محطات من التاريخ

قاتلت ببسالة وخاضت أقسى المعارك
إعداد: باسكال معوض بو مارون

فرقة الشرق: نقطة الإنطلاق إشارات رجال والتقاء أحلام ومصالح

 

في الخامس من أيلول 1915 وبينما كان الطرّاد الفرنسي «غيشن» في مهمة شمالي مصبّ نهر العاصي، لمح إشارات من البرّ ترسلها مجموعة من الرجال المسلّحين: فأرسل زورقًا يتّصل بقائد المجموعة، وهو شاب أرمني يدعى بيار دملكيان أبلغه أنّهم 4 آلاف أرمني من الجنسين يطاردهم العثمانيون وقد لجأوا منذ 7 آب إلى قمم جبل موسى المطلّ على البحر، ولديهم 4 آلاف بندقية، وقد نفدت مؤونتهم وقلّت ذخيرتهم. أقلت البحرية الفرنسية الأحياء الباقين من هؤلاء وأنزلتهم في بور سعيد.
هذا الحادث الصغير الذي أعقبته حوادث أخرى، كان في أساس مشروع القيادة الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى لإنشاء فرقة الشرق. وقد ضمّت هذه الوحدة جنودًا مساعدين من بلدان الشرق الأوسط ولا سيما من الأرمن والسوريين واللبنانيين.


روح «فرقة الشرق»
في تموز 1916، وعلى أثر مشاريع الثورة في سوريا، أبلغ وزير الحرب الفرنسي البحرية رغبته في تطويع مجموعة من بين أرمن الهند ومصر الراغبين في التعاون لتحرير وطنهم في ظلّ العلم الفرنسي. وجرت مفاوضات بين الحكومتين الفرنسية والإنكليزية لتركيز هؤلاء المتطوعين في قبرص، فوافقت هذه الأخيرة على استقبالهم في 13 أيلول 1916.
وهكذا ثبّتت الحكومة الفرنسية في 15 تشرين الثاني 1916 هذا المشروع بعد اقتراح الجنرال كلايتون، مدير مكتب المخابرات في القاهرة بهدف إمداد القوات الفرنسية بتعزيزات بشرية مساعدة، ودعم العمل الفرنسي في الشرق الأوسط، وتسهيل تعاون الأرمن واللبنانيين والسوريين في تحرير بلادهم التي يحتلها العثمانيون.
على رأس هذا الفوج من المتطوّعين عيّن المقّدم روميو الذي وصل إلى بور سعيد في 2 تشرين الأول 1916 وراح يعمل مع الراغبين في القتال تحت إمرة القيادة الفرنسية، ثم تلّقى الأمر بتوسيع دراسته لتشمل الاستخدام المحتمل لمتطوعين جدد مقيمين في مصر وفرنسا وأميركا ضمن إطار فرقة الشرق.
تميّز روميو بشخصيته الفذّة وبهيبته وسطوته، وقد وُصف بأنّه كان «روح فرقة الشرق».
أما النقيب روبير كولوندر الذي كان يعمل في السلك الديبلوملسي برتبة قنصل لفرنسا، فقد عيّن مساعدًا للمفوّض السامي جورج بيكو، وكان يمارس صلاحياته في أثناء غيابه، وقد كان لهيبته دورها في تطويع عناصر فرقة الشرق اللبنانيين الذين غالبًا ما كانوا يحتكون به لهذه الغاية.
في 26 تشرين الثاني 1916، صدرت تعليمات تنظيم هذه الفرقة مع جدول العديد. وفي الأول من كانون الأول افتتح معسكر التدريب في مدينة مونارغا في قبرص. ومع التطوّع تتالت وحدات الشرق أولاً بأول.

 

