ذكرى الاستقلال

في ذكرى الاستقلال الثالثة والستين

الإرادة الوطنية الجامعة على طريق الحياة

قبل ثلاثة وستين عاماً ولد الاستقلال من رحم كفاح اللبنانيين، دماؤهم تخطُّ سفره، وتضحياتهم تصونه متجدِّداً، وتسمو به وحدتهم الوطنية الجامعة رفيعاً عزيزاً مكرماً. وبعد إنجاز الإستقلال، تعرَّض لبنان لكثير من المخاطر والأزمات هدَّدته في كيانه ومصيره، بيد أن جذوة الوحدة في ضمائر أبنائه لم تخمد يوماً، وبها عاد الوطن سالماً معافىً منتصراً على رياح الفتن والمؤامرات. وفي خضم ما نشهده من أحداث جسام، وتحوُّلات مصيرية في هذه المرحلة بالذات، ها هو التاريخ يعيد نفسه، فإذا بلبنان قلعة منيعة شامخة، في ظل إرادة شعبٍ لا تنكسر، وإيمانٍ عظيمٍ بالله، وبلبنان أرضاً وشعباً ومقدسات.


مقوِّمات الإستقلال

يرمز استقلال الوطن إلى سيادة الشعب على أرضه، وقراره الحر الذي يتجسَّد من خلال الدولة ومؤسساتها الدستورية الشرعية، المعبّرة عن إرادته، بعيداً عن التدخلات والتأثيرات الخارجية. وللاستقلال مرتكزات أساسية لا بدّ من توافرها مجتمعة للحفاظ على استقرار وديمومة أي بلد. أولها، الإرادة الوطنية الجامعة، النابعة من وعي مختلف الجماعات لشخصيتها الوطنية المتبلورة من خلال عوامل التاريخ والجغرافيا والتراث والقيم والعادات والتقاليد، إضافة إلى تلاقي أهداف هذه الجماعات ومصالحها المشتركة. وقد جسّد اللبنانيون عبر التاريخ إرادتهم هذه، من خلال سعيهم الدائم لتحرير وطنهم من الجيوش والقوى الغريبة التي تعاقبت على احتلال أرضه، وتحقيق استقلاله المنشود. قاوموا معاً الإحتلال العثماني لقرون أربعة خلت، ومن بعدُ الإنتداب الفرنسي، حتى أنجزوا الإستقلال الكامل في الثاني والعشرين من تشرين الثاني العام 1943. وبعد ذلك، لم يتوانوا لحظة عن تأدية واجبهم الوطني في الدفاع عن أرضهم ومقدَّساتهم ضد العدو الإسرائيلي، منذ نشأة كيانه الغاصب على أرض فلسطين العام 1948، والتصدي لاعتداءاته المستمرة، ومقاومة احتلاله أجزاءً من الأرض اللبنانية في اجتياحَي العام 1978 والعام 1982، إلى أن تجلَّت وحدتهم وإرادتهم الجامعة بأبهى مظاهرها في تحقيق الإنتصار الكبير على هذا العدو في الخامس والعشرين من أيار العام 2000.

وتتوجَّت هذه الإرادة في تلاقي اللبنانيين جميعاً والتفافهم حول علم بلادهم بعد جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وصولاً إلى التضامن الكبير بين اللبنانيين واحتضانهم لاخوتهم في الوطن والمواطنية خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان في شهر تموز من العام الحالي. ومن مرتكزات الاستقلال أيضاً وحدة الأرض والشعب، هذه الوحدة التي كرَّستها حقيقة التاريخ، وصدق العادات والتقاليد ونبلها، وأرستها إرادة اللقاء من أجل حياة مشتركة كريمة وعزيزة، والتي من دونها لا استقلال بل انقسام وتشرذم يُشرِعان الساحة الداخلية على تدخُّلات الآخرين وصراعاتهم. ولقد كرَّس الدستور أرض لبنان مساحة وحدوداً، فتمّ الاعتراف بها دولياً وأي مسٍّ بها، أو تجزئة، أو تقسيم لها، هو تهديد للوطن في جوهر وجوده. وإن اللبنانيين، أبناء هذه الأرض، المقيمون منهم والمغتربون، وأياً كانت انتماءاتهم ومناطقهم ومشاربهم، تجمعهم الهوية اللبنانية، والتاريخ العريق، والتطلعات المستقبلية، والقناعة الراسخة بالحياة المشتركة، المنبثقة من تفاعلهم وتجاربهم الطويلة، وإدراكهم مصالحهم الحيوية. ولقد أثبتت الأحداث الأليمة التي عصفت بالوطن، مدى تمسك اللبنانيين بالحياة المشتركة من خلال وثيقة الوفاق الوطني التي غدت جوهر الدستور اللبناني، وأكَّدت على نهائية الوطن ووحدة الانتماء لمختلف الشرائح المكوّنة للمجتمع اللبناني. أما ركيزة الاستقلال الثالثة فهي دولة المؤسسات، المعبِّرة عن إرادة الشعب ووحدته، والتي تتولَّى حكمه ورعايته وإدارة شؤونه، استناداً إلى مبدأ الحقوق والواجبات. كما تتولَّى حماية الأرض وتنظيم استغلال ثرواتها، وبذلك تشكل ركناً أساسياً من أركان وجود الوطن السيِّد المستقل.

ويأتي الجيش في طليعة المؤسسات المكوّنة للدولة، انطلاقاً من وظيفته الأساسية كحامٍ للوطن، وما يمثله في أذهان المواطنين من رمز لسيادة الأمة واستقلالها. فهذه المؤسسة التي تجمع أبناء الوطن على اختلاف مناطقهم وانتماءاتهم، وتصهرهم في بوتقة وطنية واحدة تستند إلى القيم والمثل العليا للمجتمع اللبناني، في ظل تنشئة عسكرية مستمدة من رسالة الجندية وقدسية مبادئها، التي تجعل من المنضوين تحت لوائها، مثالاً للرجولة والعطاء والاستعداد الدائم للتضحية بالأرواح دفاعاً عن سلامة الوطن وأبنائه. وفي هذا الإطار، يُنظَر إلى الجيش على أنه نموذج المؤسسة الوطنية الجامعة، انطلاقاً من مبدأين أساسيين وثيقَي التلاحم، الأول ويتمثَّل بالولاء الوطني المطلق الذي يتخطّى الولاءات الضيِّقة كلها، والثاني يتمثل في التعاون والتضامن. وهكذا، تُسهم المؤسسة العسكرية إلى حد كبير، في توفير الإستقرار العام في البلاد، من خلال مشاركتها الفعَّالة في بلورة الاتجاهات والتيَّارات الوفاقية في المجتمع وتنميتها.

