ثقافة وفنون

فوزي المعلوف
إعداد: وفيق غريزي

قيثارة تعزف على هوى الروح

فـرع باسـق من الدوحـة المعلوفـية، أينع قبل الأوان، وقدّر له أن يمـر بالحـياة راكباً "بساط الريـح" متعجلاً الوصـول الى الملأ الأعلى. ترعـرع ويفـع بين ضــفاف البردوني وأكتـاف الغـوطة، في ظـل والده العلامـة عيسى اسكـندر المعـلوف. ولكن الطـموح غرّر به فهجر الوادي الحالم والجـو الباسم الى البرازيل، أرض المداخـن والمـناجـم، ما ثناه عن عزمه رجـاء الأهـل ولا إنـذار الوجدان:

 

" قسماً بأهلي لم أفارق عن رضى             أهلي وهم ذخري وركن عمادي    

  لكن أنفت من الحياة بموطني               عبداً وكنت به من الأسيادي"

 

الرومنطيقية الملحمية

وسم فوزي المعلوف شعره بالتجديد، وشاء منذ بداياته في النظم أن يأتي بالمبتكرات من الأفكار والأشعار. وظل منذ نعومة أظافره الى وفاته ذلك الطامح الى التجديد في الشعر وقد قال فيه الدكتور زكي المحاسني في مجلة "الرسالة" في 15/11/1957:

" لأجدن فوزي أول مجدد للشعر الحديث بعد الشاعر خليل مطران. فإلى فوزي يعود البدء في وضع أشعار منطلقة القوافي، وفي إتباع الأسطر الطوال بأسطر قصار أو بكلمات رتيبة. وإليه يعود البدء الحديث في إتباع الموسيقى اللفظية، وتناسق الكلمات في حروف متشابهة الجرس. لقد كان يعرف صنع الحرف، ولعله قد اهتدى مبكراً الى أن الكلمة وحدة فنية، وأن الحرف جزء مكين في هذه الوحدة."

من روائعه الشعرية "بساط الريح"، وهي عمل شعري رومنطيقي ملحمي، يعمق فيها وجدان الشاعر فوزي المعلوف ويتسامى منطلقاً خياله. وهو يرحب ويبدع تصويراً، وتتنوّع صافية متناسقة موسيقاه ويرق لفظاً، وينـشرح وقعاً، وينطلق إيحاءً، ويطـوف في عالـم يختـلف عن عالمه الأرضـي. وتؤكـد هذه المـطوّلة الشعرية على قدرة الشاعر العربي الأصيل على العـطاء الشعري الملحمي، ليدحض بذلك أكثر من إفتراء على الشـعر العربي باتهامه بالعجز عن فعل الخيال العملاق، ولتكون "على بساط الريح" واحداً من المعطيات الملحمية العربية المعاصرة، "كـ وادي عبقر" لشفيق المعلوف،" و"عيد القدير"، "عيد الرياض" لبولس سلامة. وكما قدرت اللغة العربية على احتواء ترجمة سليمان البستاني لإلياذة هوميروس، فهي أفسحت رحابها لفوزي المعلوف في "على بسـاط الريح". وما كان ذلك إلا مـتابعة واستـمراراً لما عرفـه الشـعر العربي الملحمي عند عنترة بن شداد، وعمرو بن كلثوم في الجـاهلية، وأبي تمام في العصر العباسي الأول، والمتنبي في العصر العباسي الثالث وسواهم، كما يرى الدكتور كاظم حطيط في كتابه "أعلام وروّاد في الأدب العربي".

ينطلق شاعرنا عميقاً في تأملاته، وتزداد حدة مشاعره، ويترنح في مأساة قلبه، ويندفع الى العزلة، "ويرحل في طائرة تتصاعد رائدة في الفضاء الرحيب، ويتخيل، ويغوص مستجلياً سرّه الإنساني، والحياة. وينظر ويستجلي عالم الفضاء والروح، ويدفعه كل ذلك الى إنشاء ملحمته الجديدة "على بساط الريح" ومنها النص "عبد وحرّة"، ويتسم هذا النص بنزوع الى الانعتاق وتوق عارم الى الحرية، وتحليق الخيال، وسمو العاطفة والأحاسيس، وصفاء النزعة الإنسانية، والنقاء الروحي".

