ملف العدد

في مرمى النار... ومرمى العاصفة
إعداد: الجندي جيهان جبّور

... وسكنت العاصفة بعد أن قالت كلمتها الثقيلة وإن كانت جميلة! القمم المغطّاة بالأبيض لوحات من السحر والروعة لكن البرد قارس... المتنعّمون بالدفء قرب مواقدهم، يحمل الثلج إليهم بهجته. أمّا أولئك الذين يقفون في عراء الأعالي حيث يتجمّد كل شيء، فمن الصعب أن يكون الثلج لهم مصدر بهجة فقط... إنهم يصارعون الإرهاب وقساوة الشتاء على حدود الوطن في مراكز تحمل توقيع «شرف، تضحية، وفاء»، إلى جانب توقيع العاصفة...

 

على تلّة أم خالد
ما إن تسلّل أول خيط ذهبي من خيوط الشمس حتى انطلقنا، وجهتنا أبطال في الجرود يقاسون من الاهوال ما يصعب إدراكه أو تصوّره. تساؤلات عديدة تبادرت إلى ذهننا: ما الذي يمكن قوله لهؤلاء العسكريين؟ كيف يمكنهم تحمّل ظروف الطبيعة القاسية؟ ماذا يقول العسكري الواقف في مرمى النار ومرمى العاصفة؟ وماذا تقول الأماكن لمن يمكثون فيها؟ ماذا تقول الأرض التي داستها أقدام أبطال بواسل؟ نحاول الاستكشاف، نتجه إلى قيادة فوج الحدود البرية الثاني الذي أمّن نقلنا إلى تلّة أم خالد (مركز تابع للسرية الرابعة في الفوج) في رأس بعلبك.
كان ينبغي بنا تحمّل مشقة الطريق الوعرة أصلًا وقد جعلها الثلج أكثر صعوبة وخطرًا.
بعد حوالى نصف الساعة، وصلنا إلى المركز، حيث كان فريق خبراء بريطاني يقوم بالكشف على عتاد مراقبة متطوّر تمّ تركيزه حديثًا. العسكريون يزرعون الأرجاء نشاطًا وحيوية. نطرح بعض الأسئلة، يجيبون بتواضع، فكل تضحياتهم يصنّفونها في خانة الواجب.
الملازم أوّل الياس، مفصول منذ ثلاثة أشهر من لواء المشاة الأول إلى المركز الذي يقع في عهدة فوج الحدود البرية الثاني، في قطاع يضمّ السلسلة الشرقية وصولًا إلى جرود عرسال. الترقّب الدائم والجهوزية التامة هما سيّدا الموقف وفق ما يشرح لنا، لا سيّما خلال ساعات الليل، فالظلام يمنح الإرهابيين ستارًا للتسلّل.

 

السهر توأم العسكري
إذًا هنا لا مجال لسهاد يتسلّل إلى عينَي حرّاس الليل، ولا لتعب يحدّ من العزيمة، في الصقيع والجليد، كما في الحرّ الشديد. الليل توأم النهار والسهر توأم العسكري... ماذا يكتسب العسكري من خدمة في موقع كهذا؟ يقول الملازم أول: مزيد من التمرّس والخبرة وقدرة كبيرة على التأقلم في مختلف الظروف، ومهارة في استخدام السلاح، خصوصًا الرمي بواسطة «الهاون».
ماذا عن صعوبة المهمّة في أرض صعبة بطبيعتها؟
يكشف الملازم أوّل أن أخلاقية العسكريين وانضباطهم، وتعاونهم والمناقبية العسكرية التي يتحلّون بها، تشكّل سلاحًا إضافيًا يواجهون بواسطته أكثر الصعاب. وعلى الرغم من أنهم بمعظمهم مفصولون من الألوية والأفواج، فهم متكاتفون يعملون كرجل واحد، معنوياتهم عالية ولن يتراجعوا أمام إرهابيين تسبّبوا بخسارتنا خيرة من الرفاق.

