تأملات

فلسفة السعادة
إعداد: العقيد الركن حسن جوني
كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان

السعادة لا نستطيع تفسيرها أو تعريفها بكلمات، لكننا نعيشها حين تلامس أرواحنا همساتُ فرحٍ تخفق لها قلوبنا، إنه حقًا شعورٌ ممتع نسعى إليه ونفعل كل ما بوسعنا لبلوغه. بل أكثر من ذلك فان السعادة عنوان نضال المرء وكفاحه طوال حياته، وهي الهدف الاسمى والاخير الذي يتقدم جميع الاهداف الوسيطة التي ما هي إلاّ محطات على طريق تحقيق الغاية النهائية المرجوة. جميعنا يسعى لإدراك السعادة، ولكن لكل منا سعيٌ مختلف لأن مفهومها بحد ذاته يختلف بين انسانٍ واّخر، وذلك أمرٌ طبيعي بين بشرٍ ذوي أطباعٍ متنوعة.


بين السعادة والطمع
إنّ من يعيش أسيرًا للطمع في حياته لن يدرك السعادة البتّة، وإن أقصى ما يشعر به هو جرعات فرح متقطعة سرعان ما تنضب تحت تأثير طمعه الذي يثير عنده رغبةً ملحة بتحقيق المزيد ثم المزيد ما ينغص عليه عيشه ويحرمه شعور الاكتفاء ويمنع قلبه وروحه من ان يلامسا شعور السعادة.
الطمعُ يبعد الشعور بالسعادة لأن الاثنين لا يمكن أن يلتقيا أو يتعايشا، وإن أول خطوة للبحث عن السعادة هي بالتحرر من الطمع.

 

بين سعادة وأخرى
منا من هو محظوظ بسعادة رخيصة التكلفة! وتلك نعمةٌ من الله لمن وهبه إياها، وهي عكس السعادة الباهظة التكلفة! وتلك نقمة.
فهناك من يعتبر السعادة مجرد اكتفاءٍ ذاتي في مختلف شوؤن الحياة من أكلٍ وشربٍ وكساء، واستقرار نفسي واطمئنان تجاه المستقبل المهني والعائلي. وهذا غالبًا مفهوم السعادة عند من يعيشون حقيقة القناعة ويملكون هذا الكنز الذي لا يفنى، هؤلاء طريق سعادتهم سهلٌ ولكنه يودي بهم الى سعادة متواضعة.
وهناك من يلامس قلبه شعورٌ بالفرح والسعادة بمجرد أن يقرأ كتابًا ممتعًا حول موضوع يهمه أو يعنيه، كثرٌ هم من ينتشون ويُسحَرون بالقراءة ولا يشبعون منها، لذا يقال فلانٌ قارئٌ نهم! وذلك مستوحى من تشبيه القراءة بمتعة الأكل عند حدة الجوع. كما يقول الحديث الشريف « إن من البيان لسحرا «  بمعنى أن النص يستميل القلوب كالسحر من شدة الاعجاب به. تلك متعةٌ مجهولةٌ لمن لا تعنيهم القراءة.
وهناك من تدرك قلبه السعادة عندما يمارس هواية يحبها سواءً رياضية أو فكرية أو فنية او غيرها، فمن يحب الموسيقى الكلاسيكية مثلًا فإنه يسمعها بشغفٍ وينتشي بها وتغمره الفرحة ويطرب لها حتى يقال بالعامية إنه «سلطن» من شدة الطرب أي أصبح سلطانًا، وذلك تعبيرٌ عن متعة الروح.
أمّا من يمارس لعبة الشطرنج مثلًا، فإنّ شعورًا لا يوصف يطرق قلبه عندما تحقق بيادقه انتصارًا على مسرح الحرب بمربعاته البيض والسود وفق خطةٍ محكمة ابتدعها نتيجة عصفٍ فكري مرهق وممتع في آن!

 

أنواع السعادة
الصفحة لا تتسع لوصف الحالات البسيطة في تركيبها وظروفها والتي تضفي على صاحبها شعورًا بالفرح والسعادة. إنها سعادة رخيصة التكلفة حقًا، وإدراكها لا يحتاج سوى لبضعة دراهم وراحةُ البال وقدرٌ قليلٌ من القناعة ليس إلا، وهذا بالضبط ما عنيت به نعمةٌ من نعم الله.
في المقابل... هناك من لا يفرحون ولا يسعدون إلا نتيجة تحقيــق أشياء باهظة التكلفــة، فهناك من لا تفــرج أساريره إلا بامتلاكه منزلًا كبيـرًا وفخمًا على أن يكون أفضل من كل منـازل أصدقائــه وأقاربه! أو الا اذا كـانت سيــارته هي الأفضــل بين سيارات أصدقائه وأصحابه وأقاربه! وتلك سعادة باهظة ومكلفة جدًا.
ومنهم من لا يخترق قلبه شعور الفرح الحقيقي الا اذا لحقَ ضررٌ أو أذى بآخرينَ يحسدهم ولا يريــد لهم خيرًا بمجـرد أنهــم أفضل منــه، وهذا أبشع وجـوه «السعادة» التي تصبح تفسيــرًا لأنانيـةٍ بغيضة تسيطر على المرء وتأسره، فبدلًا من أن يقدِّر لهم جهدًا بذلوه فحصلوا على ما هم عليه ويدعو ربه أن يساويهِ بهم تراهُ يتمنى لهم فقدان نعمة الله عليهم كتعبيرٍ عن غيرةٍ قاتلة تؤدي الى أن يموت المرء بغيظه ليس إلّا.
فئة أخرى من الناس، تشير إليها تجارب العلاقات الاجتماعية، وهي التي لا يدخل قلبها أي مشاعر من الفرح والسعادة مهما حصل لها، بينها وبين الفرح سدٌّ منيع يستحيل اختراقه بفعل طبيعة تكوينها النفسي وتلك مصيبة المصائب ولعنة اللعنات!

 

أعداء السعادة
ما أجمـل السعادة وما أبسطـها...
أعداؤها التعقيد والقلق والوسواس والطمع والكره والأنانية، وأصدقاؤها التواضع والقناعة والترفع والزهد، وخصوصًا المحبة التي قال جبران انها لا تملكُ شيئًا، ولا تريد أن أحدٌ يملكها لأن المحبة مكتفية بالمحبة!
باختصار، السعادة هي مقياس عمر الإنسان الحقيقي الجدير بالحسبان بعد اختزال ما لا يلزم منه.
وليس مفهوم تحقيق الذات الذي تكلم عنه معظم المفكرين الاجتماعيين، كهدف أسمى للفرد، سوى سعي هذه الذات إلى بلوغ السعادة لأن المقصود بتحقيق الذات هو تحقيق الذات السعيدة وليس اليائسة!
أخيرًا، اذا كانت المتعة هي التعبير عن فرح الإنسان بيولوجيًا، وأحيانًا نفسيًا، فإن السعادة هي التعبير عن فرحه روحيًا، وهي لا تتحقق في خلوِّ الحياة من المشاكل، لأن ذلك مستحيل، بل هي تتحقق بالتغلب على هذه المشاكل...