تحت الضوء

في انتظار التصليحات... والإصلاحات: نموذج الجمّيزة لصندوق التضامن المجتمعي!
إعداد: لمياء المبيّض بساط
رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، أستاذة محاضرة في كلية العلوم السياسية - جامعة القديس يوسف.

ترك الشاب العشريني كل اهتماماته المعتادة، شمّر عن ساعديه ونزل إلى شارع الجمّيزة البيروتي يزيل حطام البيوت القديمة وزجاجها المتناثر في كل مكان.

وربطت ابنة الثامنة عشرة شعرها، اعتمرت قبعة واندفعت بكل أنوثتها إلى شارع مار مخايل، تلملم جراح المدينة وتواسي أهلها الذين فقدوا أحبّاءَ لهم، أو خسروا منازلهم وجنى أعمارهم، وتسهم في تقديم المعونات لهم، على أنواعها.

 

هنا، في هذه الأحياء التي عصف بها انفجار مرفأ بيروت في ٤ آب، مهندسون مجتمعون تحت خيمة، يقيّمون الأضرار بعد جولات ميدانية، ويعدّون مخططات التصليح، وكأنّ حجارة هذه المباني العتيقة هي بيوتهم هم.

وهناك، في أزقّة الأشرفية أو غيرها، متطوعات ومتطوعون من كل الأعمار، منتمون إلى جمعيات أهلية، يمدّون يد المساعدة لأهل المنطقة، ويستطلعون احتياجاتهم.

إنّه مشهد مليء بالعبر، وليس أمرًا عابرًا.

ومثله أيضًا، مشهد أولئك النسوة اللواتي يخصصن قسمًا من وقتهنّ ليحضّرن أطباق الطعام يوميًا لآلاف العائلات، والجمعيات التي توفّر الوجبات الساخنة وصناديق الحصص الغذائية للأشدّ فقرًا، وأصحاب الأيادي البيضاء الذين تؤمّن تبرعاتهم الأقساط المدرسية والجامعية لأبناء العائلات التي ضاقت بها الحال، أو سقفًا آمنًا لمن فقد منزلًا أو فرصة جديدة لمن يحتاج عملًا لائقًا.

هذه نماذج من مبادرات التضامن المجتمعي الذي أظهر اللبنانيون أنّهم أربابه في أوقات الأزمات. «العونة» تراث قديم في الأرياف البعيدة وهي من تجليات هذا التضامن، وقد تحولت نخوةً واندفاعًا يرغب البيروتيون في توظيفهما في خدمة مدينتهم المفجوعة، وقضايا مجتمعهم.

كذلك يؤشر الانتشار الواسع لمفهوم المسؤولية المجتمعية للشركات في لبنان خلال السنوات الأخيرة، إلى الأمر نفسه، رغم أنّ عوامل مصلحية وتسويقية أخرى تتداخل في هذا الإطار مع الالتزام المجتمعي الفعلي والصادق لأصحاب الشركات وإداراتها.

 

مأسسة التضامن المجتمعي

إنّ هذا التضامن المجتمعي الراسخ في نفوس اللبنانيين، والذي يشكّل جزءًا لا يتجزأ من تقاليدهم وعاداتهم، هو العنصر الذي يمكن أن نراهن عليه للتمكن من الصمود والاستمرار في خضمّ الانهيار الاقتصادي والمالي والمؤسساتي الذي يشهده لبنان، والأزمة الاجتماعية الخطيرة التي قد تتفاقم على الأرجح.

وتزداد فاعلية هذا التضامن إذا تمت مأسسته وتأطيره بصورة منظّمة ومدروسة، بدلًا من أن يكون متناثرًا ومقتصرًا على مبادرات فردية وأهلية مشكورة.

وفي هذا السياق، شكّلت الدعوة إلى إنشاء صندوق وطني للتضامن المجتمعي جوهر الدراسة الجديدة التي أصدرتها «لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا» (الإسكوا) في ١٩ آب الفائت تحت عنوان «الفقر في لبنان: التضامن ضرورة حتميّة للحد من آثار الصدمات المتعددة والمتداخلة».

الصندوق هو، بحسب الإسكوا، استجابة ضرورية لمعالجة الأزمة الإنسانية وتقليص فجوة الفقر والحدّ من ارتفاع نسبته نتيجةً لمختلف الصدمات والأزمات «المتتالية والمتداخلة» التي تعرّض لها لبنان، بدءًا من أثر الحرب السورية على النمو منذ العام ٢٠١١ وصولًا إلى أضرار انفجار مرفأ بيروت وتبعاته، مرورًا بالانهيار الاقتصادي وتداعيات جائحة كوفيد-١٩، حيث حذّرت من أنّ أكثر من نصف سكان لبنان باتوا يعيشون تحت خط الفقر.

نسبة الفقراء من سكان لبنان ارتفعت من ٢٨ في المئة في العام ٢٠١٩ إلى ٥٥ في المئة في العام ٢٠٢٠ فيما تؤكد دراسات أخرى أنّ النسبة تجاوزت الـ٧٠٪. أما نسبة الذين يعانون الفقر المدقع فزادت من ٨ في المئة إلى ٢٣ في المئة في الفترة نفسها.