مؤشرات الخيار وأهدافه!
ثمة عوامل ومؤشرات عديدة وراء اختيار الحلفاء فرنسا لتشكيل وحدات عسكرية من مواطني الشرق الأوسط ومنها، التقاليد الفرنسية المغروسة في التاريخ التي كانت عاطفية وثقافية واقتصادية أيضًا، إضافة إلى الهيبة والنفوذ اللذين تتمتّع بهما فرنسا في مقاطعات سوريا، لبنان، العراق فلسطين واليمن.
وقد جعلت تقاليد العون العسكري والثقافي والعاطفي من الشرق الأوسط بشكل عام ومن لبنان بشكل خاص «فرنسا ما وراء البحار».
أما الأهداف التي دفعت الحكومة الفرنسية إلى قبول هذه المهمة الصعبة فقد كانت متعددة ومختلفة ويمكن اختصارها بالآتي:
1- تثبيت الحقوق الفرنسية في سوريا وكيليكيا: منحت اتفاقات 1916 فرنسا منطقة نفوذ شاسعة جدًا في حين وقّعت بريطانيا العظمى اتفاقات سريّة مع الأمير حسين والمنظمة اليهودية العالمية، تتناقض مع اتفاقات سايكس بيكو.
وبعد أن وقفت الحكومة الفرنسية على النوايا الإنكليزية، أرادت المحافظة على حقوقها، وترسيخ وجودها العسكري في منطقة نفوذها، وامتلاك قوة عسكرية نظامية تسمح لها بتنظيم الدول المحتلّة في حال امتدّت الثورة العربية إلى سوريا. وهكذا كان لعملية تطويع سوريين ولبنانيين دلالة سياسة مهمة على مستقبل الوجود الفرنسي في المنطقة الزرقاء.
2- نجدة الشعوب الأرمنية واللبنانية والسورية للتحرر من النير العثماني: حتى بداية العام 1916، كان عمل الحلفاء ضد الإمبراطورية يندرج ضمن إطار حملة عسكرية تنطلق باحثة عن عظيم الجيش العثماني لمقاتلته، والسعي إلى إثارة الإضطرابات والفتن في وجهه عبر مبعوثين يستنهضون الشعوب المعادية للعثمانيين.
لذا قررت هيئة الأركان الفرنسية في القاهرة تشكيل فرقة أنصار من العناصر المحليّين كي تتمكّن من حشدهم في الوقت المطلوب، وزرعهم لاحقًا في كل مكان تقريبًا: الأرمن من الإسكندرون، النصيريون في اللاذقية، واللبنانيون في جونيه، لتثير المنطقة كلها ضد العثمانيين.
3- الإستجابة لطلبات السكّان للتطوّع: كانت الحكومة الفرنسية، بإنشائها فرقة الشرق، تستجيب لآلاف الطلبات المقدّمة من الأرمن والسوريين واللبنانيين.
وفي هذا السياق أيضًا، قامت في كل المهاجر وأينما انتشر لبنانيون وسوريون، لجان لا تحلم إلا بعمل ضد الإمبراطورية العثمانية. ففي نيويورك، أخذ ضابط لبناني سابق المبادرة وترأس لجنة تطوّع الراغبين بالقتال لتحرير بلادهم من العثمانيين. وفي البرازيل ضابط آخر، كان قد قاد ثورة العام 1913 العسكرية، هرع حتى باريس لتقديم خدماته وخدمات مجموعته، مقترحًا تركيز جهود المتطوعين اللبنانيين والسوريين بهدف القيام بعمل ما في سوريا.
4- تعزيز تجريدة فلسطين- سوريا الفرنسية: لم تشارك فرنسا بفاعلية في عمليات الشرق لا في نواياها ولا في وسائلها. ولكنّها من الناحية العاطفية، المعنوية والتقليدية، ارتأت أنّه يجب إرسال «مواكبة للعلم» إلى الشرق. وهكذا شكّلت «تجريدة فلسطين الفرنسية» تحت إمرة العقيد فيليبين دو بييباب، في شهر نيسان من العام 1917 وقد تضمّنت فوجين من كردوس المشاة الإقليمي 115، وكتيبة خيالة، وأوكلت إليها مهمة مواكبة المفوّض الفرنسي وعلمه، على أن تكون رمزًا للتحالف الفرنسي- البريطاني. وكان عليها في فلسطين أن تشكّل قوى للمواقع والمحطات فقط وليس قوات مقاتلة.
وفور إنشائها أرسلت «تجريدة فلسطين الفرنسية» إلى مصر على متن المركب مينيتونكا وكانت تضمّ حين نزولها في مرفأ بورسعيد في 21 نيسان 1917: فوجين من الرماة الجزائريين وفوجًا من كردوس المشاة الإقليمي 115، والأركان ومستوصفًا نقالاً، وكتيبة خيالة من كردوس السباهي الأول، والمصالح. وفي 27 آذار 1918، استبدلت «تجريدة فلسطين الفرنسية» اسمها بـ«تجريدة فلسطين - سوريا الفرنسية».
ونزولاً عند طلب الحكومة البريطانية، أرادت هيئة الأركان الفرنسية الإشتراك بفاعلية بعمليات «مجموعة مصر البريطانية» في المشرق وبخاصة في المنطقة الزرقاء، غير أن أعباء الجبهات الأخرى حالت دون تمكّنها من تنظيم حملة عسكرية محترمة لإرسالها إلى مصر.هذا الواقع دفع فرنسا إلى تطويع جنود مساعدين من بين سكّان الشرق الأوسط وخصوصًا الأرمن والسوريين واللبنانيين، وحشدهم في وحدات قتال لتعزيز تجريدة فلسطين - سوريا الفرنسية.
5- استخدام فرقة الشرق في عمليات التدخّل الفرنسي في سوريا أو في كيليكيا: كان الحلفاء يخططون منذ العام 1916 لعمليات تدخّل متعددة الأشكال في سورية وكيليكيا، وبالتحديد إنزال قوات فرنسية تعززها ثورة شاملة ضد العثمانيين. وبهدف الإتصال بالمتمردين عبر جنود من بلادهم، كان لا بد من اشتراك فرقة بالعمليات وبالتالي بقوات الإنزال. وقد كتب الجنرال بايود تقريرًا في هذا الصدد عقب جولة تفتيشية قام بها على فرقة الشرق المتمركزة في قبرص.