 

الخوف... حافز للحيطة
تعزف الريح واحدة من مقطوعاتها العنيفة فنشعر بالرهبة ونسأل، كيف يتغلّب الإنسان على خوفه في مكان كهذا؟ قسوة الطبيعة وهمجية إرهابيين ليس لديهم ما يخسرونه وقد امتلأت رؤوسهم بالترهات؟!
يعلّق المعاون خالد بالقول: الخوف شعور طبيعي وهو حافز لتأمين حيطة العسكري وأمانه، المهمّ أن يعرف الإنسان في اللحظات الحرجة كيف يسيطر على خوفه. فالصعوبات موجودة إن من ناحية طبيعة المركز وصعوبة التحرّك فيه أو من ناحية طريقة العيش وأحوال الطقس الرديئة.
«مأذونيتي هي العيد الذي تنتظره عائلتي» يقول المعاون خالد، مستطردًا: «هذه حياة العسكري وقد اخترتها بملء إرادتي». حراسة، دوريات استطلاع ومراقبة ضمن المركز وبين التلال، هي المفردات والعبارات الأكثر تداولًا على تلّة أم خالد.

 

ما دام في القلب نبض...
نقترب من أحد أفراد السرية. إنّه العريف علي، الذي ينوّه بنشاطه وأخلاقيته رئيسه ورفاقه على السواء، فهو جاهز دائمًا ليحل مكان رفيق سلاح يصاب وللقيام بأي مهمة طارئة.
يشعر أنه يحمل أمانة دماء ستة من عسكريي الفوج استشهدوا في كمين غادر، تألمت كثيرًا، يقول، ويصمت برهة قبل أن يتابع قائلًا: نحن نعيش أيامًا محفوفة بالخطر، لكن قناعتنا أننا نخوض معمودية دم وفاء لعهد قطعناه للبنان، والعهد باقٍ ما دام في القلب نبض وفي الشرايين دماء.

نتابع جولتنا ونصل إلى نقطتنا الثانية وهي مركز جبل الصليب في القاع حيث تتمركز السرية الثالثة من فوج الحدود البري الثاني. اجتياز الطريق كان أشبه بالمغامرة، سرنا على ارتفاع 1280 مترًا تقريبًا، حيث الصقيع ينخر الصخر، العناصر بدوا من جهتهم متآلفين مع الطبيعة القاسية بهوائها وصقيعها.
نترجّل من الآلية، نتابع السير على الثلج لبلوغ أعلى مركز مراقبة حيث يتمركز المجنّد حسن. معنوياته مثل النار، الخدمة في قلب الخطر زادته ثقة واندفاعًا. أوّل مواجهة مع الإرهابيين شعرت بشيء من الخوف يقول، بعد ذلك أصبح الأمر طبيعيًا...
في جولتنا على المركز، أفراد من الفصيلة يشيرون إلى نقاط المراقبة والطرقات التي شقّوها بأنفسهم لتكون لهم ممرًا آمنًا بعيدًا عن أنظار الإرهابيين.
يؤكّد الرقيب ماجد أنّ المستلزمات الحياتية، من مازوت وأكل مؤمنة كليًا وبشكل يومي. أمّا المياه فغالبًا ما تتحوّل إلى جليد يضطرون إلى إذابته لاستخدامه.

 

ترف ليس لنا فيه...
كثير من العسكريين الذين يخدمون في تلك النقطة هم من أبناء الجنوب. كيف يتنقلون وكم من الوقت يتبقّى من المأذونية إذا أرادوا الذهاب إلى بيوتهم. لا يحظى السؤال بإجابات كثيرة، فكلمة مأذونية هي بحدّ ذاتها ترف، لا يأملون كثيرًا بالحصول عليه.
ما الذي يجعل العسكري على هذا الثبات رغم كل المخاطر؟
هو دعم الشعب اللبناني لنا وإجماعه على تثمين تضحياتنا واعتباره الجيش «خشبة خلاص»، نشعر بذلك في كل لحظة وفي كل مكان، يقول أحد العسكريين...

 

خدمة عمر
ختام الجولة كان مع رقيب أول، رصيده في الخدمة 26 سنة. خبرة، وحلوٌ ومرٌّ وذكريات في كل منطقة وبلدة وساحة... «كل شبر من أرض الوطن له علينا واجب حمايته وكل مواطن أمانة في أعناقنا. لا الخطر ولا صعوبة العيش من شأنهما أن يثنيانا عن القيام بواجبنا، يقول.
مع هذه العبارة وضعنا النقطة على السطر الأخير لجولتنا. عدنا باتجاه بيروت وبعــد أيــام قليلــة أكّــد الأبطــال بدمائهم، ما سمعنــاه وما رأينــاه...