتيجيا والتكتيك توجهان باتجاه غاية واحدة وهي تحقيق النصر.
وأخيراً، إن الحرب يجب أن تكون «وطنية»، بمعنى ان اهدافها هي تحقيق تقدم المصالح الوطنية للدولة، ولهذا فإن الجهد الكلي للأمة يجب ان يعبأ لخدمة الأهداف العسكرية والمجهود الحربي.
واليوم، وبعد مرور عقود على وضع هذه النظرية، فإن الحروب على الإرهاب، وحرب العراق، التي باشرتها الولايات المتحــدة الأميركيــة بقيادة الرئيس جورج بوش (2001-2003)، يمكن اعتبارهــا ضمن العقيدة الإستباقية للحرب، وهي محرك سياسي يعتبر أن على الولايات المتحدة أن تستخدم الحرب لتمنع هجوماً لاحقاً عليــهــا كما حدث في 11 ايلول 2001!!. أو ربمــا تحضيراً، واستعداداً لحرب قادمة تؤمن بحدوثها الجماعة المحيطــة بالرئيس بوش أي «المحافظــون الجدد» الذين يؤمنون بالمدرسة الأُخرَوِيّة ومعركة هارمجــدون في فلسطين، والعقيــدة المسيحانية - اليهوديــة الصهيونية، وانتصار الخير على  الشر، (وفق رؤيتها)، ويرون ضرورة خضوع العالم لحاكمٍ واحدٍ يقودها الى النصر!