موضوع الغلاف

في الوطــن والذاكرة والتاريخ

تعرف الأوطان والشعوب خلال تاريخها العديد من الأحداث الكبيرة التي تؤثر عليها سلباً أو إيجاباً. غير أن الشعوب الحية القادرة على التقدم والنهوض هي تلك التي تستقي العبر مما حصل في تاريخها, فتستفيد من تجاربها المريرة وتحفظ لإنجازاتها حيزاً رحباً في الذاكرة الجماعية.
ومقومات الوطن لا تكتمل من دون نبض الذاكرة الجماعية لأبنائها. فإلى هذه الذاكرة تفيء الشعوب الحية لتستمد من تجاربها ما يقوي لحمة أبنائها, ويثري مشاعر إنتمائهم الى أرض وتاريخ وإرث يشكلون معاً الإطار الذي يتكون فيه الوطن.
وفي الذاكرة الجماعية لكل شعب محطات تبنيها أحداث وتجارب هامة عرفها عبر تاريخه وترسخت في وجدان أبنائه منتقلة من جيل الى آخر. وإذا كانت أهمية الحدث عاملاً حاسماً في تقرير مدى رسوخه في الوجدان الجماعي, فإنها ليست العامل الوحيد في ذلك. إذ ثمة عوامل أخرى تعمل على ترسيخ الأحداث في الذاكرة الجماعية وتلعب بالتالي دورها في بناء هذه الذاكرة.
من هذه العوامل إستمرار الخطاب حول حدث معين ليصار الى تناقله من جيل الى آخر. والخطاب هنا تقصد به النصوص التاريخية “باستخداماتها المتعددة في الأبحاث والمناهج التعليمية”, بقدر ما تقصد به الأخبار والمرويات والأحاديث اليومية التي تنقلها وسائل الإعلام أو يتناقلها الناس.
وقد يكون الخطاب بشكله الأخير أفعل وأقدر. فعندما نقرأ في كتاب التاريخ أن العدو احتل منطقة ما في وطننا وقتل العديد من أهلها, قد لا ندخل في تماس مع الحدث بصورته الحية. وبالتالي فما الحدث إلا حدث مر, وما عدد القتلى ربما سوى رقم. لكن الخطاب الذي ينقل إلينا الصورة الحية للأحداث والتجارب المعاشة, هو الذي يحدث الأثر العميق ويؤمن بالتالي بقاءه في الذاكرة وإنتقاله من جيل الى جيل.
الصورة الحية, سواء كانت صورة فعلاً, أم نصاً يجسد ما حصل, هي التي تُكسب الواقع الكثير من عوامل قدرته على التأثير والإستمرار. معها يصبح الضحايا أناساً لهم وجوه وأسماء وحكايات وعائلات, لا مجرد أرقام.
الفنون والآداب على إختلافها تضطلع في هذا السياق بدور قد تفوق أهميته الدور الذي تلعبه عوامل أخرى. والأمثلة التي يمكن سوقها في هذا المجال كثيرة. وإذا لم نشأ الذهاب بعيداً للإستشهاد بالأثر الذي أحدثته أفلام سينمائية عديدة تناولت أحداثاً تاريخية كبيرة, إذا لم نشأ ذلك, لكفانا أن نستشهد بما فعله صوت فيروز مثلاً في الوجدان الجماعي للعرب طوال عقود أعقبت غناءها لفلسطين وشعبها, فضلاً عما تمثله في الوجدان اللبناني.
النصب والتماثيل والإحتفالات في الأعياد الوطنية هي أيضاً صاحبة دور كبير في جعل الأحداث المهمة في تاريخ وطن, راسخة في الذاكرة, وقادرة على المثول في الحاضر, بحيث تصبح أحد مصادر قوة المجتمع وركائز تماسكه.
