- En
- Fr
- عربي
نحو حياة أفضل
في زمنٍ تسوده السرعة، وتفرض فيه التكنولوجيا إيقاعًا محمومًا على حياتنا اليومية، يبرز فن «العيش البطيء» كدعوةٍ ملحّة للعودة إلى البساطة والهدوء. هذا المفهوم لا يعني الكسل أو التأجيل، بل هو فلسفة حياة تدعو إلى التمهّل، التقدير، وعيش اللحظة الراهنة بوعيٍ كامل.
ظهر مفهوم «العيش البطيء» (Slow living) للمرة الأولى في إيطاليا في أواخر الثمانينيات، كردّ فعلٍ على هيمنة الوجبات السريعة، من خلال ما عُرف حينها بـ «حركة الغذاء البطيء» (Slow Food)، ثم تطورت الفكرة لتصبح فلسفة متكاملة تُعنى بتغيير نمط الحياة، وتحثّ على تبنّي إيقاعٍ متوازن يقدّر العمق والبساطة على حساب العجلة والكمّ.
يقوم هذا النهج على التمهّل في التعاطي مع أبسط تفاصيل الحياة، كأن نتناول الطعام بهدوء، ونمشي من دون استعجال، وننجز الأعمال المنزلية والمهمات اليومية برويّة، بحسب ما توضح المعالجة النفسية والأستاذة الجامعية ديالا عيتاني، وذلك بهدف أن نمنح كل نشاط حقه من الانتباه والتقدير، فنستمتع بالطريق بدلًا من التركيز فقط على الوجهة النهائية.
وتعلّل عيتاني أنّه عندما نتباطأ قليلًا، نكتشف في كل فعلٍ نقوم به متعةً خفية، وندرك أنّ الحياة ليست مجرد سلسلة من الأهداف يجب أن نلهث لبلوغها. فالعيش البطيء فنٌّ يشجعنا على الانغماس باللحظة الحاضرة بعمقٍ، كي ننعم بالسكون ونُبعد شبح القلق الذي ينبع، في معظم الأحيان، من التفكير المفرط في الماضي أو التوجّس من المستقبل.
الإصغاء لاحتياجات العقل والجسد
تؤكد عيتاني أنّ هذا النمط المعيشي لا يتطلّب تغييراتٍ جذرية، بل يمكن اتباعه عبر تمارين بسيطة مثل التأمل، أو الانتباه إلى الحواس في أثناء القيام بالأنشطة اليومية، كالتلذّذ بنكهة الطعام، أو الإصغاء لصوت الرياح، أو تحسّس ملمس الأشياء من حولنا…
كذلك، يساعدنا قضاء الوقت في أحضان الطبيعة على استعادة الإيقاع المتوازن لأجسادنا وعقولنا، سواء عبر التنزه في الحديقة، أو الاستمتاع بمنظر الغروب، أو حتى غرس النباتات. فإنّ هذه اللحظات تمنحنا الشعور بالسكينة الذي نفتقده غالبًا في زحمة الحياة اليومية.
ومن أسس العيش ببطء أيضًا، الإصغاء المستمر لاحتياجات الجسد والعقل. فحين نشعر بالتعب، يجب ألا نتجاهل حاجة الجسم إلى الراحة والعقل إلى الهدوء، وعلينا أن نلبّي هاتين الحاجتين من دون الشعور بالذنب.
إيجاد مساحة للراحة
في المقابل، يفرض فن «العيش البطيء» التخلّص من بعض الأنماط السلبية بغية إيجاد التوازن الداخلي والراحة النفسية. في هذا السياق، تشدّد عيتاني على ضرورة عدم الإفراط في الالتزامات اليومية. فتلبية كل دعوة أو التزام في سبيل إرضاء الآخرين، أمرٌ يستنزف طاقتنا ويجعلنا أسرى لجدولٍ مزدحم، نركض فيه خلف المهام بلا توقف. لذا يدعونا هذا الفن إلى تقليل الالتزامات، عبر انتقاء الأولويات والتركيز عليها، مقابل تقليص الأعباء غير الضرورية. كما يحثّنا على عدم التردد في قول كلمة «لا» بثقة حين نشعر بأننا نُحمَّل فوق طاقتنا. فإعطاء أنفسنا مساحة للراحة ليس ترفًا، بل ضرورة لنواصل العطاء بجودة وشغف.
إلى ذلك، يدعونا النهج المذكور إلى تبنّي البساطة والتخلي عن السعي وراء المثالية، لا سيما في ظل المعايير غير الواقعية التي تروّج لها وسائل التواصل الاجتماعي. فالمطلوب أن نتقبل عيوبنا ونواقصنا، ونوجّه انتباهنا نحو التقدم لا الكمال، سعيًا إلى سلام داخلي وتقدير أعمق لذواتنا.
وفي عصر الهواتف الذكية والشاشات المتعددة، إنّ تحديد أوقات للانفصال عن التكنولوجيا بات أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فالعيش البطيء يعني التحرر من أسر التنبيهات المستمرة، والانفتاح نحو تواصل أعمق مع من حولنا، سواء كانوا أفراد العائلة أو الأصدقاء، بعيدًا عن الحاجز الرقمي.
الاستمتاع باللحظات العابرة
أخيرًا، يعلّمنا فن العيش ببطء أنّ السعادة لا تُختصر في الإنجازات الكبرى، بل غالبًا ما تختبئ في الأشياء الصغيرة: فنجان قهوةٍ صباحي، ضحكة دافئة مع الأحبّة، أو كتاب يلامس الروح... فالقدرة على رؤية الجمال في التفاصيل اليومية البسيطة هي من أعظم مهارات الحياة التي يمكن اكتسابها عبر هذا الأسلوب في العيش.
وفي زحمة عالمٍ يدفعنا باستمرار إلى العمل بسرعةٍ أكبر لإنجاز المزيد، يغدو اختيار العيش ببطء قرارًا شجاعًا. إنه تذكير بأنّ الحياة ليست سباقًا، بل رحلة تستحق أن نعيشها بكامل تفاصيلها. ومن خلال التمهّل، والوعي، والاستمتاع بما نملك، يمكننا استعادة الصلة بذواتنا وبالعالم من حولنا، وإيجاد السلام الداخلي الذي نصبو إليه جميعًا.