 

المخاطر المحدقة بالوطن واستقلاله
يواجه لبنان مخاطر خارجية وداخلية، تهدِّده في كيانه ومقوِّمات وجوده، وكم تضافرت هذه المخاطر في مراحل عديدة من تاريخه، لتشكِّل أرضية خصبة لنزاعات وصراعات دفع اللبنانيون ثمنها غالياً من أرواحهم وممتلكاتهم. ومن أبرز هذه المخاطر:


أ - المخططات والأطماع الإسرائيلية:
شكَّلت إسرائيل منذ نشوئها في المنطقة مصدر حروب ومآسٍ عاناها لبنان والدول العربية على امتداد نحو نصف قرن ونيّف. فإسرائيل دولة لا دستور لها حتى اليوم، بل هناك مجموعة من الأنظمة والقوانين تسيّر أمور الحكم فيها. كما أنها لم ترسم حدودها بشكل نهائي بسبب طغيان الفكر الديني في المجتمع الإسرائيلي على ما عداه من العناصر الإجتماعية والسياسية والثقافية، والارتكاز على أسطورة أرض الميعاد التي تعتبر أن حدود أرض إسرائيل الموعودة هي من النيل إلى الفرات. أما الأطماع الإسرائيلية بأرض لبنان ومياهه وموارده فتنطلق من عدة حوافز:
أولها، ديني يتعلَّق بما جاء في التوراة عن شمول أرض الميعاد لمناطق من لبنان، وثانيها بثروته المائية التي تسعى إسرائيل للسيطرة عليها بالوسائل كافة، نظراً إلى افتقار فلسطين للمياه من جهة، وإلى رغبتها بالتوسع الجغرافي والديمغرافي من جهة أخرى. وثالثها اقتصادي وحضاري يتعلَّق بخوف إسرائيل من قدرة لبنان على احتلال الموقع الأهم في المنطقة، لما لدى اللبنانيين من طاقة مميَّزة في مجالات الثقافة والعلم والإبداع، إلى جانب قلق قادتها من التجربة اللبنانية الرائدة، القائمة على العيش المشترك بين طوائف متعددة. وكم عملت على استهداف وحدة لبنان عبر حملات التشكيك حينً والتدخل المباشر أحيانًا أخرى، لتبرهن للعالم أن النموذج اللبناني غير قابل للحياة.


ب - الطائفية:
إن الطائفية خطر يهدِّد الكيان اللبناني، فالولاء الطائفي بتجذُّره لدى الأفراد والجماعات يعيق الولاء الوطني بمفهومه الشامل والجامع. الطائفية خطر كامنٌ، وغالباً ما تتأجَّج بسببها الصراعات لدوافع محلية أم خارجية. أما الحل فهو بالعمل على تنمية روح المواطنية الحقّة، وتغليبها على النزوات الطائفية الضيقة، فيتمكَّن لبنان من الإفادة من تنوُّعه الديني وغناه الحضاري، اللذين يشكِّلان رسالته الفريدة في هذا العالم. وهنا لا بدَّ من التمييز بين الدين والطائفية، فالأول هو العلاقة التي تربط الإنسان بالخالق، والتي وإن اتخذت أشكالاً متعدِّدة فإن جوهرها واحد، تدعو إلى الإنفتاح والتسامح والإعتراف بالآخر، وتكريس الفضائل الأخلاقية والإنسانية بين بني البشر. أما الطائفية فهي استغلال الدين أو المذهب، لمصالح خاصة، فئوية أو سياسية. وبقدر ما تُحتَرَم الأديان وقدسية رسالتها، تُنبَذ الطائفية لأنها تفسد العلاقة بين أبناء الشعب الواحد. والتزام الدين يحتّم الولاء للدولة الضامنة لحقوق جميع المواطنين، فيما الانجرار وراء الطائفية يؤدي إلى التفرقة والشرذمة، وبالتالي يفقد الوطن معنى رسالته وعلة وجوده.


ج - التوطين:
سعت إسرائيل بكل ما أوتيت من قوة، وخلافاً لقرارات الشرعية الدولية، إلى فرض توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تهرباً من عودتهم إلى أرضهم، بحجة ما يشكِّلونه من عبء ديموغرافي ينزع عن إسرائيل صبغتها اليهودية الخالصة. بيد أن لبنان، بحكومته وشعبه، أكّد رفضه للتوطين انطلاقاً من تضامنه القومي والإنساني مع الأخوة الفلسطينيين إزاء دعم حقهم في العودة إلى وطنهم، إضافة إلى انعكاساته ومضاعفاته السلبية على الواقع الاقتصادي والاجتماعي للبنان تفوق قدراته، وكونه أخيراً يعتبر سابقة يمكن أن يستغلها الكيان الصهيوني مستقبلاً في سبيل تهجير مزيد من الشعب الفلسطيني إلى الدول العربية المجاورة من دون أي رادع.

