نافذة

فوج الأشغالِ إسمنتٌ وأرغِفة
إعداد: روني ألفا

فتّشوا في دليل عناوين أي لبناني عن عنوان لبنان. الجيش عنوان اللبنانيين. ليسوا بحاجةٍ إلى خدمة غوغل ليحددوا مكان إقامته. يسكن الجيش في بيت الضمير. ليس بالإمكان التكهن بانضباطه عن بُعد. التقارير والمقالات والتحليلات تصيب شيئًا من جسده. روح الجيش اللبناني عصيّة على الكتابة. حياة شبه نسكيَّة يعيشها العسكري. كل مهمةٍ يخرجُ إليها تعيدُهُ إما إلى جدرانِ غرفته الصغيرة وإما إلى صورةٍ على جدران.

 

دخلتُ زائرًا على العديد من ضباطه. أسرتهم بمحاذاةِ مكاتبهم. في أسرّةِ الجيش يزوركَ النعاسُ بحذر. أسرّتنا وثيرة. أسرّتهم ضيّقة.

 

من شظفِ العيش ورصانةِ الإنضباط يعيشونَ كما الرهبان طاعةً وفقرًا وعفّة.

 

فوجُ الأشغالِ بعد انفجارِ المرفأ رفعَ أنقاضَ الفاجعة. مع المنكوبين حملَ عناصره خشبًا وإسمنتًا وأرغفة. بكى الجنودُ مع سيدةٍ طاعنةٍ في الوطن أبَتْ إلا أن تعزفَ على بيانو الرجاء إصرارَها على مزاولةِ حبّها للشيخوخة من على شرفتها المتهاوية.

لم يتوقف هذا الفوج عن تسديدِ دمه ضريبةَ قيمةٍ مضافة. من زمنِ عناقيدِ الغضب رصدَهُ العدو. كان مسحُ الأضرارِ الذي أنجزه موازيًا لقدراتِ جيوشٍ مجهزةٍ بالأحدثِ والأفعل. أن تمسحَ ضررًا بإيمانكَ وعقيدتِكَ القتالية أقوى بكثيرٍ من أن تمسحَه بمجسّاتٍ حساسةٍ ومعداتٍ متطورة.

 

في حرب تموز ٢٠٠٦، دَمّرَ العدو ثكنةَ الفوج ما أدى إلى استشهادِ أربعةِ ضباطٍ وخمسةِ عسكريين. دفعَ يومذاك ثمنَ ترميمِه للجسور والطرقات التي قصفَها الإسرائيليُّ بحقدٍ استثنائي. كلفة إعادةِ تدميرِ جسورِ لبنان كانت مرتفعةً جدًا على الكيانِ الغاصب.

 

اعتمد خطة أُقتُل حتى لا يُرَمِّموا. شهداءُ الفوج أكملوا مدَّ الجسورِ من مثاويهم.

 

في نهرِ البارد نزفَ الفوج جراحًا ساخنة. سقطَ له سائق آليةٍ وتعرَّضَت مجنزراتُهُ لخسائرَ كبيرة. سائقْ سقط وسائقٌ أكمل.

كل تاريخِ فوجِ الأشغال تاريخُ تحصينات. من الباطون المسلَّح إلى الإيمانِ المسلّح صبَّ الأعمدَةَ ورفعَ الجدران وشيّدَ المحارسَ وعمّرَ الأبراجَ على الحدود الشمالية وخدمَ الأفواجَ الباقيةَ وحصّنهم في ثكنات منيعة.

 

فوجٌ فيه بُناةُ وطن. شعارهُ يتوسّطه برجٌ. من أين يدخل قطّاعُ الطرق عليه؟. علوُّهُ يدوِّخُهُم. حجارتُه تسحقُهُم. بوابتُهُ فولاذٌ وحرّاسُه لا يخلدون لنَوم. إطارٌ أسوَد يحمي البرجَ في الشعار. طرقاتٌ وجسورٌ ومعابر. كل ما تمر عليه العَجَلَةُ ويربطُ المناطقَ بعروةٍ وثُقى. شَقُّ الطرقات فيه شيءٌ مِن الجراحة. القسطلُ يفتح شرايينَ القلب. الفوجُ يفتح شرايينَ الوطن. أقرأُ في تضاريسِ الشعار. لونٌ أحمر في أفقِهِ. دمٌ

أدونيسيّ. يسيلُ من جرحٍ مقدّس. قبل أن تشربُه الأرضُ يتحوّلُ إلى حديقَةِ زهور.

منذ مدةٍ قصيرة تفقّدَ العماد قائد الجيش فَوجَي الهندسة والأشغال. أثنى على جهدَيهِما. الأول في أدائه المتقن في مواجهةِ أسلحةِ الدمار الشامل وفي تقنياته المتقدمة في تطوير مهارات خبراء التفجير وعلماء الروبوتات، والثاني في جهودِ رفعِ الركام وفرزِ الموادِ الخطرة في المرفأ وتحييدِها كما في التنسيق مع الفِرَقِ المحلية والأجنبية. فَوجان لَملَما تداعيات الكارثة. كل ذلك بصوتٍ خافت. ونوشٌ ومجنزراتٌ وآلياتٌ ثقيلة تعمل بكواتم صوت. كاتمُ صوتٍ في حنجرةِ الجيش ليبقى صوتُ لبنان عاليًا.