وجهة نظر

قبل أن تتهاوى الأبراج مجددًا
إعداد: جورج علم

كان الفتى الشقيّ يعصب عينيه بخرقة من القماش، ويحمل قضيبًا غليظًا يطارد به رفاقه، وهو يصيح: «أنا أعمى ما بشوف.. أنا ضرّاب السيوف»... كانت لعبة خشنة، يجيدها صبية القرى والأرياف في أربعينيات القرن الماضي، حيث كانت وسائل اللهو محدودة، وبدائيّة...
في القرن الواحد بعد العشرين، أصبحت اللعبة أكثر انتشارًا وتطوّرًا تماشيًّا مع واقع الحال، وثورة الاختراعات، والتقنيات، والتواصل الاجتماعي، إنها «ثقافة التوحش»، لها أيديولوجياتهــا، ورجالاتها، ومموّلوها، وداعموها، والمستثمرون بها، ومن خلالها.
ولدت في حضن التاريخ، وانطوت على نفسها خلف حجاب سميك من السريّة المطبقة، واعتمدت الظلال البعيدة عن الأضواء لنشر أفكارها، ومعتقداتها. حتى الخلايا التي انتشرت مع الفتوحات، والحملات العسكريّة، حافظت على رباطة جأش، وانتظام، وانضباطيّة. كانت دومًا حاضرة في كل الغزوات، والفتوحات، عاصرت الحضارات، القديم منها، والحديث، وعايشت التطوّر من المنطلق الذي يوفّر لها ما تحتاجه لمواكبة روح العصر شرط الحرص على التحجّر الفكري، والإنغلاق المعرفي، والإلتزام الظلامي... كانت حاضرة دومًا، وتتحرك في صفوف الحاشية، والبطانة، حتى أن بعضها احتل مناصب رفيعة، لكن السرّية كانت هي السائدة، وعلى قاعدة أن الأقليّة اليوم، إن اجتهدت يمكن أن تصبح أكثريّة غدًا، وعندما تتكوّن الأكثريّة يتحقق المشروع؟!.

 

المناهل... والروافد
لم يقدّم علماء الإجتماع تعريفًا محددًا «لثقافة التوحش»، بل مقاربات رسمت سياقًا عامًا جامعًا موحدًا استند إلى عدّة عناصر.
أولها، البيئة الاجتماعيّة التي تمّ وصفها بالمنغلقة، المحافظة، المقيّدة بمفاهيم جامدة، وتقاليد صارمة، إلى حدّ أن الرأس المعصوب من الخارج، متعصّب في الداخل، ومبرمج على موجة من المفاهيم، والعادات والتقاليد التي لا يحيد عنها، حتى أن الغالبية تنظر إلى الاختراعات على أنها نوع من أنواع الكفر والزندقة؟!...
ثانيًا: إن البيئة الحاضنة، هي الأكثر فقرًا، حيث يعتمد التماسك الاجتماعي على مفاهيم خاصة مشتركة تنمّي مشاعر الحقد، والانتقام ضد الآخر، وفي البيئات الأخرى، وتقوّي في المقابل روح العنصريّة العدائيّة المتوحشة. والمؤسف أنّ الفقر عند بعض الجماعات والخلايا قناعة إيمانيّة، تفرضها العقيدة، ويستوجبها الرابط الاجتماعي بين الأفراد والجماعات التي تعتمد التقشّف أسلوب حياة.


ثالثًا: إن البيئة المشغّلة لثقافة التوحش، هي الأكثر أميّة، وقد ارتضت وجهًا واحدًا من وجوه الثقافة والمعرفة اللصيقة بالعقيدة الإيمانية المتزمتة.
بالطبع هناك من غرّد خارج السرب، وهم كثر، دخلوا الجامعات، اقتحموا قصور العلم والمعرفة، عايشوا روح العصر بثوراته التقنيّة، المعرفيّة، الرقميّة، لكن المبادىء المحنّطة في زوايا الذاكرة سرعان ما تستفيق، وتخطف الكائن من عالمه المعاصر لتعيده أداة منفّذة لثقافة التوحش.
رابعًا: إن البيئة المحفّزة، هي تلك المتصلة ببعض رجال الدين، وبما يبثونه من معتقدات، ومفاهيم، ونظريّات تعمّم ثقافة التوحش، وتنمّيها، وتؤجج جمراتها في الصدور المحتقنة، بحيث ينطلق التوحش مندفعًا، هائجًا، مشرقطًا، مصممًا على بلوغ الهدف، وحتى التضحية في سبيله.
نظريات كثيرة استند اليها علم الاجتماع لمقاربة هذا النوع من الثقافة المضرّجة، والتي لا ترتوي على الرغم من غزارة الدماء، إلاّ أن «الفوعة» الحديثة التي نشهدها في زمننا هذا على مشارف الربيع العربي، لم يجارها أي مثيل لا في التاريخ القديم، ولا المعاصر... لقد ظهرت العديد من «الفوعات»، في أزمنة مختلفة، لكن سرعان ما ذهبت ريحها بعد أن حققت أهدافها في أشرعة المصالح.