 

د - التقسيم:
طُرِحَ التقسيم كحلٍ خلال عدة مراحل من موجات الاقتتال التي اجتاحت لبنان، في إطار أشكال متنوعة، مثل الفدرالية أو الكونفدرالية أو الانفصال التام. وقد أثبتت التجارب عدم واقعية هذه الطروحات. فإضافة إلى استحالة تطبيقها عملياً نظراً لمساحة لبنان الصغيرة والتداخل الديمغرافي،  بين فئاته، والتعدُّدية المتشعِّبة في المجتمع اللبناني، لم تشهد هذه الطروحات يوماً الحد الأدنى من التوافق الشعبي حولها، والذي من دونه تستحيل أن تتحقَّق، بل تتحوَّل إلى مشاريع حروب وتناحر لا تنتهي، وتؤدي إلى فقدان الوطن مبررات وجوده وجوهر رسالته في الشرق العربي والعالم أجمع. والجيش الذي يؤمن بلبنان وطناً موحداً لجميع أبنائه، يعتبر الدعوة إلى التقسيم مؤامرة على لبنان وضد مصلحة اللبنانيين، وهذا ما أشار إليه مراراً قائد الجيش العماد ميشال سليمان مؤكداً رفض أي شكل من أشكال التقسيم مهما كانت الظروف، لأنه يصب في خدمة أعداء الوطن والمتآمرين عليه، ويهدف إلى القضاء على وحدة الكيان اللبناني وسيادته واستقلاله.
 
ه - الإرهاب:
يعتبر الإرهاب من أشد الأخطار على لبنان وشعبه، ولطالما كان الهدف منه زرع بذور الفتنة بين فئات المجتمع اللبناني وصولاً إلى حالٍ من الشرذمة والتقاتل .
وقد مارست إسرائيل إرهاب الدولة عليه، خلال مراحل متعددة فارتكبت المجازر في صبرا وشاتيلا، وقانا وسحمر والمنصوري وصريفا وغيرها الكثير الكثير وصولاً إلى عدوان تموز العام 2006، كما أقدمت على تدمير العديد من محطات تحويل الكهرباء والجسور والبنى التحتية، ونفَّذت تفجيرات إرهابية داخل البلاد أدت إلى وقوع ضحايا كثيرين. كما تعرَّض لبنان في السابق ولا يزال، لإرهاب العابثين بالأمن، الساعين إلى ضرب استقرار الوطن ووحدته واستقلاله، وهم بأعمالهم هذه يقدِّمون خدمة مجانية لصالح العدو الإسرائيلي الذي يعمل جاهداً على ضرب النموذج اللبناني المناقض لطبيعة كيانه العنصري. إن مكافحة الإرهاب تكمن في التصدي الأمني له من دون هوادة، كما في إدراك أسبابه ومعالجتها عبر التخلص من واقع الفقر والتخلف والتعصب الذي تعاني منه بعض الشعوب، وتحقيق العدالة في النزاعات الدولية وتحديداً في موضوع الصراع العربي -الإسرائيلي، إلى جانب تحصين الإنتماء الوطني والولاء للدولة والعمل للمصلحة الوطنية العليا، وشعور كل فرد بأنه خفير دائم لأمن الوطن واستقراره.


الجيش والوطن

أ - في مجال الدفاع:

1 - إرث من التضحية والعطاء:
أولى واجبات الجيش هي الدفاع عن الوطن، أرضاً وشعباً، ضد أي اعتداء خارجي، وبذلك يؤمن سلامة المجتمع ويكفل له سبل الاستقرار والازدهار والتطور في مختلف المجالات. ومنذ تأسيسه رسمياً في الأول من آب العام 1945، لم يتوانَ الجيش لحظة عن القيام بواجبه الدفاعي، مرتكزاً على تنشئة وطنية سليمة، عمادها جملة من القيم الوطنية والإنسانية والعسكرية، فواجه مذ كان فتيًا عدة تحدِّيات ومصاعب أوّلها، إعلان دولة إسرائيل ونشوب حرب العام 1948، وفي 5 حزيران من العام نفسه، خاض معركة المالكية البطولية، حيث التحمت بعض وحداته مع قوات العدو الإسرائيلي في قتال شرس، تمكن خلاله من دحر العدو وتحرير القرية. ثم تابع مهامه الدفاعية إلى جانب مهام حفظ الأمن والاستقرار في الداخل، فكانت له محطات مشرقة في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية، لا سيّما في سوق الخان العام 0791، وعلى محوري بيت ياحون- تبنين، وكفرا- ياطر العام 1972، وفي صور العام 1975، وغيرها من الاعتداءات على القرى والبلدات اللبنانية المتاخمة لفلسطين، مقدّماً في هذه المواجهات مئات الشهداء والجرحى ذوداً عن الوطن وأبنائه. وخلال أحداث الفتنة التي اندلعت العام 1975 واستمرت حتى العام 1990، تعطَّل دور الجيش بمفهومه الوطني الشامل بسبب فقدان القرار الموحَّد للدولة، ما أدَّى إلى تراجع دوره الدفاعي نتيجة لهذا الواقع.

ومع توقيع وثيقة الوفاق الوطني وانتهاء الأحداث، أعيد بناء الجيش على أسس وثوابت وطنية مستمدة من نصوصها. وقد ركَّزت السياسة التوجيهية لقيادة الجيش على الأخطار التي تشكِّلها إسرائيل كعدو للبنان، وركَّزت في المقابل على دعم المقاومة الوطنية، والتأكيد على عروبة لبنان، والتزام قضايا أشقائه العرب وقيام أفضل العلاقات معهم. وكان قرار القيادة سريعاً في نشر نحو نصف عديد الجيش على خطوط المواجهة مع هذا العدو في الجنوب والبقاع الغربي. وعلى الرغم من عدم التكافؤ في ميزان القوى، لم تستطع قوى الاحتلال، المجهَّزة بأحدث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا المتطوِّرة، إرباك الجيش وإبعاده عن ساحة المواجهة، فتصدى للإعتداءات الإسرائيلية بكل الإمكانات والوسائل المتوافرة، لا سيما في عمليتي تصفية الحساب العام 1993 وعناقيد الغضب العام 1996 وعربصاليم والأنصارية العام 1997. ونتيجة لوحدة الموقف الوطني، وصمود الجيش في مواقعه، وتسارع ضربات المقاومة في حرب استنزاف قلّ نظيرها، اضطر الجيش الإسرائيلي إلى الإندحار عن القسم الأكبر من الجنوب والبقاع الغربي، فكان إنجاز التحرير في 25 أيار العام 2000.
 

