دراسات وابحاث

في عالم القطبين من يحكم القوانين أم الرجال
إعداد: العميد المتقاعد الدكتور أحمد علو

إســتراتــيـجــيـــا الأمـــن الجــمــاعــي

الجزء الثاني

«الأمن الجماعي كالسراب، يومئ الى الأفق، ويحمل الكثير من الوعد، ولكنه يبقى من الصعب الوصول اليه، لأن المطلوب الأساس للأمن الجماعي بقي وهماً، فالتجربة أظهرت أن الامر يتعلق بنواة ثابتة لاتفاق القوى الكبرى».

«مارينا فنكلشتاين»

 

تبلورت الاستراتيجيا العملية للأمن الجماعي من خلال عدة صيغ لتنظيم المجتمع الدولي في أعقاب الحروب الأوروبية، وذلك بدءاً من معاهدة وستفاليا العام 1648، مروراً بمعاهدة «اوتراخت» العام 1713، وصولاً الى معاهدة «فيينا» العام 1815 بعد هزيمة نابليون بونابرت، وقد استمرت هذه الصيغة حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقيام «عصبة الأمم» العام 1919، والتي لم تنجح في تحقيق كل أهدافها في تأمين الأمن الجماعي، ثم كانت «منظمة الأمم المتحدة»، بُعَيدَ إنتهاء الحرب العالمية الثانية العام 1945، تعبيراً أخيراً عن الارادة الدولية في تنظيم الأمن الجماعي، واختصاراً لموازين القوى بينها، وقد عكست في ممارستها أنماطاً متعددة لتحقيق هذا الأمن، من الهيمنة الى التشاور، الى توازن القوى، وخضعت لهذا الواقع في علاقاتها في ما بينها، كما أن نظام توازن القوى كان غير قادر على الصمود والاستمرار بسبب التغير المستمر داخل هذه القوى، وطبيعة تحالفاتها القائمة على المصالح. فهذا النظام ينطلق من افتراض أن الأصل في العلاقات الدولية هو الصراع (Conflict)، اما التعاون فهو الإستثناء، وهو بذلك عكس نظام الأمن الجماعي، الذي يعتبر أن الأمن كل لا يتجزأ، وأن دفع العدوان ومنعه يعتبر مسؤولية مشتركة وتضامنية. وهذا ما حاولت الأمم المتحدة أن تقوم به خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مستندة الى الميثاق الذي وضعته الدول لها، وهو بمثابة شرعة واستراتيجيا عملية للوصول الى الأهداف، فكيف تحقق ذلك؟


منظمة الأمم المتحدة وطموح الميثاق

ورد في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة «أن شعوب الأمم المتحدة قد آلت على نفسها أن تنقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي جلبت للإنسانية الويلات والأحزان، وهي تؤكد إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان وكرامته، ومساواة الرجل والمرأة، والأمم كبيرها وصغيرها، كما أخذت على نفسها تحقيق العدالة واحترام قواعد القانون الدولي.. ورفع مستوى الحياة والرقي الاجتماعي..».
وقد ورد في مقاصد هيئة الأمم ما يأتي:
- حفظ السلم والأمن الدوليين، وقمع العدوان، وحل المنازعات الدولية وفق القانون الدولي.
- المساواة في الحقوق بين الشعوب وحقها في تقرير مصيرها.
- التعاون الدولي لحل المسائل ذات الصفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
- إعتبار الهيئة مرجعاً لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها نحو إدراك الغاية المشتركة، ولتحقيق ذلك تعتمد الهيئة المبادئ الآتية:
1- المساواة في السيادة بين الأعضاء جميعاً.
2- التزام مبادئ الميثاق من قبل الأعضاء كافة.
3- حلّ المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، وعدم تعريض السلم والأمن والعدل الدوليين للخطر.
4- عدم استخدام القوة، او التهديد باستخدامها ضد أية دولة من الدول الأعضاء.
5- تقديم العون الى «الأمم المتحدة» في اي عمل تقوم به وفقاً للميثاق.
6- تعمل الهيئة على تشجيع الدول غير الأعضاء للعمل وفق هذه المبادئ.
7- عدم تدخل «الأمم المتحدة» في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي للدول.
الى هذا فقد أوكل الميثاق مهمة تطبيق هذه المبادئ والمقاصد الى أجهزة رئيسة أنشأها لهذه الغاية، أهمها: الجمعية العامة - مجلس الأمن - المجلس الاقتصادي والاجتماعي - مجلس الوصاية - محكمة العدل الدولية - والأمانة العامة.
وقــد أنـــاط الميــثـاق مهــمــة الحـفاظ على الأمن الجماعي بثلاثة من هذه الأجهزة هي الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية.
الأمن الجماعي بعد الحرب العالمية الثانية

 

