تأملات

فلسفة الشطرنج
إعداد: حسن جوني
عميد ركن

حربٌ طاحنة من دون دماء، وخرابٍ ودمار، من دون قتلى وجرحى، وآلام، رغم حدة الاشتباك وتوالي الكرّ والفرّ بين المتخاصمين. ورغم شراسة القتال وتنقل المعارك من جهة إلى أخرى وزجّ أنساق الجنود والخيّالة من المعركة وصراع القلاع وعناد الملوك وتصميم الوزراء على تحقيق النصر الحاسم، فإنّ نقطة دمٍ واحدة لا تراق!
إنّه الشطرنج! يقال: إنّه لعبة الملوك والأذكياء، رغم أنّني لا أوافق على وصفه باللعبة، فكيف يكون لعبًا ولهوًا ما يرفعكَ إلى أعلى درجات التركيز ويدفعكَ إلى أعمق درجات التفكير، ويضعك في أسمى حالات التأمل؟!
وهل يحسب العصف الذهني لعبًا؟ أيّ لعبٍ هذا الذي يُلزمك بإجراء أكثر من خمسمائة عملية حسابية معقدة في جوّ من الإثارة والتشويق خلال أربع أو خمس ساعات أو ما يزيد؟
إنّه الشطرنج، قوات عسكرية متقابلة، تصطفُّ في تشكيلات قتالية مدروسة، يتوسّطُها زعيمها الملك، وإلى جانبه تتراصف القطع بدءًا بمساعدِهِ الوزير الشرس والفعّال، ثم الفيلة والأحصنة في لغة الشطرنج. أما الزوايا فتحميها قلاع ثابتة صامدة. الجميع متماسكون في تشكيل قتاليّ معقّد، يراعي التراتبية. يحمي مقدمتهم نسقٌ من الجنود يستعد للاشتباك الأول بعد التقدّم والبحث عن التماس. إلى أن تبدأ المعركة ويبدأ زجّ القوى من النسق الثاني تباعًا ضمن خطةٍ تكتيّةٍ محكمة بغية تحقيق هدف استراتيجي محدّد هو إخضاع الخصم ودفعه للاستسلام. هنا تمامًا يتألّق لاعب الشطرنج في أفكاره وكأنّه قائد عسكري كبير، يخطط ويدير المعركة، يحشد القوى، يناور، يخرق ويطوّر هجومه أو يتخذ تشكيلًا دفاعيًا متماسكًا لمواجهة الهجوم المقابل، إنّه يمارس القيادة الحقيقية ويعيشها توترًا وانفعالًا وغموضًا في الموقف الذي عليه أن يحسن تقديره وفق منهجيةٍ منطقية، وأن يسعى دائمًا لخلق الظروف الملائمة موجهًا جهده الرئيسي باتجاه مركز الثقل الاستراتيجي للقوى المقابلة، وذلك من خلال إضعاف مركز الثقل العمليّاتي، أي الوزير.
أليس لاعب الشطرنج قائدًا؟ وهل يجوز للضابط أن لا يلعب الشطرنج، ويلامس تجليات القيادة بعمقها ويواجه تعقيداتها ومشكلاتها ويعيش ضغطها النفسي والمعنوي، ويبتكر لها الحلول الممكنة في ميدان المربعات البيض والسود؟
حتى العامل النفسي بين الطرفين له دوره المؤثر والفاعل، وغالبًا ما يتم استخدامه للتأثير على معنويات الخصم، فاللاعب الخائف من خصمه يتردّد في قراراته ولا يبادر، وتلك مقدمات الهزيمة. وهنا تلعب بعض الإيحاءات دورًا مهمًا في خداع الخصم وإيهامه بما يختلف عن النوايا الحقيقية. فالناحية التي ينظر إليها اللاعب بتركيز قد تعني أنّه يخطط لعملٍ ما في ذلك المكان من الرقعة، وقد يكون ذلك إيهامًا لتشتيت الخصم وخداعِهِ. كما أنّ اتجاه الجهد الرئيسي للعمليات يحدده اللاعب بين جناح الملك أو جناح الوزير من خلال ما يسمى عملية التبييت، فإنّ اللاعب غالبًا ما يشنّ هجومه على غير الجانب الذي وُضِع مَلِكُه فيه.