 

دوافع التطوّع عند عناصر فرقة الشرق
اختلفت دوافع التطوّع وتعددّت عند الأرمن واللبنانيين والسوريين. بدرجة أولى كان السبب الذي دفع الأرمن والسوريين واللبنانيين إلى التطوّع في الجيش الفرنسي، رغبتهم في خلع النير العثماني وليكونوا بطريقة أو بأخرى تحت حماية فرنسا.
فالعثمانيون انصرفوا منذ العام 1915 إلى ارتكاب المجازر في آسيا الصغرى، والإبتزاز الرهيب للسكان اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين المهتمين بالاتصال بفرنسا وانكلترا. وأبطلوا في كانون الأول 1916 نظام الامتيازات ودستور جبل لبنان المعترف بهما من قبل القوى الأوروبية، وأجبروا اللبنانيين على الخدمة العسكرية الإجبارية واجتاحت قواتهم الجبل كله.
وفي حوران، رفض الفلاحون الدروز، خلال السنة نفسها، تسليم قمحهم إلى العثمانيين لقاء عملة ورقية مما سبّب تدمير عدة قرى.
وكان وجود المراكب الفرنسية في البحر المتوسط، واحتلال البحرية الفرنسية جزيرة أرواد، والتهديد بعملية إنزال على الشاطئ اللبناني، عوامل حرّضت حتمًا جمال باشا على اتخاذ تدابير قاسية أكثر فأكثر تؤول إلى وقف تصاعد هوس الحرب.

 

قيمة فرقة الشرق
قاتلت فرقة الشرق إلى جانب الجيوش الحليفة التي كانت تتمتّع بخبرة واسعة في القتال وذات قيمة عسكرية لا تقبل الجدل. وكان دورها متناسبًا مع تأليفها وعديدها، ومع هذا، وعلى الرغم من الصعوبات المتنوعة التي كانت تعرقل تنظيمها وحسن سير خدماتها، لاقت فرقة الشرق التقدير من القيادة البريطانية.
إختلفت قيمة المتطوعين العسكرية باختلاف أصولهم. وبشكل عام، كان للبنانيين والسوريين كبرياؤهم وحسّهم للكرامة ونشاطهم، غير أن قيمتهم العسكرية كانت متوسّطة. أما متطوعو أميركا فكانوا مفعمين بالحماسة الوطنية وتضجّ فيهم حيوية العالم الجديد، فيما كان متطوعو مصر سيئي التحضير ليكونوا جنودًا.
بالمقابل، كان الأرمن أكثر خشونة وصلابة، وعزمًا وكفاءة على الصعيد العسكري، حيث كانت تحرّكهم روح قومية لم تتآلف أحيانًا مع النظام الفرنسي. وبصورة عامة، كان لأهل جبل موسى عناد الجبليين والقدرة على مقاومة التعب، وكان أعضاء الفرقة يسعون للقتال لأسباب وطنية، وكانوا يظهرون كثيرًا من الحماسة والروح القتالية العالية عندما كانت الظروف تقرّبهم من هدفهم القومي.
على الرغم من كل الصعوبات، تمكّنت فرقة الشرق من إرضاء الجنرال بايود الذي كان من أنصار زيادة التطوّع والتنظيم بهدف تشكيل لواء.
في الواقع، قاتلت الفرقة ببسالة واستحقّت تهاني القيادة العليا الحليفة. فقد أبلت البلاء الحسن، في العملية الهجومية الكبرى ضد نابلس في 19 أيلول 1918، ضمن تجريدة فلسطين - سوريا الفرنسية، وخاضت أقسى المعارك ضد المواقع الألمانية الفائقة التحصين، ما حدا بالجنرال اللنبي على تهنئتها.

 

• بتصرّف عن كتاب: «تاريخ الجيش اللبناني المعاصر 1916 - 1946 (الجزء الأول)» - تأليف العميد المتقاعد سامي ريحانا، وترجمة العميد أنطوان نجيم.