«ليس هناك من قوانين تحكم، بل هناك رجال يحكمون»
                                                                           صن تزو
فرضت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية نفسها على الأمم المتحدة، مع أرجحية للولايات المتحدة الأميركية التي أسهمت بفعالية في هذا الانتصار. كذلك فقد تمّ نقل مقرّ الأمم المتحدة الى مدينة نيويورك بعد أن كان مقرّ «عصبة الأمم في جنيف» في أوروبا، وبذلك بدأ عهد جديد من عمل المنظمة الدولية، ولكن أحلام المؤسسين الوردية ببناء عالم يسوده السلام وخالٍ من الحروب، تحطمت على أشواك الواقع الذي أفرزته الحرب، باقتسام أوروبا بين الحلفاء من جهة والاتحاد السوفياتي السابق من جهة ثانية، فعاد التوتر الى العلاقات الدولية.
وهكذا فقد سقط بناء الأمن الجماعي الذي كان قائماً على عدد من الأقطاب الاوروبيين، وحلّ محلّه بناء جديد يقوم على قطبين رئيسين.
؟ عالم القطبين:
أدى صراع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي على سيادة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية الى ما يعرف بالقطبية الثنائية (Bipolarization)، وانقسام العالم الى معسكرين: شرقي وغربي،  ولكل منهما دوله وتجمعاته التي تدور في فلكه، فنشأ حلف شمال الأطلسي (NATO) بزعامة الولايات المتحدة وحلف وارسو بزعامة الاتحاد السوفياتي السابق، وازداد التوتر بين القطبين وكاد يصل الى شفير الحرب مرات متعددة، ولكن سباق التسلح النووي، وحصول الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن على هذا السلاح الى جانب امتلاكها حق النقض (VETO) واستخدامه، أوصل الى شلّ عمل منظمة الأمم المتحدة وتعطيل دور مجلس الأمن في فرض السلام والأمن في عدد من النزاعات الدولية بسبب وقوف احد القطبين ضد اي قرار لا يرى فيه مصلحته، كما أن قيام الأحلاف والاستعمال المتكرر لحق النقض حجّم من دور المنظمة.
ان النظام الدولي الذي قام خلال هذه الفترة والتي عرفت بـ «الحرب الباردة» استند الى بروز قوتين عظميين (Super - powers) هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وترك هامشاً ضيقاً للدول الأخرى التي اصطفت حولهما، كذلك لم تستطع منظمة دول عدم الانحياز ان تخترق جدارهما، أو ان تكون قوة ثالثة لها فعالية وقوة أي منهما.
 

- توازن الرعب:
ادى اصطفاف الدول حول كل من المحورين الى نزاعات متعددة في العالم، او حروب المحاور (بالواسطة) ولكن بدون ذهابهما الى حروب حقيقية وغير محــســوبة قد تــؤدي الى المــواجــهة الشاملة، وان كانت قد وصلت احياناً الى عتبة الانفجار النووي كما حدث في أزمة الصواريخ الكوبية العام 1962 والحرب العربية الاسرائيلية العام 1973.
ويرى بعض المحللين السياسيين ان توازن القوى، او الرعب النووي قد حمى النظام الدولي، او تحول هو الى نظام دولي قائم على فكرتين تسيطران على العالم: الفكر الشيوعي الاشتراكي والفكر الرأسمالي الليبرالي، وقد نظمت هذه البنية الثنائية موازين القوى بهذه الطريقة، وتمّ تحييد كل المحاولات للتملّص من هذا «المِشدّ الحديدي».
وقد قام هذا النظام على الأسس الآتية:
- الردع النووي كوسيلة لإقامة التوازن وتنظيم العلاقات.
- التحكم بالنزاعات على الأطراف واحتوائها.
- تغليب العــامــل الســياســـي الاســــتراتيــجي على العامل الاقتصادي.
لقد أوجـد هـذا النظــام الثنائي القطب، استقراراً عالمياً وجنَّبَ العالم حرباً عالمية مدمرة، إلا أنه كبّل الأمم المتحدة وحدَّ من فعاليتها كما ورد في ميثاقها، وباتت غير قادرة على ممارسة دورها المرسوم، إلاّ من خلال توافق القوى العظمى، خصوصاً الولايات المــتـحــدة والاتحــاد الســوفيــاتي، وذلــك خــلال أربــعــة عقود ونيّف (1945 - 1991) إلا أنها استطاعت أن تؤدي الكثير من الأعمال الانسانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية خصوصاً، في دول العالم الثالث، وأن تخفف من نتائج الحروب والمجاعات، ولكنها بقيت محكومة باعتبارات سياسية واضحة تعكس واقع القوى المهيمنة على القرار الدولي.
وكما قال الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة السيد داغ همرشولد: «لم تخلق الأمم المتحدة لتقود البشرية الى الجنة، بل لتنقذها من الجحيم».
ترى هل صدق؟!


(يتبع في العدد القادم)