ثقافة وفنون

فيروز وما فوق الجمال

جان دارك أبي ياغي

 

تستمر فيروز في إغراء الباحثين الذين يحاولون إلقاء الضوء على الحالة الجمالية التي تمثّلها من زوايا مختلفة. وبعد العديد من الكتب والأطروحات التي صدرت في أميركا وأوروبا والعالم العربي ولبنان، ناقشت رئيسة تحرير مجلة «الجيش» الزميلة إلهام نصر تابت، أطروحة دكتوراه في العلوم الاجتماعية بعنوان «الظاهرة الفيروزية: مكوّناتها وتأثيراتها»، ونالت شهادة الدكتوراه بدرجة جيّد جدًا مع تهنئة اللجنة، وتوصية بنشر الأطروحة، التي اعتُبرت «إنجازًا استثنائيًا وعلامة فارقة بين الأبحاث التي تقدّم في المعهد».

 

ضمّت اللجنة الدكاترة: بسام الهاشم مشرفًا وناصيف نعمة رئيسًا، والأعضاء شوقي عطية ولبنى طربيه وزينب مروّة، وتمت المناقشة في المعهد العالي للدكتوراه في كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية - الجامعة اللبنانية.

في خضم الواقع المرير الذي نعيشه أتى هذا العمل ليعيد تذكيرنا بلبنان الجميل، لبنان الثقافة والحضارة والجمال الذي زرعت حنجرة فيروز صورته البهية في وجدان أجيال وأجيال من اللبنانيين والعرب، وحملتها إلى أصقاع العالم.

 

نجمة الأجيال المتعاقبة

وتوضح الباحثة في مقدمة أطروحتها أنّ حضور فيروز على الساحة الفنّية وفي الوجدان الجماعي للبنانيّين والعرب، يستمر على مدى نحو سبعة عقود مشكّلًا ظاهرةً تستحق الدراسة والتحليل. وتشير إلى أنّ فيروز وسط التحوّلات كلها ما زالت محافظة على حضور متوّهج لبنانيًا وعربيًا وعالميًا، وكأنّها علامة ثبات في أزمنة التحوّل، أو كأنّها نجمة الأجيال المتعاقبة. ففي صيف ٢٠١٨، اعتبرتها قائمة مجلة فوربس الاقتصادية الأميركية للنجوم العرب على الساحة العالمية نجمة «فوق التصنيف»، ووضعتها في مرتبة استثنائية فريدة هي «أعظم نجوم الفن-الذين ما زالوا على قيد الحياة- لكل العصور» All-Time Great. أي حفلة تحييها تشكّل حدثًا فريدًا، أي ذكر لها يحرّك وسائل الإعلام ويثير في مواقع التواصل الاجتماعي عاصفة لا تهدأ بسهولة.

ومن الأمثلة في هذا السياق، أنّ رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون الذي زار لبنان مرتين في أقل من شهر عقب انفجار مرفأ بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠، ختم زيارته الأولى بعبارة «بحبك يا لبنان»، واستهلّ زيارته الثانية عشية مئوية لبنان الكبير، بلقاء فيروز في منزلها، حيث قلدها وسام جوقة الشرف من رتبة قائد، وهو أعلى تكريم رسمي في فرنسا. وقد شغلت هذه المبادرة وسائل الإعلام المحلية والعالمية ومواقع التواصل الاجتماعي لأيام، وقيل الكثير عن دلالاتها، وعن فيروز كرمز وطني لا يختلف عليه اللبنانيون.

 

الدوافع والأسباب

إنّ أبرز ما دفع الباحثة إلى اختيار هذا الموضوع هو كون الأبحاث التي أُجريت سابقًا حول الظاهرة المعنية به، ركّزت بشكل أساسي على الأعمال التي قدّمتها فيروز مع الأخوين رحباني، من زاوية جماليتها الشعرية والأدبية ومضامينها الوطنية والإنسانية، فضلًا عما قدّمته على صعيد التجديد في مجالات الموسيقى والغناء والمسرح الغنائي. ومع أنّ ثمة إجماعًا لدى كل الذين تناولوا هذه الظاهرة على جمالية صوت فيروز، لم تجد الباحثة من بينها ما يتناولها سوسيولوجيًا من زاوية تأثير صوت فيروز في المُتلقّين، أو تأثير أدائها وشخصيتها ومسلكيتها في الفن والحياة في جمهورها. لذلك رأت أنّها أمام ظاهرة فنّية ثقافية قد يستوجب فهمها وتفسيرها مزيدًا من القراءات.

 

إشكالية البحث

طرحت إلهام نصر تابت سؤالًا أساسيًا مفاده: «كيف استطاعت فيروز التي بَنَتْ شهرتها في حقبة معيّنة، لها طابعها التاريخي والثقافي والاجتماعي، أن تحافظ على نجوميتها خلال عقود متواصلة، على الرغم ممّا شهدته هذه العقود من تغيّرات وتطوّرات، على مستويي الواقع العام وإنتاج الفن وتلقيه». وتفرّعت من هذا السؤال عدة أسئلة، وضعت البحث «أمام إشكالية التعارض بين واقع الصورة الأيقونية التي ارتسمت لفيروز، انطلاقًا من عملها مع الأخوين رحباني، وواقع استمرار هذه الصورة بعد افتراقها عنهما وعملها مع زياد رحباني الذي قدّمها بصورة مغايرة. فمن المعلوم أنّ مكانة فنان أو عمل فنّي معين تتغير مع تحولات الزمن صعودًا أو هبوطًا، لكنّ مسيرة فيروز حافظت على مكانتها طوال عقود متواصلة. وبالتالي، كان لا بدّ من التفكير في دور العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية في صنع الظاهرة الفيروزية، مقابل دور موهبة فيروز وشخصيتها ومسلكيتها الفنية والإنسانية في المجال نفسه».