2 - عدوان 12 تموز:
مرَّة جديدة دفع العدو الإسرائيلي بأسلحته المدمِّرة باتجاه لبنان في حرب مفتوحة بدأت من الجنوب في 21 تموز تحت ذريعة خطف المقاومة جنديين إسرائيليين، وما لبثت أن امتدَّت إلى المناطق اللبنانية كافة، فلفَّت لبنان من البر والبحر والجو بزنَّار من الحمم في عملية تدمير منهجي لبناه التحتية ومنشآته، واستهداف متعمد للمواطنين الأبرياء في بيوتهم وأماكن عملهم وأثناء تنقلاتهم. كما استهدف العدوان مواقع الجيش على كامل رقعة الوطن، مرتكباً مجازر بشعة لا سيما في فوج الأشغال المستقل في الجمهور وفي مركزي وجه الحجر والعبدة التابعين للقوات البحرية في منطقة الشمال، حاصدًا 74 شهيداً وعدداً كبيراً من الجرحى، لتمتزج دماء الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ والمقاومين الأبطال والعسكريين الشجعان في ساحات الصمود والكرامة، مشكلةً المداميك الصلبة التي سيُبنى عليها مستقبل الوطن. وخلال هذه الحرب كان الجيش في ساحة المواجهة يعكس صورة الوطن، إذ قامت وحداته في أماكن انتشارها بأداء دورها الدفاعي بكل القدرات المتاحة لديها، من خلال التصدِّي للطائرات المعادية وإحباط العديد من محاولات الإنزال والتسلل، كما استمرَّت بأداء مهامها الأمنية والإنمائية على مساحة البلاد، متأهِّبة لوأد أي فتنة داخلية، والتعامل بحزم مع كل من يحاول العبث بالأمن والاستقرار في ظل حالات النزوح الكبيرة، والظروف والمتغيرات المستجدة. وبعد مرور أكثر من شهر كارثي ومأسوي على الصعد كافة، على الحجر كما على البشر، وخلاصة مشاورات ماراتونية، تبنَّى مجلس الأمن فجر 11 آب وبالإجماع القرار1701 الذي دعا إلى وقف كامل لجميع الأعمال الحربية على أمل التوصل إلى اتفاق على وقفٍ دائم لإطلاق النار.

وعند الثامنة من صباح 14 آب توقَّف العدوان الإسرائيلي، لتنطلق رحلة عودة النازحين  إلى أرضهم وبيوتهم. ويسارع الجيش اللبناني للتوجه إلى حدوده الجنوبية، بعد غياب جاوز الثلاثة عقود، استجابةً للإرادة الوطنية الجامعة، وتنفيذاً لقرار الحكومة اللبنانية القاضي بتكليفه الانتشار في منطقة جنوب لبنان وصولاً إلى الخط الأزرق، وبسط سلطة الدولة في تلك المنطقة إسوة بباقي المناطق اللبنانية، ودعم صمود المواطنين ومواكبة إعادة إعمار قراهم وتسهيل إقامتهم وحفظ أمنهم وسلامتهم، وقد تزامنت هذه المهمة مع مهمة انتشار وحدات من الجيش على امتداد الحدود البرية والبحرية اللبنانية لضبط المعابر ومنع أعمال التهريب على أنواعها. وهكذا انتشر الجيش اللبناني جنوباً بسرعة قياسية يواكبه كلام العماد سليمان قائد الجيش: «كان الجنوب لفترة طويلة من الزمن، بوابة القلق ومدخل الرياح، أما اليوم وأنتم ترابطون على تخومه وروابيه، وتبذلون كل المستطاع في سبيل خدمة أهله الصابرين، ورفع المعاناة عنهم وبلسمة جراحهم، تحوِّلونه إلى حصن منيع للوحدة الوطنية ومساحة عبقة بطيب السيادة ورحابة الإستقلال». وافتخاراً بالنصر، وإشعاراً بانسحاب العدو المحتل، وإقراراً باحتضان الجيش كل أهله وأرضه، رفع العماد سليمان العلم اللبناني على تلَّة اللبونة الحدودية المتاخمة لرأس الناقورة ليخفق في سماء الجنوب سيداً طليقاً بعد غياب طويل وقسري، وجال على القوى المنتشرة يتفقدُّها ويمضي يومين مع الجنود في خيمة نُصبت قرب عين إبل، ويخاطبهم قائلاً: «إعلموا أنكم هنا ليس لمشاهدة ما يحصل، وإن كل خرق تقوم به قوات الإحتلال يجب التصدي له بالقوة اللازمة وبما لديكم من أسلحة». وكانت القوى عند كلام قائدها فبادرت الى إزالة أخطر تعدِّيين، أحدهما قضم العدو الإسرائيلي مساحات شاسعة من الأراضي المتاخمة للحدود في سهل الخيام، وثانيهما إبعاد كارثة كانت ستحل بالأراضي الزراعية اللبنانية في منطقة كفركلا - العديسة من جراء إغراقها بمياه السيول المحوّلة إليها من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وإذا كانت الشهادة في سبيل الوطن هي أعلى مراتب التضحية، فإن الوفاء لدماء الشهداء هو أمانة في الأعناق، وإبقاء شعلتهم مضاءة واجب يقع في صلب مبادئ المؤسسة العسكرية وتقاليدها العريقة؛ والتزاماً بذلك وبرعاية قائد الجيش العماد ميشال سليمان وحضور ذوي الشهداء، أقيم احتفال في اليرزة لتكريم 47 شهيداً سقطوا إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان، وقد ألقى العماد قائد الجيش كلمة بالمناسبة أكد فيها أن «دماء شهداء الجيش والشعب التي سالت وامتزجت معاً على امتداد ساحات الوطن في مواجهة العدوان هي أمانة في أعناقنا لن نفرط بها، نحفظها من خلال تمسكنا بوحدة الجيش والوطن، وممانعتنا لكل أشكال الفتن والتطرف والتجاذبات، وصوننا لمسيرة التضحيات التي لم يتردد شهداؤنا يوماً في ركوب مخاطرها».
 

