العوافي يا وطن

في ثلاثة عقود
إعداد: إلهام نصر تابت

كانت الجراح واسعة وعميقة، والخراب متمددًا بنجاسةٍ في المرافق والشوارع والبيوت، وحتى في الأحلام. انتهت الحرب، ولكن...
الأمل! كلمة كبيرة.
العمل... إنّه المطلوب.
على مدى ما يقرب الثلاثين سنة، شهدنا مسارًا سياسيًا عنوانه التعالي على الأحقاد والمصالح وسلوك طريق المصلحة الوطنية. مع الأسف ظل العنوان عنوانًا في معظم المراحل، وظل المسار السياسي يتأرجح على وقع الأزمات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية.
وعلى مدى السنوات نفسها، شهدنا مسارًا آخر للمؤسسة العسكرية عنوانه ومضمونه واحد: العمل، ثم العمل. بصمتٍ وتعالٍ وعطاء لا حدود له، نهض الجيش مستنهضًا الوطن. بما له من رصيد بين اللبنانيين وبما بذله من تضحيات، استطاع جيشنا أن يحتوي الأزمات كلها ويضمن الأمن والاستقرار في أصعب المراحل وأكثرها احتقانًا سياسيًا وطائفيًا ومناطقيًا...
بما امتلكه من إمكانات متواضعة كانت دومًا دون الحد الأدنى الكافي، واجه الأخطار كلها.
وقف في مواجهة العدو الإسرائيلي، حمى صمود أهله في الجنوب، وظّف سواعد رجاله في إعادة بناء جسور هدمها العدوان، رفع الركام الذي خلّفه هذا العدوان في معامل إنتاج الكهرباء، واجه الموت في حقول الألغام.  أيضًا شق طرقًا، أغاث النازحين، امتزجت دماء شهدائه بدماء أهله، وامتزج عرقه بعرقهم، لم يكن فقط حارس صمودهم، بل أيضاً شريك تعبهم، واليد الممدودة لخدمتهم حيث لم يكن لإدارات الدولة الحول والقوة.
وقف في مواجهة الإرهاب، بدماء شهدائه وعزم رجاله، نجح بينما فشلت أقوى الجيوش.
من الضنية إلى نهر البارد وجرود عرسال ورأس بعلبك، معارك وانتصارات صنعها الدم النقي. صنعتها أوجاع أمهات وزوجات وآباء ودموع أبناء. صنعتها ثياب سود وحياة شباب باتوا صورًا على الجدران.
يعلم كل عسكري أنّه اختار الحياة الأصعب. ويعلم أنّه اشترى حياته من الموت في كل مرة نفّذ فيها مهمة وعاد.
يعلم أنّ تعويضات العالم كله لن تستطيع حسم ذرة من وجع أحباب كانوا ينتظرون عودته.
يعلم ويعلم... لكنّه يذهب إلى واجبه، إلى موته ليرفع راية وطنه في بقعةٍ قدّسها دم رفيق له، ليشتري الأمان للآخرين، وليحرس أفراحهم وأعيادهم. لم تقف قلة الإمكانات يومًا حاجزًا دون قيام جيشنا بواجبه، ولم تمنعه الصعوبات من تنفيذ مهمة وإن كانت شبه مستحيلة أحيانًا.
بالشجاعة والكفاءة والالتزام انتصر في كل مرّة، وبالتضحية والجهد والنزاهة «علّا، وعمّر، ووفّر».
واجب الجيش أن يحمي ويبني.
جيشنا قام بالواجب.
واجب الدولة أن تُعنى بتجهيز جيشها وتسليحه وأن تؤمّن حقوق عسكرييه.
الدولة لم تَقُمْ بواجبها تجاه جيشنا.
جيشنا فقير، لكنّه بالقليل صنع الكثير، وقدّم نموذجًا يُحتذى.
دولتنا فقيرة!
أركانها يقولونها بالفم الملآن: الفساد، الهدر، التهرب الضريبي، المحسوبيات...
بالمتوافر المتواضع يقاتل الجيش،  فتتوقف عند كفاءته الدول وتقدّم له المساعدات. معركة تلو أخرى يكبر التقدير الدولي لأدائه، وتزداد معه الثقة والمساعدات.
لكن، ماذا لو لم يكن في مصلحة هذه الدول أن تسلّح جيشنا؟
بالمتوافر المتواضع يبني الجيش، فيُقيم المنشآت العصرية ويوفّر من مال الهبات المخصصة لمشروعٍ معين، فيصبح المشروع ثلاثة...
بحسن الإدارة والتقشّف يضمن الجيش الرعاية لعسكرييه وعائلاتهم، من الصحة والسكن والتعليم، إلى متابعة أوضاع عائلات الشهداء والمعوقين...
في المقابل، تدفع الدولة المليارات الكثيرة سنويًا بدلات إيجار. تفشل في توفير سياسة حمائية لمواطنيها، تعجز حتى عن توفير الكهرباء رغم كل ما صُرف على هذا القطاع من أموال. وتفشل في إدارة الهبات والمساعدات فتتوقف الدول عن منحها قرضًا إلا بشروط.
على مدى  ثلاثة عقود، شاهدنا جيشنا يعمل بصمتٍ في كل المجالات، وشاهدنا في المقابل الكثير من «الجعجعة من دون طحين».
على مدخل وزارة الدفاع، يمكن أن نشاهد عسكريًا يسحب من الصراف الآلي ألف ليرة، أو حتى أقل ليشتري منقوشة من بيت الجندي، لكنّه يقوم بواجبه كاملًا، قانعًا، راضيًا، متقشّفًا. في مكاتب الجيش، قد نشاهد ضابطًا يستخدم قلم رصاص لا يتجاوز طوله بضع سنتيمترات، وقد نشاهد عسكريًا يقطع أوراقًا سبق استخدام أحد وجهيها، يضعها بترتيبٍ في علبة صغيرة لاستعمالها مرّة أخرى.
في الشوارع والساحات وعلى مداخل دور العبادة، نشاهد جنودًا يحرسون مناسباتنا ويومياتنا. مهمة حفظ الأمن التي كُلّف بها الجيش مطلع التسعينيات، ما زالت مستمرة...
وفي ميادين القتال، نشاهد جنودًا يستبسلون، لم يخيّبوا أمل مواطنيهم في أي من المعارك. هؤلاء، لا تتخطى كلفة تغذية الفرد منهم يوميًا 7500 ليرة لبنانية.
على مدى ثلاثة عقود قدّم جيشنا ١٠٨٨ شهيدًا، ولأنّ لواء الجيش معقود على الوفاء، فهؤلاء لن يتحولوا إلى مجرد أرقام في سجلات. سيبقون أحياء في ضمائر الرفاق والمواطنين، وأيضًا في مستقبل عائلاتهم وأبنائهم الذي تتكفله قيادتهم بالرعاية المستمرة.
أخيرًا، حين يأتي موعد الإحالة على التقاعد، سوف يجد العسكري ما يقيه العوز، ويوفّر له حدًا معينًا من العيش الكريم، لكنّه وأيًا كانت رتبته لن يستطيع شراء شقة في أوروبا.
سوف يمضي مرتاح البال والضمير، وسيظل إلى آخر يوم في عمره وفيًا لوطنه، وحافظًا لذكرى رفاقٍ استشهدوا وشارك في حمل أكاليل زهر إلى أضرحتهم.