وخلص البحث إلى «تأكيد فرضيته الأساسية التي قالت بوجود علاقة بين صوت فيروز وأدائها وحضورها وبين شعور المتلقين بالجلال والرهبة والانبهار، ما يجعلها رافعة فنية للمؤلّفين والملحّنين الذين عملت معهم جميعًا». واستنتجت الباحثة أنّ «قدرة فيروز على التأثير العميق في ثقافات وبيئات وفئات أعمار مختلفة، نابعة بدرجة أولى من الحالة الجمالية الاستثنائية التي تمثلها، وهي الحالة التي يصفها الفيلسوف كانط بما فوق الجمال أو بالجلال. وهذا الجلال يستند إلى مواهب فيروز وخبراتها من جهة وإلى مسيرتها المجلّلة بهالة من النقاء والقدسية في نظر المتلقين من جهة أخرى».

 

في النتائج

تضمنت الأطروحة ثمانية فصول معزّزة بمئات المراجع، وقامت الباحثة من خلال أربعة منها بعمل توثيقي تحليلي، تناولت فيه: الإطار التاريخي الذي نشأت فيه الظاهرة الفيروزية، ومسيرة فيروز مع الأخوين رحباني، وصورة الوطن كما عكسته أعمالها معهما وصورتها بصفتها البطلة المطلقة في هذه الأعمال، ومن ثم عرضت مسيرة فيروز المستمرة بعد انفصالها عن الرحبانيين. كما خصصت الباحثة فصلًا للدراسة الميدانية التي أجرتها «بهدف الولوج إلى وجدان الفيروزيين والوقوف على أسباب تعلّقهم بفيروز وتقديرهم الاستثنائي لها، ومحاولة التمييز بين ما هو اجتماعي منها وما يعود إلى فرادة الفنانة. وقد ضمت هذه الدراسة عيّنة مؤلفة من ٥٦٠ شخصًا ينضوون في مجموعات فيروزية على موقع فيسبوك، بالإضافة إلى ١٦ مقابلة».

وبينت هذه الدراسة أنّ إعجاب الفيروزيين بمطربتهم حصل بالنسبة لغالبيتهم في عمر الطفولة، وفي أجواء المنزل العائلي، وكان التأثير شديد الوضوح لدى من اقترن سماعهم لها لأول مرة بمشاهدتها على شاشة التلفزيون أو في المسرح، ما دفعهم إلى التعلّق بها.

كما بيّنت هذه النتائج أنّه من بين عناصر الأغنية المتمثلة بالشعر والموسيقى وصوت المغنيـة وأدائهـا، يمـارس صـوت فيـروز التأثيـر الأقـوى لـدى جمهورها. هذا الصوت الذي جعل حليم الرومي يرمي العـود من يده ويستمـع إليها مذهولًا حين كان بصـدد إجراء اختبار لأهليتها للعمل كمطربة في الإذاعة اللبنانيـة، ما زال يمـارس التأثير نفسه على الملايين منذ سبعين سنة.

 

الأيقونة الحية

أما بالنسبة إلى صورة فيروز لدى جمهورها فبينت الدراسة الميدانية أنّ الرمزية القوية لفيروز تؤشر إلى استمرارية صورتها كأيقونة كما عكستها كتابات النخب الثقافية والإعلامية على مدى عقود ماضية، وهي صورة لا تنفصل عن تلك التي تظهرت من خلال أدوارها المسرحية. ويبدو أنّ الصورة ترسخت وباتت تنتقل من جيل إلى جيل، فوصف فيروز كرمز جاء من مختلف الفئات العمرية، وإن كانت الفئة الأصغر قد رأتها بدرجة أولى رمزًا فنيًا.

وتنسجم الصفات التي أُعطيت لفيروز مع الصورة الأيقونية التي رُسمت لها، ففي طليعة هذه الصفات نجد النقاء، ومن ثم الوطنية، فالبساطة والقداسة والحلم والوفاء والترفع والصلابة، أي أنّها تختزن كل ما هو سامٍ، وصولًا إلى القداسة في نظر البعض. وقد خصّها جمهورها بمكانة مميزة كرمز وطني وفني، وقدّر مسلكيتها الفنية والشخصية، فضلًا عن صبرها على آلام كثيرة، وابتعادها عن صخب الحياة التي يعيشها عادة الفنانون والمشاهير.

أخيرًا، نختتم هذا العرض بما قالته الباحثة في الإهداء، إذ أرادت هذا العمل الذي أتى في خريف العمر زهرة طموح وأمل تقدّمها إلى بناتها الثلاث، لتقول لهنّ: هناك دائمًا وقت للإنجاز. وإلى زوجها الذي كان لها سندًا، دعمها وشجعها على المتابعة والاستمرار، في لحظات قاسية أوشكت فيها على التراجع.

وتقول أيضًا: «هذا العمل هدية متواضعة للسيدة فيروز التي زرع صوتها الجمال في أعمارنا. وهو أخيرًا تحية لروح الشاعر الكبير أنسي الحاج، الذي فتح أمامي أبوابًا واسعة لاكتشاف الحالة الجمالية الاستثنائية التي تمثّّلها فيروز».