تأملات

فلسفة الضمير
إعداد: العقيد الركن حسن جوني
(كليّة فؤاد شهاب للقيادة والأركان)


يقوم داخل كلٍ منا حوار بين ذاته وضميره، حوارٌ حول كل ما تطرحه الحياة من مشكلات وعقبات وتحديات، أو حول كل ما تتطلبه من مستلزمات للعيش، أو من أجل تحقيق الأهداف بعد رسمها والتخطيط لبلوغها وبناء الأحلام والسعي لتحقيقها. هذا الحوار قد يكون نشطًا احيانًا وضعيفًا أحيانًا أو حتى معدومًا في حالات أخرى.
الضمير، الشريك في عملية اتخاذ القرار، هو ذلك الأنا الآخر العميق القائم في عمق كل منا، هو الرقيب الساهر دائمًا على تقويم السلوك والأداء؛ هو الظل الحي الذي لا يعكس شكل صاحبه إنّما يجسد له نموذجًا مستقيمًا يذكّره دائمًا بضرورة تعديل وتغيير شيء ما بداخله، وضرورة تشذيب وتهذيب النفس كي يستحق صاحبها الحياة التي تليق به. هذا الصوت الصامت والمدوٍ في آن! المنطلق من عمق الذات، هو الوحيد القادر على ردع صاحبه وضبط إيقاع سلوكه في الحياة. ولكن لكل منّا علاقة مختلفة مع هذا الرقيب، هذا الأنا الآخر!

 

منّا من يعتبره رقيبًا مزروعًا بداخله بقوة الله! ما يجعله يخاف منه ومن تدويناته التي ترسل مباشرةً إلى اجهزة الملائكة المقيمة في حضرة الله والمكلَّفة مراقبة البشر، وذلك كي يبنى على هذه التدوينات إما حسابٌ عسيرٌ في الآخرة فيما لو كانت مخالفة لتعاليم الدين ونصوصه وفتاويه، وإما مكافآت مغرية على الحسنات المعدودات وغير المعدودات فيما لو تجاوبت مع هذه التعاليم والنصوص والفتاوى. فتراه يخضع لهذا الرقيب حصرًا ويطيعه رعبًا وهو بذلك رجلٌ صالحٌ ولكن عن خوف! فالخير الذي بداخله هو مزروعٌ مفروض، وميول السوء والشر موجودة لكنها مكبلة ومقيدة بفعل الردع الذي يقيمه ويقويه ما يرشحُ من اخبارٍ عن عذابات يوم القيامة!
ومنّا من يعتبر هذا الأنا الآخر مصدر تشويش يصدر أصواتًا عميقة تنغِّص عليه فرحته بالنعم والمتعة التي يسعى اليها ويحصل عليها بالطرق غير المشروعة، فيجعله في حالة ارتباك وتردد بين ان ينصاع لهذا الصوت العميق في داخله الذي ينبّهه ويحذّره بل يهدّده، وبين أن يتجاهله ويتمادى في فجوره وخطاياه، ويستكمل فرحته وسعادته على حساب فرح وسعادة آخرين، أي بين صوت الضمير العذب الرقيق القاطع الذي يحمل نغمةً من نغمات الملائكة، وبين مغريات الخطيئة الملعونة التي تتراءى في صور شيطانية جميلة. فلا هو ينصاع إلى ضميره فيَحْذر ويلتزم وينضبط، ولا هو يتمكن من تجاهله تمامًا ما ينغّص عليه فرحةً ليست من حقه أو سعادةً ليست مكتوبة له في الأساس، فتراه في هذه الحال يخالف ضميره ويرتكب المعصيـة من دون أن يتمتــع بالخطيئــة.
ومنهم من أقنع ذاته بضرورة خنق هذا الصوت وعدم الاعتراف بهذا الأنا الآخر والتمادي بارتكاب الخطايا من دون أي رادع أو وازع!!
ومنّا من يتخذ من هذا الرقيب الحبيب صديقًا يثق به، يتشاور معه في كل خطوة يخطوها، يلتزم توجيهاته ونصائحه، هذه الفئة من الناس مقتنعةٌ أن الحياة لن تستقيم إلا إذا أخضع كل منا جميع خطواته وقراراته وخياراته، الشخصية والمهنية والاجتماعية والوطنية، إلى ضميره الحي! هكذا برأي هؤلاء ينتصر الخير على الشر وتتكرس القيم الطيبة وتعم الفضيلة وتسمو الحياة.

 

باختصار، إن الضمير هو حضور الله في الإنسان، بغض النظر عن الرسول الذي يتبعه هذا الإنسان أو الدين الذي يعتنقه.
في بعض الحالات قد يكون الضمير نائمًا ولكن ليس في سباتٍ عميق، بمعنى أنه يمكن ايقاظه كي يقوم بدوره كرقيبٍ ضابطٍ لإيقاع الحياة.
وتلك مهمة مجتمعية جديرة بالاهتمام والعمل، لأنها الوسيلة الوحيدة التي تؤدي إلى مجتمعٍ منتظمٍ وراقٍ وسليم.
فبدلًا من أن نزيد عدد عناصر قوى الأمن الداخلي أو الحرس أو الشرطة البلدية وغيرها لمراقبه أداء الناس وسلوكهم، فإنه من الأجدى العمل على تفعيل وإحياء دور الضمير في كل منّا لأنه الحارس الوحيد الذي يغني عن كل الحراس الآخرين في تنظيم حياة الجميع. وهو أول من يكتشف الجريمة أو الخطيئة أو الانحراف، بل اكثر من ذلك فإنه يعرف النوايا قبل وقوع الخطأ فيقوم بدوره العظيم رادعًا صاحبه عن ذلك بقناعة والتزام، مولدًا حالة انضباط فردية سرعان ما تتحول إلى حالة انضباط عامة في المجتمع ككل!
الأمر يتطلب ورشة تربوية اجتماعية سيكولوجية تشارك فيها العائلة والمدرسة والمجتمع الاهلي والدولة بكل اجهزتها، ورشةٌ عنوانها الضمير ومهمتها ايقاظه في نفوس الشعب، إنها مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة، وهي بلا شك مهمة شريفة تستحق أن تبذل من أجلها كل الجهود وقد تستلزم وقتًا طويلًا، لكن نتائجها رائعة على صعيد بناء المجتمع الصالح والمتقدم والحضاري.
وبالمناسبة، فإن هذا الأنا الآخر، هذا الحارس الدائم للذات، لا يتقاضى راتبًا ولا يكلف أعباءً ولا يتهاون في وظيفته، كل ذلك فيما لو نجحنا في إيقاظه وعدم الاستسلام أمام نومه العميق لأنه لا بد أن يستيقظ... لا بد!