وتشير دراسة الإسكوا إلى أنّ العدد الإجمالي للفقراء من اللبنانيين أصبح يفوق ٢.٧ مليون نسمة، بحسب خط الفقر الأعلى أي عدد الذين يعيشون على أقل من ١٤ دولارًا أميركيًا في اليوم، وهذا يعني عمليًا تآكل الطبقة الوسطى بشكل كبير.

ونتيجة انهيار العملة الوطنية المستمر منذ مطلع السنة الحالية والارتفاع الفاحش في أسعار المواد الغذائية، تراجعت القدرة الشرائية للرواتب، ما أدى إلى انخفاض نسبة ذوي الدخل المتوسط من ٥٧ في المئة في العام ٢٠١٩ إلى أقل من ٤٠ في المئة من السكان، بحسب التقرير.

وفي موازاة الدعوة إلى إنشاء صندوق التضامن المجتمعي، تشدّد الإسكوا على أهمية «الحصول على دعم الجهات المانحة لتعزيز الأمن الغذائي والصحي والنهوض بنُظُم الحماية الاجتماعية»، إذ إنّ «المساعدات الأجنبية يمكن أن تؤدي دورًا أساسيًا في دعم تنفيذ استجابات فورية، بشرط تخصيصها لتحسين الحصول على الغذاء، والدواء، واستحقاقات البطالة، والتحويلات النقدية».

وتطالب الإسكوا كغيرها من مؤسسات المجتمع الدولي لبنان بـ«تنفيذ الإصلاحات اللازمة على مستوى الحوكمة الاقتصادية، والحد من الأنشطة الرامية فقط إلى تحقيق الريع، وتعزيز الشفافية والمساءلة».

 

حماية مرحلية ومؤقّتة

في انتظار الإصلاحات المنشودة والمساعدات الخارجية، قد يشكّل صندوق التضامن المجتمعي إذا ما تحقق، فرصة لإيجاد حماية مرحلية ومؤقتة لمساعدة اللبنانيين على الاستمرار حتى تمرّ العاصفة وتأتي المعونة الدولية المنشودة.

وقد ابتدعت الدراسة آلية مبتكرة لإنشاء هذا الصندوق، تتمثل في مساهمة سنوية بـ ١٪ من قيمة أصول الطبقة الأكثر ثراء.

فلبنان، بحسب الدراسة، يسجّل أعلى مستويات التفاوت في توزيع الثروة في المنطقة العربية والعالم. وفي العام ٢٠١٩، بلغت ثروة أغنى ١٠٪ من اللبنانيين ما يقارب ٧٠٪ (أي نحو ١٥٠ مليار دولار) من مجموع الثروات الشخصية المقدَّرة قيمتها بحوالى ٢٣٢.٢ مليار دولار. وسيستمر هذا التفاوت الشديد في توزيع الثروة في العام ٢٠٢٠ رغم التوقعات بالانخفاض على أثر الصدمات المتعددة والمتداخلة.

من هنا، يجب أن تكون المسؤولية مشتركة وعادلة، وأن تتوافر إرادة سياسية حقيقية وقدرة مؤسسية على تحقيق التضامن المجتمعي اللازم وتعزيز الشفافية والمساءلة، فزيادة الشفافية بشأن الدخل والثروة من شأنها أن تمكّن وزارتَي المالية والشؤون الاجتماعية والمؤسسات ذات الصلة من تحسين الأساليب المعتمَدة لاستهداف الفقر.

في نهاية المطاف، إذا لقيت فكرة صندوق التضامن المجتمعي صدًى إيجابيًا وتجاوبًا عمليًا، وطُبّقت بالفعل، في ظلّ حوكمة تشاركية مبتكرة، ستكون شبيهة تمامًا بما حصل في الجمّيزة ومار مخايل والأشرفية: لملمة الركام والزجاج المحطّم ودعم المتضررين في بناء جدران بيوتهم وتركيب النايلون ثم الزجاج لحماية أنفسهم واتّقاء البرد الآتي والمطر، في انتظار ترميم منازلهم.

وفي المرحلة الصعبة التي تسبق تنفيذ الإصلاحات، أو حتى التي ترافقها وتنتج عنها، لا بد من جدران تضامن مجتمعي تحمي الأشد تضررًا من الانهيار، ولا بد من «زجاج» يقي اللبنانيين «برد» الفقر، وهذا دور الصندوق المقترح.

والصندوق، كمتطوعي الجميزة ومار مخايل والأشرفية، والجمعيات المدنية ليست طبعًا الحلّ النهائي والجذري للمشكلة.

طريق الحل طويل موحش، والخروج من الصدمة لا يمكن أن يكون إلا من باب استعادة الثقة بالمحاسبة والعدالة. وحدها العدالة كفيلة باستعادة ثقة مجروحة، فيما الجديّة والسرعة في تطبيق الإصلاحات قادرة على إنقاذ البلد المنهار في المدى المتوسط والطويل، وهي تحتاج إلى أيادٍ نظيفة وقلوب صادقة ونفَس شبابي تحديثي جريء، تمامًا كالتي تحتاجها أعمال الترميم والتصليح التي تجري في الشوارع المنكوبة.

جهود المتطوعين تسهم في تسكين الألم وتخفيف الأوجاع فيما يعمل المهندسون والمعماريون وخبراء التراث وغيرهم على إعادة تخطيط المدينة وإنقاذها. قد يكون لصندوق التضامن المجتمعي دور مماثل فيما لو أُتيحت له فرصة.