ملف العدد في الميدان

في وادي ظلال الموت... لا أخاف سوءًا
إعداد: ندين البلعة خيرالله


الله حامي عسكرنا!

في أرضٍ قاحلة حدودها فالتة، واجه جيشنا إرهابيين لا يمتّون إلى البشرية بصلة، حاولوا اقتحام الأراضي اللبنانية من جرود بلدة عرسال البقاعية، معتدين على مراكز للجيش في المنطقة، وموقعين في صفوفه عددًا من الإصابات والشهداء، ولكنهم اندحروا وتكبّدوا في المقابل خسائر هائلة، بينما أثبتت المؤسسة العسكرية مرة أخرى أنها مستعدّة دائمًا وأبدًا للتضحية بالغالي والنفيس، وبخيرة شبابها دفاعًا عن علم بلادنا.
لقد كان حقًا وادي ظلال الموت... هناك، في تلك المنطقة ذات الطبيعة الجغرافية الصعبة، استبسل الجيش في معركةٍ ضد الإرهاب واستطاع صدّه وإبعاده عن بيوتنا وعائلاتنا، بقدرات محدودة في ما خص السلاح والعتاد، وبعزم غير محدود، قاتل جنوده في مواجهة عدو غادر، وانتصروا عليه.

 

في اللواء الثامن...هنا بدأت المعركة
على طول الطريق من رياق وصولًا إلى مداخل بلدة عرسال، عسكريّون منتشرون تحت حرارة الشمس الحارقة. على الحواجز يقفون بثبات لمواجهة أي خطر يحدق بالمنطقة وأهلها. ما لم نكن نعرفه مسبقًا أنهم كانوا بانتظار زائرٍ عزيز جاء يقوّي معنوياتهم ويحثّهم على الصمود. وصلنا باحة مركز اللواء الثامن، حيث كان الجميع بانتظار هذا الزائر العزيز: قائد الجيش قادم ليشدّ على أيدي عسكريّيه وليهنّئهم على شجاعتهم ويحثّهم على المثابرة ورفض الطائفية وصدّ خطر الإرهابالذي يحاول تغيير وجه لبنان.
المحطّة الأولى كانت عند قائد اللواء، فاللواء الثامن صاحب سجلّ حافل بالبطولات وهو عاد يسطّر ملاحم بطولية في معركة عرسال حيث استشهد خيرة شبابه. انتقل اللواء إلى منطقة عرسال، حيث تتوالى الأحداث الساخنة، وعمل منذ وصوله على تحصين المراكز وشبك القطاعات وإغلاق طرقات التهريب في فترة قصيرة... ولكن «الواقعة وقعت»... اعتدى إرهابيو «داعش» على مراكز اللواء وهاجموها من كل الجهات. ولكن الهجوم الأكبر كان من ناحية «وادي حميّد» و«المصيدة» و«الحصن»، يشرح قائد اللواء.
ويتابع قائلًا: «خلال مقاومة الهجوم، وقع شهداء في صفوف اللواء، وتمّ أسر عددٍ من العسكريّين، ولكننا استطعنا دحر الإرهابيّين وتكبيدهم خسائر كبيرة على الرغم من كثرة أعدادهم وحرية الحركة التي كانوا يتمتّعون بها».
ويشدّد قائد اللواء على التزام المؤسّسة العسكرية وجنودها المواثيق والقوانين الدولية في ما يتعلّق بالمعارك، حيث حاول الإرهابيّون جرّ الجيش إلى داخل منطقة عرسال المكتظة بالسكان، ولكن الوحدات العسكرية التزمت تنفيـذ الرمايات بشكل دقيق ومباشر على الأهـداف المحدّدة داخل البلدة تجنّبًا للقصف العشوائي ولأي إصابات مدنيّة.
لقد خسرنا عددًا من الشهداء، يقول قائد اللواء، ولكننا كلنا على هذه الدرب سائرون، فالأوطان لا تصان من دون دماء رجالها الأبطال. إنّ استشهادهم شعلة تنير مسيرتنا، وعائلاتهم أمانة في أعناقنا.

 