 

الأبراج المرتعدة
دخلت ثقافة التوحش نادي المصالح من الباب الواسع والعريض. كثيرون أجادوا اللعبة. كثيرون شمّروا عن سواعدهم ليبيعوا ويشتروا باسم مكافحة الإرهاب. كثيرون برعوا في اعتماد ازدواجية مقيتة برّرتها، وتبرّرها لعبة المصالح. فباسم القضاء على الإرهاب، تحرّر مئات العقود بمليارات الدولارات لشراء الأسلحة الحديثة، وتخزين الترسانات. وباسم محاربة الإرهاب تعقد الصفقات، وتزدهر السمسرات، وتستباح الأجواء والحدود لكي تزدهر مواسم الموت والقهر في الساحات المنتفضة تحت شعاري التغيير نحو الديموقراطيّة والعدالة الإجتماعيّة؟!...
من واقعة البرجين في نيويورك، إلى برج البراجنة في بيروت، إلى برج إيفل في باريس، مسيرة لا تنتهي، أبطالها أشباح تخرّجوا من ظلمات وظلاميّات التاريخ، واجتاحوا الساحات، فالتغيير عندهم وجهة نظر، «أنا، ولا أحد»، وكلّ «أحد لا يندمج في ثقافة الأنا هو شرّ يجب إزالته؟!».
في معشرهم، يصعب الاندماج... في شرعهم الليل ليل، والنهار نهار، لا يلتقيان، أما الغسق فمسافة التباس، والالتباس موطن الشيطان. هم هكذا ظلاميّة متوحشة، نهلت ازدرائيتها من مناهل ثلاثة: الأصوليّة بمفهومها المتصحّر، والأيديولوجيّة بمضمونها المتجبّر، والعنصريّة بفهومها المتفجّر.

 

عندما يبقر بطن التاريخ
بالطبع هناك من بقر بطن التاريخ، ومزّق كلّ الأكفان المحنّطة ليستخرج الإرهاب ويقدّمه طبقًا نافرًا في عصر الكومبيوتر، والإنترنت، وثورة الاتصالات، والتكنولوجيا. لقد رافق كلّ العصور والعهود، لكن «بشوكة مكسورة»، وأظافر مقلّمة، وأنياب محطّمة. شيء منه يتسرّب من مسارب الجاهليّة حيث كانت الشهوات تطغى على السلوكيات وتستبيح المحرمات. شيء منه يتسرّب من تراثيات الصحوة الإيمانيّة، حيث كان للسيف بأسه وبؤسه، ومن فلسفة «ما أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ»، إلى فلسفة «نشر الهديّ والمعرفة على حدّ السيف». شيء منه يتسرب من ظلم الطاغيّة، كم من العروش قد شيّدت من جماجم المقهورين؟ وكم من الممالك قد أقامت ظلمًا في الأرض، ووطدت دعائم حكمها بمسامير الإرهاب؟!. شيء منه يتسرّب من زواريب الفاقة، والحاجة، حيث يقبع المقتدر في البيئة الفقيرة متسلّطًا بفكره، وعقيدته، ومصلحيته يؤثّر على العامة، ويدفع بها لارتكاب الفظائع. وشيء منه يتسرّب من الانغلاقيّة في المجتمعات المقيّدة بجور السلطان، أو جور المال، أو التبعيّة المفرطة... إن العقيدة الإرهابية خليط - مزيج من كلّ هذه التجارب المريرة... وقديمًا قيل «ليست الطحالب وحدها التي ترسو على سطح المستنقعات، فهناك الثعابين السّامة أيضًا؟!».

 