ب - في مجال حفظ الأمن:  
يستمر الجيش في تنفيذ مهام حفظ الأمن في مختلف المناطق اللبنانية مستنداً في ذلك الى جملة من المبادئ أبرزها:
- الجيش مؤسسة وطنية تلتزم القوانين والأنظمة النافذة وعقيدته في تحديد العدو والصديق واضحة وراسخة، فالأعداء هم إسرائيل أولاً والإرهاب ثانياً وكل من يحاول الإخلال بالأمن وزعزعة الاستقرار ثالثاً، أما الأشقاء والأصدقاء فهم الدول العربية، والدول التي تعمل على مساعدة لبنان وتنشد له الخير والسلام والاستقرار.
- الابتعاد عن الطائفية التي تتلاشى في التنشئة الوطنية والعسكرية التي يتلقاها كل عسكري.
- الابتعاد عن التجاذبات السياسية، وتنفيذ قرارات السلطة الإجرائية في إطار المصلحة الوطنية العليا.
- التجرد المطلق في معاملة المواطنين وتطبيق مبدأي العدالة والمساواة أثناء أداء المهام، حفاظاً على الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان.
- تأمين استمرارية تنفيذ الإجراءات والتدابير الأمنية من خلال الشفافية في القيادة والإدارة والموقف، وتخصيص الوقت اللازم، وبذل الجهد الأقصى، والسهر على متابعة الأوضاع، والحزم والسرعة في تنفيذ المهام وعدم التهاون مع أي إخلال بالأمن.

وقد وفّر الجيش مناخاً من الأمن والاستقرار، مما سمح بإقامة التجمعات على اختلافها والمؤتمرات الدولية والإقليمية، وكفل لجميع المواطنين القيام بأعمالهم وممارسة حقوقهم وواجباتهم في المناسبات الوطنية والاجتماعية والثقافية والرياضية، مجنّباً البلاد مخاطر جمة، لا سيما اثر وقوع جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري العام 2005، والتظاهرات الصاخبة التي تلتها في 8 و14 آذار، وما رافقها من انفعالات حادة استطاع الجيش أن يستوعبها، كافلاً حرية التعبير التي كرسها الدستور، ومحافظاً على أمن المواطنين وممتلكاتهم وسلامة المؤسسات العامة والخاصة. وفي حدث هام كان موضع تساؤل الكثيرين وخشيتهم من حصول اضطرابات أمنية، والمتمثل بانسحاب الجيش العربي السوري من لبنان في أواخر شهر نيسان 2005، تمكّن الجيش بصورة فعّالة وسرعة قصوى من ملء الفراغ الناجم عن هذا الانسحاب خصوصاً في مدينة طرابلس وقرى عكار وبعض مناطق البقاع من دون تسجيل أي حوادث تذكر. وضماناً لاستمرارية الحياة الديمقراطية في البلاد، أنجز الجيش بنجاح عملية حفظ أمن الانتخابات النيابية التي جرت في شهر أيار من العام نفسه، الأمر الذي مكّن المواطنين على اختلاف انتماءاتهم من التعبير عن آرائهم بحرية تامة، على الرغم مما رافق هذه الانتخابات من تجاذبات سياسية حادة لامست حدود الطائفية أحياناً.  وفي هذا المجال أيضاً كان قرار القيادة حاسماً وسريعاً في مواجهة المخلين بالأمن، الساعين إلى إثارة الفتن، وفي التصدي لمحاولات التجسس والتخريب التي قامت بها عصابات متعاملة مع العدو الإسرائيلي. حيث واجه الجيش العديد من المنظمات الإرهابية، لا سيما قيامه في مطلع العام 2000 بالقضاء على منظمة مسلحة خطرة، كانت متحصنة في جرود منطقة الشمال وتفكيك الشبكات المرتبطة بها في المناطق اللبنانية كافة؛ وهذا العام كان لاكتشاف شبكة إرهابية  تعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية، بالغ الأثر في نفوس المواطنين، ولقي الجيش نتيجة ذلك عظيم الثناء من مختلف القيادات السياسية وفعاليات المجتمع اللبناني، حيث توصلت مديرية المخابرات إلى كشف المتورطين في جريمة اغتيال الأخوين مجذوب في صيدا بتاريخ 2006/5/26، وأبرزهم المدعو محمود رافع الذي اعترف بعملية الاغتيال وبعمليات سابقة أخرى، وبارتباط الشبكة بجهاز الموساد الإسرائيلي منذ عدة سنوات، وبخضوع أفرادها لدورات تدريبية داخل إسرائيل وخارجها. إضافة الى ما سبق، يواظب الجيش بفعالية على تقديم المؤازرة الدائمة لقوى الأمن الداخلي وباقي الأجهزة الأمنية في مكافحة الجريمة المنظمة والقضاء على الآفات الاجتماعية.
 

ج - المهام الإنمائية:
ارتبط الجيش اللبناني منذ نشأته ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع، ليس من خلال المهام الدفاعية والأمنية المنوطة به وما يترتب على ذلك من علاقات مع المواطنين فحسب، إنما أيضاً من خلال اهتمامه بالمجالات الاجتماعية والخدمات التي يؤديها حيث تدعو الحاجة، إدراكاً منه بأن الأمن والنهوض الإنمائي والاقتصادي في البلاد توأمان لا ينفصلان.
وقد توزعت الأعمال الإنمائية للجيش خلال السنوات السابقة على محاور عدة أبرزها:
- الإسهام في إعادة إعمار البنى التحتية من ماء وكهرباء وشق طرقات في مناطق عودة المهجرين.
- تركيب جسور وترميم طرقات ومنشآت دمرها العدو الإسرائيلي في عدة مراحل.
- مؤازرة العديد من المؤسسات الرسمية والخاصة ورفدها بالطاقات والخبرات اللازمة.
- تنفيذ أعمال تشجير وتأهيل آثار وإطفاء حرائق.
- تقديم خدمات صحية ومعيشية خصوصاً في المناطق النائية.
- إغاثة المنكوبين خلال الحوادث الطارئة والكوارث الطبيعية.
 