مشهد من المعركة
إنها العاشرة تمامًا من صباح الإثنين... تلقّت سرايا فوج التدخّل الخامس التي توجّهت إلى عرسال لمؤازرة القوى المتمركزة، أمرًا بالانتقال إلى «وادي عطا» و«عقبة الجرد» لفكّ ضغط المسلّحين الذين كانوا يقومون بهجمات متتالية تمهيدًا لاقتحام هذين المركزَين.
رائد من الفوج يشرح سير الأحداث: قامت القوى المؤازرة بعملية التفافية عبر «وادي الرعيان» لتجنّب الضغط المسلّح من نقطتَي «الحصن» و«تلّة الخزان»، فانطلقت باتجاه «وادي عطا» لمسافة حوالى 6 كلم، ووصلت إلى النقطة المحددة عند الساعة الرابعة بعد الظهر، وكان عليها تنفيذ الهجوم بأسرع وقتٍ ممكن قبل حلول الظلام. ومن مركز «عقبة الجرد» الكاشف على بقعة العمليات المُراد إبعاد الإرهابيين عنها، قامت القوى بعملية استطلاع سريعة، وبدأ الهجوم باتجاه «تلّة الخزان» و«وادي الحصن».
عملية نوعية قام بها عناصر الفوج حتى وصلوا إلى مسافة قريبة من النقطتَين، حيث دارت اشتباكات عنيفة أدّت إلى وقوع إصابات في صفوف العسكريين. ولكن تمّ في المقابل التصدّي لأخطر تقدّم كان ينفّذه الإرهابيّون الذين هربوا على عجلة بعد أن تكبّدوا خسائر جمّة. وقد قدّمت القيادة الدعم والتغطية اللازمة للقوى المتقدّمة، من خلال القصف المدفعي وطيران الاستطلاع، ما زاد العسكريّين ثقةً واندفاعًا وحماسة للحسم.
الرمايات المدفعية كانت بالغة الدقّة، وكانت تنهمر على رؤوس الإرهابيين في كل مرّة يحاولون فيها التقدّم. وقد ساهم وجود القادة الدائم على أرض المعركة، وبحركة دائمة على مختلف الجهات، في رفع معنويات العسكريين على الرغم من وجودنا في منطقة بعيدة ومعزولة، يكاد يكون وصول الدعم اللوجستي إليها شبه مستحيل بسبب الكمائن المنصوبة على طول الطريق.
لقد كانت البقعة مكشوفة، ما شكّل خطرًا على القوى العسكرية بحيث كانت هدفًا لنيران العدو من مختلف الجهات. لكن تمّ إخلاء المصابين فورًا، واستطعنا إبعاد المسلّحين عن «وادي الحصن» الذي كان مركز الضغط والمسلك الوحيد المتبقي للإرهابيّين لدخول عرسال. استعدنا «عقبة الجرد» و«وادي عطا»، وقمنا بإعادة انتشار وتنظيم لتحصين هذين المركزين.

 

فخر الاستشهاد
عند إعادة تمركزنا، يتابع الرائد ساردًا الأحداث، قمنا بتقييم العمليات تحضيرًا لمتابعة الهجوم في اليوم التالي. ولكن نيران العدو الغادر انهمرت علينا من الجهة الجنوبية الشرقية (جبل الرهوة)، ما أدّى إلى استشهاد آمر السرية برصاصة غدر، فسقط أمام عينَي! لملمت جراحي وحزني وصدمتي، واستطعت إخفاء النبأ المحزن عن العسكريين خوفًا من تأثيره السلبي على معنويّاتهم، وتابعنا إعادة التنظيم لتأمين حيطة دائرية للمراكز. وتابع قائلًا: عندما تكون في موقع المسؤولية، لا مجال للوهن والضعف، بل عليك اجتراح النكتة والضحكة للتأثير ايجابًا على مرؤوسيك، فإذا انهار الرئيس ينهارون.
استشهاده ألقى على كاهلي مسؤولية عسكريّيه، ولكنه كان دافعًا لي للانتقام من غدر العدوّ. وقد أكّدت هذه المعركة مرّة أخرى، أنّ التعاون والتنسيق بين مختلف القوى يسهّل العمليات ويرفع المعنويات. وقد استطعنا في المقابل فهم تحرّكات العدو وتكتيكاته بوقت قصير جدًا، فضبطنا بالتالي نيراننا لاستخدام الذخيرة بشكل فعّال. أما الإرهابيون فقد أصابهم الإرباك، وكانوا يقومون بردّات فعلٍ عنيفة وعشوائية بسبب الخسائر في صفوفهم.
لقد عانينا صعوبة وصول الدعم اللوجستي، ولكننا تأقلمنا مع طبيعة الأرض واستطعنا التعايش معها. اكتسبنا خبرة كبيرة من هذه المعركة وسجّلنا إنجازًا مهمًّا بقلة الخسائر والإصابات التي بمعظمها كانت طفيفة، وهذا دليل اندفاع وجرأة وايمان بقضيّتنا التي من أجلها نحن مستعدّون للاستشهاد في وجه إرهابيين لا قضيّة لهم ولا رسالة.

 

لا تراجع!
رائد من اللواء الثامن، شارك ومجموعته في القتال في مركزي «وادي حميّد» و«المصيدة»، حيث تصدّى العسكريّون للإرهابيّين بشراسة واستبسال ولم يدعوهم يتقدّمون، يخبرنا: لقد صمدنا أمام كثافة النيران، وعلى الرغم من سقوط شهداء، لم نتراجع بل بقينا في مراكزنا بانتظار الدعم. ومع تقدّم المعارك، فهمنا أسلوب المجموعات المسلّحة التي كانت تعتمد طرقًا خطيرة ومفاجئة في القتال.
لقد كان الضباط إلى جانب عسكريّيهم، ومعظم الذين أصيبوا، كانوا يُعالجون ويعودون إلى جانب رفاقهم في المعركة من تلقاء نفسهم، فهم مؤمنون بالقضية التي من أجلها هم مستعدّون للاستشهاد. خسرنا 8 شهداء في «وادي حميّد»، وشهيدَين آخرَين في مجموعة تعرّضت لكمين، بالإضافة إلى 16 جريحًا تابع معظمهم القتال.

