نافذة

قائد في حقل معجمي
إعداد: روني ألفا

تاريخ ٨ آذار منعطف. كلمة قائد الجيش في هذا التاريخ تاريخية من دون مبالغة. خرجت الكلمة من الإطار السياسي الضيق الذي اعتاد عليه اللبنانيون في السنوات الأخيرة إلى الإطار الوطني الأرحب. خاطب قائد الجيش اللبنانيين بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم الحزبية والعقائدية. اللافت كان حجم الاحتضان الشعبي للحقل المعجمي الذي تم اعتماده. أسئلة يطرحها الناس العاديون وهواجس تنتاب المواطنين الخائفين على مستقبلهم. هذه هي أهمية كلمة قائد الجيش.

نتيجة أولية أحدثتها صرخة القائد هي إعادة تظهير صورة الجيش الحاضن والحامي. ترسيخ قناعة أنّ المؤسسة العسكرية معبر للرجاء أولًا. أعمق ما يمكن أن تصل إليه الكلمة لدى من يتلقّفها هو قعر الأمان. أن تشعر في قرارة نفسك أنّ الجيش ملاذ آمِن من دون أن تتوضح لديك خطة واضحة المعالم تنشلك من حضيضك. هذا يجعلك أكثر قدرة على امتهان الصبر.

أمامك مؤسسة تشاطرك قهر ربطة الخبز وعلى الرغم من هذا القهر تراها تحرس السلم الأهلي والوحدة الوطنية. ينتابك شعور جميل أنّ الجندي يشبهك. أينما كان، يشبهك الجندي. بإمكانك أن تغضب منه أو تعاتبه لا همّ. أنت تفعل ذلك مع أقرب المقربين من عائلتك، مع أبيك وأمك وأخيك وأختك. الجيش من هذا المنظار عائلة مكتملة الأفراد.

من هنا لا يمكن ضرب الشعب بالجيش. كل محاولة من هذا النوع تؤدي إلى مزيد من اللُّحمَة. فور انتهاء كلمة قائد الجيش إلى الضباط في اليرزة في ٨ آذار المنصرم، انتشرت صورة معبّرة جدًا تُظهر قائد الجيش يتكلم عبر الهاتف سائلًا «من معي» ليظهر الجواب في أسفل الصورة: «كل الوطن معك».

منذ سنوات لم يخرق رتابة المواقف السياسية خطاب وطني بحت. يكاد الوطن يغيب عندما تحل السياسة. ربما لأنّه بات صعبًا جدًا بعد انتهاك السياسة لكلّ الحرمات تقريبًا أن يُقرأ بين سطورها غيرة أو لهفة أو شعور وطني. الوطن بات في ميل والسياسة في ميل. كلمة قائد الجيش أقنعت الوطن بوجوب الدخول مجددًا إلى حقلنا المعجمي.

دعوة إلى السياسة في هذه الكلمة لمشاطرة الجيش الحرص على الحدود والوجود. من زار الحدود؟ من يعرف شيئًا عن الدوريات والرادارات؟ من تحسس على بشرته البرد والقيظ؟ بالطبع نحن نتكلم عن واجبات الجندي ولكن ألا يستلزم القيام بها على أكمل وجه صيانة حقوق العسكري فلا يعيش على الوجبات الناشفة والتقشف المستمر؟ لا يمكن أن يستقيم الواجب من دون استقامة الحقوق. لهذا السبب تترافق ثنائية الحقوق والواجبات في دراسة القانون كما لدى الحديث عن العدل والإنصاف وترتيب المسؤوليات.

أعادت كلمة قائد الجيش إلى الأذهان أملًا بأنّ لبنان الذي عرفه جيلنا نحن يمكن أن يعود. لم نشعر ولو للحظةٍ أنّ الكلمة تضمنت مأربًا أو مطلبًا أو طموحًا أو رغبة أو غريزة سلطة أو نزق تصفية حسابات، بل شعرنا بأنّ هناك من يمثّلنا، ومن يطلب عنا، ومن يحقّق طموحنا، ويثبّت رغبتنا بدولة مؤسسات، ويُحيي غريزتنا اللبنانية غير الطائفية، ويصفّي حساباتنا مع أبشع خصم ينال منا كل يوم وهو اليأس.

في هذه الأزمنة الصعبة، أكّدت كلمة قائد الجيش أنّ التوق إلى الحرية يمر بالمسؤولية، وأنّ الجندي الواقف وسط الطريق أو على الرصيف أو في عربته العسكرية أو في ثكنته، هذا الجندي يصرخ وجع الناس هو أيضًا إنما من دون حنجرة، ويبكي على حلم يكاد يضيع إنما من دون دموع. هذا الجندي الذي ينتظرنا لنبني معًا مستقبل بلدنا بعيدًا عن متاهات السياسة الضيقة وقريبًا من آفاق الوطنية الرحبة.

كلمة قائد الجيش رحابة، وخطأ جسيم مقاربتها سياسيًا. نحن أمام منعطف، والمرحلة تأسيسية، والجيش ليس ركنًا تأسيسيًا فحسب، بل ركنًا كيانيًا. حقل معجمي يستحق أن نحرثه بعناية.