1 - بعض المهام الإنمائية التي قام بها الجيش خلال هذا العام:
- المشاركة في فتح الطرقات الجبلية المقطوعة بالثلوج وإزالة الانهيارات الصخرية والترابية عنها وتوسيع مجاري الأنهار، وإنقاذ المواطنين المحاصرين بالسيول والثلوج.
- مسح الأضرار الناجمة عن التفجيرات  والكوارث الطبيعية بالتنسيق مع الهيئة العليا للإغاثة، والقيام بأعمال ترميم وإزالة ركام الأبنية المتضررة بالتعاون مع الجهات المختصة.
- شق العديد من الطرقات الزراعية في المناطق الريفية النائية ومنها طريق تنورة - الفاقعة في قضاء راشيا.
- تنفيذ يوم إنمائي لمناسبة عيد المقاومة والتحرير شمل تعهد الأماكن الأثرية وتنظيف القلاع في المناطق اللبنانية كافة.
- إطلاق عملية بناء قاعدة معلومات جغرافية وطنية في إطار عملية التعاون اللبناني - الفرنسي في مجال العلوم الجغرافية.
- أعمال تشجير وإخماد حرائق وإنقاذ مصابين في مختلف المناطق.
- رش مبيدات فوق سهول القمح في منطقة البقاع بواسطة طوافات عسكرية لمكافحة حشرة السونة، وفوق أحراج السنديان في محافظتي جبل لبنان والشمال للقضاء على حشرة الصندل.
- مشاركة أطباء وممرضين من الجيش في حملة التلقيح ضد شلل الأطفال في العديد من المناطق.
- المشاركة في حملة الأزرق الكبير.
 

2- مهام الجيش الإنمائية خلال عدوان تموز:
-  إرسال مفارز طبية جوالة من أطباء ومسعفين وممرضين إلى مختلف مناطق الجنوب، وتزويدها الوسائل والمستلزمات الطبية اللازمة لمعالجة الجرحى وإجراء عمليات جراحية بسيطة، وكذلك تنفيذ عمليات الإخلاء الصحي إلى المفارز الثابتة في الأقضية.
-  مشاركة الطبابة العسكرية في أعمال لجنة الإغاثة الصحية للتأكد من جودة الأدوية وصلاحيتها والإشراف على توزيعها.
-  استقبال المستشفى العسكري المركزي ومستوصفات الجيش في مختلف المناطق الجرحى من المدنيين، والإسهام بشكل فعال في الكشف عن هوية عدد من الجثث المدنية والعسكرية غير المعروفة بواسطة فحص الحمض النووي .(DNA)
- القيام بأعمال الإغاثة بناءً لتكليف من مجلس الوزراء وبطلب من الهيئة العليا للإغاثة، حيث تم إنشاء لجنة حياتية رئيسية انبثقت عنها 6 لجان فرعية، وقوامها 75 ضابطاً وأكثر من 500 عنصر، تولت بالتنسيق مع الهيئة العليا للإغاثة والإدارات الرسمية عملية خزن وفرز وتوضيب المواد الغذائية ثم نقلها وتوزيعها إلى المتضررين في مختلف المناطق.
-  تشكيل لجان عسكرية على صعيد مختلف المناطق بغية الإطلاع على أوضاع النازحين وتأمين احتياجاتهم كافة.
-  قيام القوات البحرية في الجيش اللبناني بالتنسيق مع وزارة البيئة وبالاشتراك مع فريق بحري فرنسي متخصص ومع متطوعين من عدة جمعيات بيئية، بإزالة التلوث النفطي الذي تسبب به القصف  المعادي لخزانات الوقود في المعمل الحراري في الجيه، حيث تمكنت من إزالة التلوث نهائياً من مرفأ جبيل ومن مرفأ الموفنبيك وشاطئ منطقة الرملة البيضاء، وإزالة قسم منه في مرفأ الصيادين في رأس بيروت، ولا يزال العمل مستمراً لتنظيف الشواطئ اللبنانية بصورة كاملة.
-  مباشرة فوج الهندسة في الجيش بالاشتراك مع فوج الأشغال المستقل فور انتهاء العدوان، بإقامة  العديد من الجسور وإنشاء العبارات الظرفية، وإزالة الردم، وطمر الحفر وتأهيل الطرقات وفتحها، لا سيما الطريق الساحلي من بيروت الى صور ومن البقاع الغربي الى مرجعيون، مما سمح بنشر وحدات الجيش في مناطق انتشارها بكل عديدها وعتادها، وبعودة النازحين الى قراهم وبلداتهم بسرعة قياسية.

3

- التصدي لمشكلة الألغام:
أولى الجيش اللبناني اهتماماً خاصاً بمشكلة الألغام التي تتصل بالأمن والإنماء معاً، لما لها من تأثير مباشر على حياة المواطنين وأعمالهم اليومية واستثمارهم لأرزاقهم وممتلكاتهم.
وقد بدأت هذه المشكلة مع انتهاء الأحداث العام 1990، وتفاقمت على أثر اندحار العدو الإسرائيلي في شهر أيار من العام 2000، إذ استفاق اللبنانيون على احتلال من نوع آخر تمثل بوجود نحو 550,000 لغم خلفها هذا العدو وراءه في مناطق الجنوب والبقاع الغربي، وقد تمكن الجيش بالاشتراك مع فرق مختصة من دول شقيقة وصديقة ومؤسسات دولية غير حكومية حتى تاريخ 2006/7/1 من إنجاز ما يلي:
* تنظيف مساحة 31 كلم2، والتثبت من خلو 49 كلم2 من الألغام بواسطة أعمال المسح التقني، وذلك من أصل 137 كلم2.
* نزع وتفجير 112,000 لغم مضاد للأشخاص والآليات، و 111,000 جسم مشبوه.