كلبنانيين, لا شك أن الإستقلال كان الحدث الأبرز والموقع الأهم في تاريخ وطننا الحديث. وأهميته لنا كلبنانيين لا تنبع فقط من كون الإستقلال هو المحطة الأبرز في تاريخ أي شعب, بل تتجاوز ذلك الى ما مثله الإستقلال على صعيد بلورة الهوية اللبنانية والروح الوطنية لدى اللبنانيين, ومن دونهما لا إستقلال ولا وطن. فقد مثّلت الموقعة الإستقلالية نقطة تحول فاصلة في ترسيخ الروح الوطنية بين اللبنانيين, إذ نشأت كتلة شعبية تاريخية إخترقت التوترات والإنقسامات الطائفية, وتوحدت حول إرادة وطنية واحدة. وكما قال مؤرخون كبار, فإن تاريخ لبنان لم يشهد تضامناً أشد من ذلك الذي حققه الشعب اللبناني خلال معركة الإستقلال.
أكثر من ذلك, كرّس الإستقلال للبنان دوراً ريادياً في المنطقة إذ اقتدت الحركات التحررية في البلدان العربية بالتجربة اللبنانية في نضالها ضد الإستعمار. كذلك تابعت الموقعة الإستقلالية اللبنانية حركات إستقلالية في بلدان عدة في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا, وعندما نجح اللبنانيون في تحقيق الإستقلال, سارت شعوب كثيرة على الطريق ذاته.
اليوم يبرز إنجاز التحرير كحدث مواز للإستقلال في السبل التي اعتمدت لتحقيقه, وفي أهميته ودلالاته وتأثيراته.
فقد كان هذا الإنجاز تتويجاً لنضال طويل بني على إرادة صلبة في مقاومة الإحتلال إنطلاقاً من الإيمان بقوة الحق والتشبث بالأرض.
وأتيح لهذه المقاومة أن تتنامى وتقوى في ظل تنامي مشاعر التأييد اللبناني لها والإلتفاف النادر الذي تحقق حولها. فكان إجماع مماثل لذلك الذي حصل أيام الإستقلال. وأصبحت مقاومة المحتل إرادة وطنية جامعة, سلاحها الأول والأهم وحدة الموقف الوطني.
هذا السلاح أفشل كل أسلحة العدو ومنع إعتداءاته الواسعة من تحقيق أهدافها. فكانت ثمار “عناقيد الغضب” تلك “الثمار المرة والعفنة” كما وصفتها إحدى الصحف الإسرائيلية. وتوالت بعدها إعتداءات بشعة كثيرة, لكن أياً منها لم تكن ثماره أفضل, الى أن لملم الإحتلال جنوده ورحل خائباً مهزوماً غير مصدّق أنه خرج من أرضنا.
لكن الخروج من أرض أنبتت مقاومة فريدة من نوعها, لم يكن سوى البداية لمرحلة أصعب بالنسبة للعدو. فأمام دهشة العالم للإنتصار الذي حققه البلد الصغير, وأمام إنكسار أسطورة الجيش الذي لا يقهر, كان لا بد للمعادلة السائدة داخل إسرائيل أن تتغير. وكما كان إستقلال لبنان تجربة تحتذى لبلدان عديدة في المنطقة وخارجها, كان التحرير الشرارة التي أشعلت من جديد إرادة المقاومة في فلسطين المحتلة.
وباعتراف الكثيرين ممن هم في مواقع قيادية أو من المنتمين الى النخبة الإسرائيلية, فإن الأزمة التي تعانيها إسرائيل حالياً بدأت إنطلاقاً مما تعرض له جيشها في لبنان من خسائر أدت الى هزيمته.
فالجدل قائم منذ عامين حول الهزيمة التي تلقاها هذا الجيش في لبنان وتأثيرها على معنوياته. وبالتالي على حالات الفرار وحالات رفض الخدمة في الأراضي المحتلة. الى مظاهر الخوف والهلع عند السكان والتراجع الإقتصادي وموجة الهجرة المعاكسة...
لذلك يحق لنا أن نفاخر عندما نحتفل بذكرى التحرير كإنجاز وطني رائع حققناه بوحدتنا وإصرارنا ودماء شبابنا ومسنّينا وحتى بدماء الأطفال والنساء. ويحق لنا أيضاً أن نروي بإعتزاز لأولادنا تجربتنا الفريدة في النضال من أجل وطننا.
والتحرير كما الإستقلال يستحقان أن يكونا في وجداننا عنواناً لما يحققه تضامننا ولما يمكن أن ندركه بتصميمنا وإيماننا.