 

أعدادهم هائلة ولكن...
ملازم أول من اللواء يخبرنا عن مهمّة مجموعته التي كان دورها امتصاص الصدمة الأولى لهجوم المسلّحين على «مركز المصيدة» ومنع تقدّم المجموعات. يقول: منعنا المسلّحين من الوصول إلى المركز ولم يتراجع أحد منّا على الرغم من أعدادهم الهائلة التي بلغت المئات في كل هجمة كانوا يقومون بها، كانت هجماتهم راجلة ومؤلّلة. لم ينجحوا بالتقدّم، وتراجعوا بعد تكبّد الخسائر، محاولين تغيير التكتيك ولكنّهم فشلوا مرة أخرى.
جندي أوّل أصيب خلال الاشتباكات عند العمل على فكّ الطوق عن «مركز المصيدة»، ولكنه لم يسجّل إصابته لكي يتابع إلى جانب رفاقه الدفاع عن المركز وإخلاء الجرحى.
وجندي آخر يتكلّم باندفاع، فيخبر أنّ الإرهابيّيـن كانوا يفكّرون باحتلال «المصيدة» ولكنّهم لم يعرفوا في حينها أنّ أبواب الجحيم قد انفتحت عليهم، دلالةً على شراسة الدفاع. وبالإندفاع ذاته يقول: «نحن لسنا جيش مرتزقة كما هم، نحن ندافع عن وطننا وأرزته، وهذه أسمى قضيّة قد يدافع عنها أحد».

 

الإصابات لم تردعنا
ملازم أول أصيب خلال المعركة على «تلّة الحصن»، إذ تعرّضت مجموعته إلى هجوم من حوالى 300 إلى 400 مسلّح يحملون مختلف أنواع الأسلحة، ولكننا استطعنا تكبيدهم الكثير من الخسائر، على الرغم من سقوط شهداء وعدد من الأسرى، يقول، وعلى الرغم من إصابته بطلقة نارية وشظايا، خضع للمعالجة وعاد إلى جانب عسكريّيه.

 

في المهنيّة ووادي عطا
رقيب أول يخبر عن الهجوم الذي حصل على «المهنية» حيث دخل الإرهابيّون وهاجموا الجيش من الجهات الأربع: قمنا بقتال من طابق إلى آخر ومن غرفة إلى غرفة ومن رجل إلى رجل.
كان عددهم كبيرًا، ولكننا كبّدناهم خسائر كثيرة. لقد كانوا بمعظمهم يرتدون بزات تشبه زي الفوج المجوقل، ويقاتلون بشراسة واحتراف، ومع ذلك صدّيناهم.
بدوره ملازم أول من المجموعات العسكرية التي دافعت عن مركز «وادي عطا» وهو أصعب مركز من حيث طبيعة القتال وصعوبة الإمدادات اللوجستية، يخبرنا عن مدى شراسة المعارك، ويقول: على الرغم من تعرّضنا للهجوم من ثلاثة محاور، من عدد كبير من المسلّحين، استطعنا بدعم مدفعي وبقوة رجالنا وصمودهم، أن نكبّد العدو خسائر كبيرة. لقد خسرنا شهيدًا، ولكن هذا الوطن أمانةً في أعناقنا، والجيش يقدّم شهداء على مذبحه كلّما تطلب الدفاع عن أرضنا ذلك.
معاون شارك في معركة «وادي عطا» يؤكّد: إننا لم نخف على حياتنا وأرواحنا، بل كان الوطن وحمايته هو همّنا الوحيد، لقد كنا نواجه إرهابيّين هم وحوش لا ضمير لديهم ولا قلب. خوفنا كان على الوطن، لأننا لو استشهدنا لحمايته، يبقـى لأولادنـا وطنًا آمنًـا ويأتي بعدنا من يتابع مهمّتنا. ولكن إذا خسرنا الوطن وتركناه للإرهاب، لا يبقى لنا وطن، ونخسر عائلاتنا.
ويؤكّد كلامه جندي من المجموعة نفسها، ويقول: الإصابات لم تعرقل تقدّمنا في وجه العدو، بل كانت معنويّاتنا قوية وكانت ملائكة الله ودعاء أهلنا تحمينا في هذه المعركة الخطيرة المصيريّة.

 

الخطر محدق بوطننا
لم يهدأ بال المؤسّسة العسكرية بعد، ولن يهدأ طالما هناك خطر محدق بوطننا، وطالما هناك مصالح تهدّد أمن وطننا وشعبنا.
العسكريّـون مستنفـرون، في كل بقعة من أرض الوطن، حاملين سلاحهم على أكتافـهم ودماءهم على أكفّهم، وهـم مستعدّون لتقديـم كل ما يلزم، للدفاع عن أرضـهم وعائلاتهـم في وجه إرهاب وجماعات نجحت في تخويف كـل شعوب الأرض إلاّ الشعب اللبناني الذي يبقى قويًّا فقط بجيشه وبدماء شهدائه!