لكن العدو الإسرائيلي أعاد أزمة الألغام إلى نقطة الصفر، خصوصاً لجهة إلقائه مئات الآلاف من القنابل العنقودية، التي لم تعد تخلو منها قرية أو بلدة جنوبية، وقد أحصي لغاية مطلع تشرين الأول العام 2006 نحو 800 موقع تم استهدافه بهذه القنابل. فسارعت قيادة الجيش إلى فصل سرايا هندسية مع الألوية المنتشرة جنوباً، لتأمين ممرات في محيط المنازل المأهولة وعلى الطرقات الرئيسة والفرعية، بالإضافة إلى مسح متواصل للحقول المشبوهة وتسييجها والتحذير من الاقتراب منها. وخلال الفترة الممتدة من 14 آب تاريخ انتهاء العدوان، وحتى مطلع شهر تشرين الأول من هذا العام، تمكنت وحدات الجيش بالتعاون مع القوات المؤقتة للأمم المتحدة في لبنان من إزالة نحو 60,000 قنبلة عنقودية و800 قنبلة وصاروخ طيران و4,000 لغم وقذيفة وجسم مشبوه. من جهة أخرى  يستمر المكتب الوطني لنزع الألغام بالتعاون مع اللجنة الوطنية للتوعية من مخاطر الألغام وجمعية المساعدات الشعبية النروجية، بتنفيذ حملات الإرشاد والتوعية في جميع المناطق اللبنانية، حيث أدت الجهود المبذولة إلى انخفاض كبير في معدل عدد الضحايا خلال السنوات الأخيرة.

 

د - الجيش ركيزة من ركائز الوحدة الوطنية:
تشكّل الوحدة الوطنية صمام أمان الوطن ومصدر مناعته وقوته، وضمانة وجوده ككيان سيد حرّ مستقل. لكنّ المسألة الأهم تبقى في كيفية تحقيق هذه الوحدة وترسيخها وتحصينها، الأمر الذي يتطلب من الجميع وعلى مختلف المستويات وعياً كبيراً وإرادة ثابتة، وجهوداً  يومية مستمرة، بدءاً من الإيمان المطلق بها، مروراً بإرساء مبادئ العدالة والمساواة بين المواطنين، الى التشدد في تربية النشء على المواطنية، وسبر آفاق العلم والثقافة والانفتاح، وصولاً الى بنىً اجتماعية سليمة ذات خصائص متقاربة الى حدٍّ بعيد. وبدوره يسهم الجيش اللبناني بالحفاظ على الوحدة الوطنية من خلال عدّة عوامل يمكن تلخيصها بالآتي:
* البنية البشرية للجيش الذي يضم في صفوفه ضباطاً ورتباءً وأفراداً  يمثلون  مختلف الانتماءات الطائفية والمناطقية والثقافية التي يتكون منها المجتمع اللبناني.
* التنشئة الوطنية التي يتلقاها العسكريون من مختلف الرتب، النابعة من الدستور ومن خصائص لبنان وقيم شعبه وتقاليده، ومن رسالة الجندية القائمة على جملة من المبادئ الوطنية والفضائل الأخلاقية والإنسانية. هذه التنشئة تجعل من المؤسسة العسكرية مثالاً يحتذى في تجسيد مبدأ الولاء الوطني، الى جانب تأثيرها البالغ داخل المجتمع المدني عبر قيام العسكريين بنقلها الى عائلاتهم ومحيطهم، الأمر الذي يؤدي الى انتشارها وتعميمها على شريحة واسعة من هذا المجتمع.
* العمل المؤسساتي داخل الجيش المرتكز على التطبيق الدقيق لمعايير الأهلية والكفاءة في الترقيات والتشكيلات والدورات الدراسية وغيرها والتزام مبدأ الثواب والعقاب، والشفافية المطلقة في النواحي العملانية واللوجستية والإدارية كافة. مما يؤدي الى تحقيق العدالة بين العسكريين كجزء لا يتجزأ من العدالة الوطنية الشاملة، التي تشكل ركناً أساسياً من أركان الوحدة الوطنية.
* التفرغ المهني الكامل، أي التزام العسكريين بالعمل في نطاق مؤسستهم فقط وعدم قيامهم بممارسة أي عمل مأجور خارج المؤسسة.
* ابتعاد الجيش عن السياسة وتجاذباتها والبقاء على مسافة واحدة من الجميع، وهذا ما تجسد في العديد من المناسبات الوطنية ولا سيما أثناء التظاهرات والانتخابات النيابية والبلدية وغيرها.
* المهام الإنمائية للجيش التي تشمل مختلف المناطق اللبنانية على قدم المساواة، والجيش من خلال هذه المهام إنما يقدم صورة مثلى عن التضامن الإنساني والاجتماعي والوطني في سبيل تحقيق المصلحة العامة.
* حماية الدستور من أي محاولة للخروج عليه، وهو في ذلك يكون حامياً للإجماع الوطني ولإرادة اللبنانيين، وليس في موقع حماية أشخاص أو حكام.
*  القوة الرادعة: تشكل صورة الجيش كقوة رادعة، عاملاً من العوامل التي تؤدي الى الاستقرار، فهذه الصورة تقوم على التقدير والرهبة وتمنع قيام ما يخل بالأمن أو يهدد النظام. غير أن هذه القوة الرادعة تتدخل فعلياً حين تدعو الحاجة لحماية أمن المواطن في حريته وعيشه، وفي كل الحالات حيث تكون قوى الأمن غير كافية، أو غير قادرة على القيام بهذه المهام. وفي حال حدوث أزمات أو نشوء حالات خلافية، يكون تدخل الجيش لمنع انهيار الوضع الأمني، وإيجاد المناخ اللازم الذي يسمح  لأصحاب الشأن بتسوية الخلافات عبر المؤسسات الدستورية.
* تجسيد فكرة النظام: يجسد الجيش فكرة النظام في المجتمع، فالمؤسسة العسكرية تقوم على نظام دقيق وواضح يشمل مختلف المجالات فيها. وتكفل قوانين الانضباط التطبيق العملي للنظام الذي ينسق النشاطات والتصرفات ويحدد الحقوق والواجبات. والنظام الذي تقوم عليه المؤسسة العسكرية هو بحد ذاته مثال ونموذج لا يفارق الوعي الجماعي، من هنا فإن أهمية وجود الجيش لا تقتصر فقط على ما يمثله من قدرات عسكرية وحربية، وإنما أيضاً على ما يعنيه هذا الوجود للمجتمع كمثال للنظام وكرمز لسيادة القانون. وغني عن القول أن الاستقرار يحتاج الى قوانين تكفله والى قوة تضمن تطبيق هذه القوانين وتؤمن عدم تجاوزها، لكنه يحتاج أيضاً الى ترسيخ مبدأ المواطنية قبل كل شيء.