في الشطرنج صراعٌ شريف بين عقول، تحكمه قواعد راقية يراعي في أدبياته أسمى القيم، أهم مثال على ذلك هو مبدأ عدم جواز قتل ملك الخصم إلّا مباشرةً، أمّا إذا اختنق هذا الملك، أي لم يعد قادرًا أن يتحرّك إلى أي مربع من دون تهديده بالـ«كش مات»، فإنّ النتيجة تحسب تعادلًا، لأنّ الانتصار في الشطرنج يقتضي قتلًا مباشرًا للملك وجهًا لوجه وليس خنقًا أو غدرًا. ومن قيم الشطرنج أيضًا أنّ اللاعب المقابل لا يسمى خصمًا ولا عدوًا بل رسيلًا، وسبب هذه التسمية أنّ اللاعبين يتراسلان فكريًا وبصمت طوال مدّة الجولة أو الدور، وهذا ما يؤكد طبيعة الصراع الفكري الراقي بين الرسيلين.
دخل الشطرنج في عالم التكنولوجيا والبرمجيات بشكلٍ واسع وصُنع الكمبيوتر الذي يفكر بملايين الاحتمالات عند كلّ نقلة، ويختار أفضلها في جزء من الثانية، ولكنّ كاسباروف بطل العالم الروسي هزم ذلك الكمبيوتر وقال حينها: «إنني أدافع عن الجنس البشري أمام هذه الآلة!».
وبعض الجولات التاريخية التي حصلت بين لاعبين عمالقة هي بمثابة قطع فنية رائعة تضاهي اللّوحات الفنيّة الأكثر شهرةً في العالم، كالموناليزا أو إحدى المعزوفات الموسيقية الخالدة أو إحدى أهم روائع شكسبير.
اختلفت نظرة اللاعبين العباقرة إلى الشطرنج، فقال بعضهم فيه: إنّه مصدر سعادة في الحياة، وقال آخر: إنّه ضياعٌ في اللاّنهاية! ولكنّ الكلّ يجمع على أن الحياة مع الشطرنج ليست كالحياة من دونه، وأن جهل البعض لهذه المتعة وهذا العشق فوق المربعات لهو مدعاةٌ للأسف! لذا، فإنّ ملوكًا عظامًا ومبدعين أتوا إلى هذه الحياة ومارسوا الشطرنج رغم انشغالهم بشؤون حكمهم وشجون الدنيا، ولولا جاذبية الشطرنج لأصحاب العقول النيّرة، لما وجد مثل هؤلاء الوقت لممارسة هذا التحدي الفكري الرائع. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، سلسلة ملوك فرنسا، إسبانيا، إنكلترا والسويد، وشخصيات تاريخية مثل كارل ماركس، بازل ليدل هارت، هتلر، أبراهام لنكولن، نيلسون مانديلا، فيدل كاسترو، شي غيفارا، ونستون تشرشل، ميخائيل غورباتشوف، جاك شيراك، باراك أوباما، ياسر عرفات، جمال عبد الناصر، شاه إيران، الأخت تيريزا، غبريال مركيز، جون بول سارتر، برنارد شو، بيل غايتس، الخ...
في الشطرنج هناك دائمًا أمل وفرصة مختبئة في مكان ما ويجب تفعيل البحث عنها من خلال العصف الذهني لالتقاطها قبل فوات الأوان... وهكذا في الحياة.
الشطرنج باختصار هو فلسفة حياة، صراعٌ مفتوح بين جيشين، بين لونين (أبيض وأسود)، بين ضدّين، وكأنه بذلك يعكس الصراع الأزلي في الحياة بين الخير والشر.
الشطرنج تصميم وتخطيط، حيث لا عفوية ولا عبثية في التحرّك، وإلّا الفوضى والضياع... والحياة كذلك!
الشطرنج ربحٌ وخسارة، فلا يجب أن تُسكرَنا الأولى ولا أن تقتلنا الثانية... والحياة كذلك!
الشطرنج تقديرٌ متواصل للموقف عند كل خطوة، وبحثٌ دقيق عن القرار الأصحّ والأنسب... والحياة كذلك!
وأخيرًا وليس آخرًا، أختم بأجمل ما قرأت عن الشطرنج، قول وجداني محزن ومعبِّر في آن:
في الشطرنج تعود جميع القطع على اختلاف رتبها، من الملك إلى الجندي، إلى العلبة نفسها عندما ينتهي اللعب... وكذلك تمامًا يعود الناس جميعًا (ملوكًا وفقراء وخفراء وأمراء) إلى الحفرة نفسها عندما تنتهي الحياة،
فتعالوا نلعبِ الشطرنج بمحبة قبل أن نعود إلى العلبة.