بين الأمس واليوم

قراءة في مسيرة جيشنا: الفخر والعزة والأمل...
إعداد: د. إلهام نصر تابت

استقلال 2022

 

تحمي الجيوش استقلال بلادها وتفتديه بالدماء الغالية، تلك هي أهم وظائفها والغاية من وجودها، لكنّ الجيش اللبناني يتميز عن جيوش كثيرة بكونه من بناة الاستقلال وليس فقط من حماته.

فهذا الجيش ولد من رحم نضال طويل خاضه أسلافنا بهدف التحرر من الاحتلال العثماني. وهذا النضال هو ما قاد خيرة شبابنا إلى الانضمام لفرقة الشرق التي أنشأها الحلفاء في المنطقة خلال الحرب العالمية الأولى، مشترطين أن يدوّن على عقودهم أنّهم يتطوعون لتحرير لبنان وحسب. وعندما تخلّفت سلطات الانتداب الفرنسي عن الوفاء بوعودها المتعلقة باستقلال لبنان، كانت للنواة التي منها انبثق جيشنا مواقف استقلالية حفظها التاريخ. هذه المواقف تشكّل جزءًا مهمًا من إرث المؤسسة العسكرية، إرث حي حفظته من جيل إلى جيل، وتجسد في مسيرتها المكللة بالتضحية والإصرار على أداء واجبها المقدس، منذ تأسيسها وصولًا إلى المرحلة الحالية وهي الأقسى في تاريخ لبنان الحديث.

 

بالعودة إلى إرث الأسلاف، يحفظ التاريخ للضباط اللبنانيين في فرقة الشرق وقفتهم المشرّفة حين اجتمعوا في ٢٦ تموز ١٩٤١ ووقعوا وثيقة الشرف التي جاء فيها: «نحن نخبة الضباط اللبنانيين نقسم بشرفنا أنّنا لن نقبل الخدمة إلا في سبيل لبنان وتحت علمه، وكل من يختار منا طريقًا آخر يعتبر خائنًا ويعامل على هذا الأساس»... وقد ربطوا في هذه الوثيقة استئناف مهماتهم العسكرية تحت قيادة سلطات الانتداب بالحصول على وعد قاطع بالاستقلال. وفي العام ١٩٤٣ حين احتدمت معركة الاستقلال، دعم الضباط اللبنانيون تشكيل حكومة مؤقتة في بشامون وقيام ما عُرف يومها بالحرس الوطني، وكان الجنود اللبنانيون جنبًا إلى جنب مع المواطنين في التظاهرات التي عمّت مختلف المناطق اللبنانية.

 

منذ البدء

وقد تضمنت محفوظات الجيش الفرنسي الكثير من المذكرات «السرية للغاية» التي تتعلّق بالأحداث التي سبقت استقلال لبنان وحضّرت له، ويعكس بعضها عدم الرضى عن تصرفات ضباط كبار أظهروا منذ العام ١٩٤١ رغبات ملموسة في استقلال بلدهم، فضلًا عن مذكرات أخرى تحدثت عن مساهمة بعض الضباط في تحقيق الاستقلال الفعلي للبنان، وطالبت باتخاذ تدابير عقابية بحقهم. ومن بين هؤلاء العقيد زهران يمين الذي أظهر دومًا اتجاهًا واضحًا للاستقلال عن السلطة والقوانين، والمقدم جميل لحود الذي كان يقوم بدعاية مضادة للانتداب، والعقيد توفيق سالم الذي اتخذ مواقف استقلالية صريحة...

في العام ١٩٤٥، أي بعد الاستقلال بنحو سنتين، تسلّمت الدولة اللبنانية جيشها من سلطات الانتداب، وأعادت تنظيم وحداته. ومنذ ذاك التاريخ وجيشنا يواصل مسيرة التضحية والعطاء في مختلف المجالات التي تتصل بمهماته، وأحيانًا كثيرة بما هو أبعد من هذه المهمات، وهذا ما جعل له مساحة مميزة في وجدان اللبنانيين الذين يجدونه بقربهم في الملمات والأزمات، جاهز دومًا لمواجهة الأخطار التي تهددهم، وللتخفيف من معاناتهم.

 

ثبات وسط الأزمات

في عز الحرب ورغم انحسار دوره ظل الجيش عنوان الأمان ورمز وحدة اللبنانيين، وبعد الحرب كان في طليعة المؤسسات التي نهضت لينهض معها الوطن من بين الركام. واليوم وفي ظل أزمة طاحنة اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، يقف هذا الجيش ثابتًا متماسكًا حافظًا آخر معاقل الأمل، ومصرًا على المحافظة على الكيان ومنع الانهيار الشامل الذي يضعنا في متاهات يصعب الخروج منها.

 

محطات حاضرة في الوجدان

في مسيرة جيشنا محطات تبقى حاضرة في الوجدان وتشكّل جزءًا مهمًا من نضاله في سبيل استقلال لبنان، وهو نضال سال خلاله دم الشهداء غزيرًا عزيزًا في وقفات ومعارك بطولية نستذكر بعضها في ما يأتي.