الغرب.. والمصالح
قدّم الغرب الديموقراطي المتحررّ تعريفًا للإرهاب يتماشى مع طموحاته، ومصالحه العابرة للحدود، فوصف بعض الأنظمة في المشرق العربي بالفاسدة كونها قائمة على الظلم والاستبداد، وإرهاب المواطن، متغاضيًا عن مساحات الاستقرار التي كانت سائدة، ومعها وفرة متواضعة من الأمن الاقتصادي الاجتماعي، التي كانت تخفف بعض العبء من ضيق القبضة الديكتاتوريّة الصارمة. بالطبع، لا يمكن المقارنة بين ما كان، وما هو سائد الآن، لأن المستجدات المتسارعة قد أرخت بثقلها على كاهل الشرق الأوسط، وخلطت الأمور، وضيّقت الأنفاس، وتركت المواطن يهرول مسرعًا إلى الأمام خوفًا من «التسونامي» الزاحفة التي تطارده بأشكال متعددة: الجبهات، والمواجهات، القصف، والأسلحة المحظورة، والتصفيات... باسم التغيير والسعي نحو الديموقراطيّة والعدالة الإجتماعيّة، ترتكب الفواحش. لا يعرف المواطن من أين تؤكل كتفه، وعلى أي مشرحة سيمدد لقطع رأسه: هل على المشرحة الفئويّة، أو الطائفيّة، أو المذهبيّة، أو الأقليّة والأكثريّة، أو العصبيّة الممزوجة بالبغض والكراهية وحب الانتقام، والسعي المستميت لتنفيذ رغبات المستثمرين في الدماء العربيّة الصافية. والساعين إلى تغيير معالم التاريخ والجغرافيا، لرسم حدود جديدة لجغرافيات مصالحهم؟!..

 

الاستثمار بالإرهاب
لم يكن هناك من تاريخ للإرهاب، لكنّ الإرهاب كان مرافقًا للتاريخ في محطاته الوضاءة المشعة، وأيضًا في كسوفه السحيق. فجأة استفاق من غفلته، وضرب ضربته الموجعة في عمق الولايات المتحدة الأميركيّة، وفي قلب نيويورك، وأدى إلى انهيار البرجين في 11 أيلول 2001، بشكل مريع، ومأسوي. ولغاية الآن لم يكشف النقاب عن حقيقة الدوافع، ولا عن الغرف السوداء التي خططت وأشرفت على التنفيذ، ولا عن تعدّد مواقعها، ومراكزها. وما سمح بنشره، والإفراج عنه لوسائل الإعلام، وللرأي العام، كان مدروسًا وموجّهًا لإلقاء التهم على حفنة من الإرهابييّن، وعلى جنسياتهم التي اقتصرت على دول محددة، وثقافة واحدة.
على أثر الكارثة المريعة، أطلق الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش حربه ضد الإرهاب. أعلن في 11 أيلول 2001، «حربًا عالميّة»، وأمر بضرب أفغانستان للقضاء على نظام «طالبان»، و«القاعدة». وصنّف الدول في محاور... ففي خطابه عن «حالة الاتحاد» لسنة 2002، أكّد بوش أن «محور الشر» من كوريا الشمالية، وإيران، إلى العراق، يهدد السلام العالمي، ويشكّل خطرًا متزايدًا على الاستقرار، وأكّدت إدارته «حقّها وعزمها على شنّ حرب وقائيّة؟!».
وفي السابع من تشرين الأول بدأت القوات الأميركيّة والبريطانيّة حملات جويّة بالقصف الصاروخي، ومهّدت الطريق لوصول قوات «التحالف الشمالي» إلى كابول في 13 تشرين الثاني، وكانت الأهداف الرئيسة للحرب، هزيمة «طالبان»، وطرد تنظيم «القاعدة» من أفغانستان، والقبض على قادتها، وتنصيب حامد كرزاي رئيسًا. أمّا العراق الذي وصفه خطاب «حالة الاتحاد» بأنه جزء من «محور الشر» المتحالف مع الإرهابييّن، فاعتبر مصدر خطر كبير ومتزايد من خلال الاستحواذ على أسلحة الدمار الشامل.
إنضمّت إلى مساعي بوش أكثر من عشرين دولة، أبرزها بريطانيا، وأوستراليا، وبدأت حرب العراق في 20 آذار 2003، تحت شعار تخليصه من أسلحة الدمار الشامل، وخلع صدّام حسين من السلطة. مع اقتراب سنوات عهده من النهاية، وقبل أن يغادر البيت الأبيض، اعترف بوش بأنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل في العراق. لكن ما حصل قد حصل...
في ما يخص كوريا الشماليّة، أدان بوش علنًا سياسة زعيمها كيم جونغ إيل، وتمّ تجميد حساباتها المصرفيّة في البنوك الأجنبيّة. ونتيجة المباحثات التي بدأتها الولايات المتحدة مع الصين في 2 أيلول 2007، وافقت كوريا الشمالية على كشف، وتفكيك جميع برامجها النووية بحلول نهاية العام نفسه.