 

ه - الجيش والحريات:
حرص الجيش دائماً على أن تبقى ممارسة الحرية في حدود ما نص عليه الدستور والقوانين المرعية الإجراء، إذ لا يجوز في أي شكل من الأشكال أن تتحول الحرية الى فوضى يستغلها البعض للنيل من الاستقرار العام في البلاد والتعدي على المؤسسات العامة والخاصة وعلى أرواح المواطنين وأملاكهم وأرزاقهم. وقد يخيّل الى الكثير من الناس أن القوانين وجدت أساساً للحد من الحرية، وهي تتعارض معها، والحقيقة أن القوانين  وجدت لحماية المواطنين وللحفاظ على هيبة الدولة، ولضمان الحرية نفسها. إذ أن الحرية المتفلتة من أي ضوابط تشكل خطراً على وجود الحرية نفسها. وهكذا فقد وازن الجيش دائماً بين حماية الحرية والمحافظة على تطبيق الأنظمة والقوانين، وقد تجلى هذا الأمر في محطات عديدة لا سيّما خلال التظاهرات الشعبية الصاخبة التي حصلت خلال العام المنصرم والعام الحالي، إذ تمكن بفضل التزام عسكرييه وجهودهم وتضحياتهم، من تجنيب البلاد مخاطر جسيمة كادت تطيح بكل الإنجازات التي تحققت. وخلاصة القول أن الجيش من خلال إيمانه بالقيم العليا للمجتمع اللبناني والتزامه الدقيق بمبادئ الدستور والقوانين، ومن خلال ما يشكله كقوة رادعة يمكن أن تتدخل فعلياً عند الحاجة للحفاظ على الأمن والاستقرار، يشكل حاضناً للحرية وأحد أهم دعائم وجودها وديمومتها.

 

متابعة تطوير  المؤسسة العسكرية
أدى صدور قانون إلغاء خدمة العلم في 5 أيار 2005، وما تضمنه من توسيع لدائرة الإعفاءات وصولاً لإلغاء الخدمة نهائياً خلال شهر شباط 2007، إلى خفض عديد المجندين وتالياً عديد الجيش، مما دفع القيادة الى القيام بإعادة تنظيم وهيكلة الجيش للبقاء على الجهوزية اللازمة بغية تنفيذ مهام الدفاع والأمن وفقاً للواقع المستجد، وقد جرت إعادة تنظيم الألوية بتخفيض عديدها وإنشاء أفواج جديدة، الأمر الذي وفّر حركية واسعة ومرونة عالية وسهولة في الإمرة مع الحفاظ على الإنتاجية نفسها، بحيث تنتهي خدمة العلم ويبقى الجيش مضطلعاً بمهامه كاملة. الى جانب ذلك، تولي القيادة باستمرار موضوعي التدريب والتجهيز الاهتمام الأقصى، من خلال تكثيف الدورات التدريبية في الداخل والخارج وعلى مختلف المستويات، إلى جانب تفعيل علاقاتها مع جيوش شقيقة وصديقة، والسعي الحثيث لديها لتأمين التجهيزات الضرورية للجيش من الأعتدة والأسلحة التي تتناسب مع مهامه الدفاعية والأمنية. وفي هذا الإطار، تؤكد القيادة اعتزازها بهذه العلاقات، النابعة من الصداقة مع الدول والرغبة في التعاون مع جيوشها، والاستفادة المتبادلة من تجاربها وخبراتها، والتي طالما ميزت الجيش اللبناني بقدرته على التفاعل والتواصل مع سواه، وهو سيستمر في قبول المساعدات العسكرية مستقبلاً، كما قبلها في الماضي، بهدف تعزيز قدراته العسكرية، لكنّ هذه المساعدات لا يمكن في مطلق الأحوال أن ترسم سياسة الجيش أو تتدخل في أدائه، أو تعدل من دوره الوطني الذي ينبع فقط من الإرادة الوطنية الجامعة والقرار السياسي للسلطة الإجرائية.

 

مواجهة الأخطار والتحديات
تحيط بالوطن أخطار وتحديات عديدة، ناجمة عن آثار العدوان الإسرائيلي على لبنان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وعدم التزام إسرائيل بمندرجات قرار مجلس الأمن رقم 1701، الى جانب تداعيات التطورات المحلية المتسارعة التي بدأت تعصف بالوطن منذ نحو سنتين ولا تزال مترافقة مع تجاذبات سياسية وأعمال إرهابية أودت بحياة شهيد الوطن الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، والعديد من الشخصيات الوطنية والإعلامية، إضافة الى الأحداث الجارية في منطقتنا العربية لا سيما في العراق وفلسطين وانعكاسها على الساحة الداخلية، إلا أن جميع هذه الأخطار والتحديات لم تستطع النيل من وحدة اللبنانيين وصمودهم وتضامنهم في أصعب الأوقات وأدق الظروف، ولا من إرادة الجيش في التصدي للعدوان الإسرائيلي والتمسك بحق لبنان في أرضه وسيادته واستقلاله، وصون وحدته وأمنه واستقراره، وكما في الأمس كذلك اليوم وفي الغد، فالجيش باقٍ على ثوابته وإيمانه الراسخ بأن لا خوف على مستقبل وطن، حماته أصحاب رسالة وتضحية لا تعرف حدوداً.

 

على طريق الحياة
في الذكرى الثالثة والستين للاستقلال، يمضي الوطن على طريق الحياة، شامخاً بدماء شهدائه، عزيزاً بإرث شعبه، مدفوعاً بوحدة أبنائه، وبإرادة جيش يعي مسؤولياته وواجباته، وما يحيط بالبلاد من أخطار وتحديّات، ويدرك بأنه بالبذل والعطاء والتضحيات يُصان الوطن، وتبقى أمانة الاستقلال شعلة تتحدى العواصف...