يحتوي نص "عبد وحرّة" إحساس فوزي المعلوف العميق بتعدد، وتنوّع أغلاله. وهو يراها تتجسد في فسحة العمر الضيقة، والشرائع الجائرة، ومطلقية القضاء والقدر المحكمة، وزيف التمدن، والمال، والشهرة، والحب المبرّح، والعقل، والشعور، حتى "لا حرية" عنده أو في اعتقاده إلا لروحه... وما هي خلصت وانطلقت حرّة طليقة الجناحين إلا بفعل صفائه الشعري، ولكي تحيا في عالم الخلود بل في رحاب الأبدية الوارفة الغنّاء، أو في" جنات النعيم" أو ما امتنع الأنبياء عن البوح به".

تميز هذا النص الملحمي بالخصائص التالية: صوفية التطلّع والشفافية، تجهّم الرؤية وعدلها، علانية وموضوعية وإحكام، التجلي الواقعي وحدّة الصراحة، فنية التعبير، التمادي الرومنطيقي، عمق الشعور بالذات، الإشراق وروعة الوصف الملحمي.

عانى الشاعر فوزي المعلوف من أسره الحسّي، واتساع المدى بين ما هو في جسده، وبين ما هو في عالم روحه:

 

" بين روحي وجسمي الأسير                            كان بُعد ذقت مرّه  

  أنا في الأرض وهي فوق الاثير                        أنا عبد وهي حرّة"

 

يبلغ فوزي عبر طيرانه، وفي تساميه "صحوة الإشراق الصوفي، أو التجلي الروحي، حيث لا حدود أو فواصل بين الأديان أو الشرائع، بل الأمر هو للصفاء الوجداني فحسب. وينطلق مع خياله الخلاّق والملحمي في تصوير أبعاد رؤياه، وترحب صورته حتى لا مدى يُحد أو ينتهي. ويبرز رائعاً وصفه الملحمي في مدى المطلق".

 

أغاني الأندلس... والغزل

أعجـب بهـذه الموشحات المـنوعة الرائعة الشعر حـيث تتـناغم فيها موسيقى الألفـاظ والمعـاني، الشاعر الإسباني فيلا ساسا أمير الشعر في اسبانيا، وصفها بقوله: "أغان نسج فيها فوزي على منوال شعراء الأندلس الأقدمين، في الرقة وتنـويع الأوزان والقـوافي.. هكذا تغنى شعراء البلاط الأموي في قرطبة وشعراء بني ناصر في غرناطة، وبمثل هذا الشدو الشجي تغنى المعتمد آخر ملوك إشبيلية".

احتل الشعر الغزلي حيزاً بارزاً في شعر فوزي المعلوف، وغزله شيّق لبق، مهذّب الألفاظ والمعاني، بعيد كل البعد عن الإباحية والتبذّل والحسية، وفيه الكثير من السذاجة الروحية والمستحبة، والعذر لمن سقط شهيد العيون في ساحة الحب، حسب قول رياض المعلوف.

"تقولين إني سلوت فممن                           تسقطت ذلك، يا قاسية؟

ألم تفضح النظــرات غـــرامـي                  وقد أصبحت جمرة حامية؟

 وهل يختفي العاشق المستهام                   ولـــو لبــس الظــلمـــة الداجــية؟

 ألم تشعري بأنيني يسير                        إليك مع النسمة السارية؟

ولو لم يبرّده ثغر النسيم                        لأحرق وجنتيك الزاهية؟

فروحي بأجمعها بين يديك                     على قدميك هوت جاثية..."

 

شعره ومكانته

 أعطى فوزي المعلوف الشعر في أكثر من فن ونوع، فقاله في الحب، والطبيعة، والإجتماع، والوطنية، والرثاء، وبرز في نتائحه الإتجاه الرومانسي، والنزعة الإنسانية، والعمق الوجداني، والتوجه الفلسفي.. والبراعة في الوصف، والصفاء في اللغة الشعرية.

 أما فـي ما يتـعلق بمكانته الشعرية، فقد ظهر أثر شاعرنا في أعمال عدد من الشعراء العرب المعاصرين، ولا سيما أصحاب المطولات الشعرية، والمعطيات الملحمية والإتجاه الرومانتيكي المأساوي، والإشراق الصوفي. ويصدق فيه قول الشاعر الإسباني فرنسيسكو فلاستاسا: إن فوزي المعلوف كأنبياء التوراة علق ربابته على غصن صفصافة لتعزف على هوى الروح ناطقة بما في لغة الطبيعة من نبرات خفية تهمس بها الألوهة.