 

أوباما يصحح
في الرابع من حزيران 2009، ألقى الرئيس باراك أوباما خطابًا في جامعة القاهرة، وفاءً لوعد كان قد قطعه خلال حملته الانتخابيّة، بأنه إذا فاز، سيوجّه رسالة إلى المسلمين، من عاصمة دولة إسلاميّة في الأشهر الرئاسيّة الأولى.
يقول السكريتير الصحفي للبيت الأبيض آنذاك روبرت جيبس، «إن الخطاب حمل عنوان «بداية جديدة»، وإنّ الرئيس اختار مصر ليصالح الولايات المتحدة مع المسلمين، ويسعى إلى تمتين العلاقة بين أميركا والعالم الإسلامي والتي تشوّهت كثيرًا خلال فترة رئاسة جورج بوش».
يضيف: «تمّ اختيار مصر كونها تمثّل قلب العالم العربي، من مختلف الجوانب، وتعتبر إحدى القوى الأساسيّة في عملية السلام في الشرق الأوسط، كما أنها تتلقّى مساعدات اقتصاديّة وعسكريّة أميركيّة؟!».
بعد مرور سنوات ست على هذا الخطاب، هل تصالحت أميركا مع العالم الإسلامي؟!.

 

ازدواجية
لقد تعاطت الدول الكبرى النافذة مع الإرهاب بازدواجيّة لكنها عندما بدأ يطال حدود كياناتها ومصالحها، راحت تتعاطى معه من موقع الديكتاتور المتجبر.
يقول الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بعد «اجتياح» باريس بعمليات إرهابيّة صاعقة ومكلفة في 13 تشرين الثاني 2015، «لا هوادة مع الإرهاب»، أعلنها حربًا مفتوحة، استنهض همم دول الإتحاد الأوروبي، سارع وزراء الداخلية إلى رسم الخطط، والسيناريوهات، واستنفرت جميع الغرف الذكيّة التابعة للمخابرات الأوروبيّة- الأميركيّة لتقديم الأطباق الطازجة والشهيّة من المعلومات القيمة لملاحقة الشبكات، وإحباط المخططات قبل تنفيذها، وملاحقة الإرهابييّن في كهوفهم، وأوكارهم، وجحورهم. وأخذت طاولة فيينّا المخصصة لمعالجة الأزمة السوريّة على كاهلها مسؤوليّة التصدّي، وكذلك فعلت قمّة العشرين التي استضافتها تركيا في أنطاليا. إلاّ أن الخبراء الميدانييّن المكلّفين بالتنفيذ العملاني على الأرض، اشتكوا من الازدواجيّة المريبة، وسياسة «المعايير الاستنسابيّة» التي لا تزال سائدة على مستوى عواصم القرار. فالغرب جادّ في مكافحة الإرهاب الذي يستهدف ساحاته، ومصالحه مباشرة، لكنّه لا يزال يبيع ويشتري تحت عنوان مكافحته في الشرق الأوسط، وتحديدًا في سوريا، والعراق، والساحات المشتعلة الأخرى...

 

الإرادة أولًا
خلال مناقشة موضوع الإرهاب أمام مؤتمر قمة دول العشرين في أنطاليا، قدّم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون دراسة وضعت بتصرّف الملوك والرؤساء والأمراء المشاركين، وتضمّنت جميع القرارات التي اتخذت على مستوى مجلس الأمن الدولي، والجمعيّة العامة للأمم المتحدة، بعيد أحداث 11 أيلول 2001، وبسّطت كيفيّة محاربة الإرهاب... وقال يومها كلامًا «للتاريخ» أمام القادة المشاركين في القمة: «لا تنقصنا القوانين الرادعة... تنقصنا الإرادة لوضعها موضع التنفيذ؟!».
وأضاف: إن مكافحة الإرهاب لا تتم بالقصف الجوي، ولا بملاحقة قادة التنظيمات الإرهابيّة، وعناصرها، بل إلى جانب استخدام القوة، يفترض أن تكون هناك استراتيجية واضحة للقضاء على الإرهاب تقوم على الآتي:
أولًا: تجفيف منابعه، سواء أكانت دولًا، أو تنظيمات ومنظمات، أو جماعات، أو أفرادًا، تسهم في تمويله، وتسليحه، ومدّه بجميع أنواع الدعم المادي أو المعنوي وملاحقتها، ومحاسبتها...
ثانيًا: إطلاق استراتيجيّة اقتصاديّة- انمائيّة شاملة لتحسين الأحوال الاجتماعية المعيشيّة في البيئات الأكثر فقرًا، والأكثر احتضانًا للإرهاب.
ثالثًا: إطلاق دينامية ثقافيّة تنويريّة قانونيّة في البيئات الظلاميّة، والمجتمعات الفقيرة المنغلقة، لفتح نوافذ المعرفة، وإحداث نقلة نوعيّة، وعلى قاعدة لا يوجد أفكار ومعتقدات ثابتة جامدة متحجّرة، بقدر ما يوجد إمكانات هائلة لاستنشاق الهواء النظيف، وتمكين خيوط التنوير من أن تنشر نورًا ودفئًا في الأمكنة الأكثر عتمة وانغلاقًا...