ففي العام ١٩٤٨ وبينما كان جيشنا طري العود، خاض معركة المالكية في مواجهة العدو الإسرائيلي وسجل انتصارًا مدويًا كتبته دماء ٨ شهداء. وفي أيلول من العام ١٩٧٢ تصدى لاجتياح العدو الإسرائيلي لمناطق في الجنوب، فدمر له العديد من الدبابات والآليات وأجبره على التراجع، هذا الانتصار كلّفه دم ١٩ من خيرة رجاله. خلال عدوان ١٩٩٣ قدم الجيش ٤ شهداء وسقط له عدد مماثل خلال عدوان عناقيد الغضب في العام ١٩٩٦، أما في عدوان تموز ٢٠٠٦ فبلغ عدد شهدائه ٤٦.

خاض الجيش معارك بطولية في مواجهة الإرهاب أيضًا، ومنعه من تحقيق مخططاته السوداء، في الضنيه سقط له ١١ شهيدًا ليلة رأس السنة من العام٢٠٠٠، أعقبت ذلك حرب نهر البارد التي كلفتنا ١٧١ شهيدًا، وفي ٢٠١٣ أسفرت مواجهات عبرا عن سقوط ١٩ شهيدًا، لتأتي بعدها معارك عرسال في ٢٠١٣-٢٠١٤ التي كلّفت جيشنا ٤٦ شهيدًا. وفيما كانت معركة «فجر الجرود» في آب ٢٠١٧ الضربة القاضية التي وجهها للإرهاب، يستمر جيشنا في رصد المجموعات والخلايا النائمة ويوجّه لها الضربة تلو الأخرى، مانعًا إياها من تنفيذ عملياتها الإجرامية.

 

تطوير القدرات

بينما يقوم الجيش بمهماته في مجالات الدفاع والأمن والإنماء والخدمات، يستمر في تطوير قدراته رغم الأزمة الاقتصادية التي تحول دون حصوله على الموارد اللازمة لذلك. فبفضل ما أثبته من كفاءة وجدارة في التعاطي مع الأزمات، ونظرًا لأهمية دوره في حفظ الاستقرار ومنع حصول انفجار يطيح بكل شيء وتتجاوز تأثيراته الحدود، يحصل الجيش من الدول الصديقة على مساعدات تسهم في تطوير قدراته المختلفة. وهو يعمل من جهة أخرى على استثمار طاقاته بأقصى ما يمكن ليحافظ على جهوزية عديده وعتاده.

في هذا السياق يُذكر تحديث أسطوله الجوي بطائرات حديثة وأهمها سيسنا وسوبر توكانو، وإعادة إحياء الطائرة المروحية أوغستابيل بعد ٣٠ سنة من توقفها عن العمل. هذا الإنجاز الرائع كان ثمرة جهود فريق مؤلف من ١٦ عسكريًا بينهم ضابطان، عملوا وفق برنامج لإعادة إحياء ٥ طائرات قديمة بمعدل طائرة كل سنة.

على صعيد القوات البحرية التي أُضيفت إلى مهماتها مهمة حماية المنشآت النفطية بالإضافة إلى مكافحة الهجرة غير الشرعية التي نشطت في السنوات الأخيرة، يجري العمل على تركيب شبكة رادارية تُمسك بالشاطئ اللبناني، فضلًا عن طائرات مراقبة من دون طيّار. كذلك سجلت هذه القوات خطوة مهمة من خلال إعداد مصلحة الهيدروغرافيا للخرائط البحرية.

وعلى الحدود البرية جُهزت الأفواج بمعدات وأجهزة رصد ومراقبة متطورة لمنع التهريب.

إلى ذلك تشهد مختلف القطع دفعًا إلى الأمام من خلال جهود جبارة تُبذل لرفع الجهوزية إلى أقصى حد، وتطوير مزيد من القدرات، ودائمًا عبر الاستخدام الأفضل للقوى والموارد والمعدات، ومن دون كلفة مادية تُذكر.

 

التدريب والتعليم

ثمة مقولة مفادها أنّ كل نقطة عرق تُبذل في التدريب توفّر دمًا في أرض المعركة، لذلك ينشط التدريب في الوحدات والقطع ويسير جنبًا إلى جنب مع أداء المهمات. وثمة قطع متخصصة في التدريب هي: كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان، الكلية الحربية، معهد الرتباء ومعهد تدريب الأفراد. إلى ذلك يتم انتداب ضباط لمتابعة دورات تدريبية في الخارج.

في الماضي كانت متابعة العسكريين لتعليمهم بينما هم في الخدمة محصورة برتب معينة، أما اليوم وانطلاقًا من أهمية رفد المؤسسة بكوادر على مستوى عالٍ من التعليم، بات مسموحًا للجميع أن يتابعوا التعليم العالي، لا بل أنّ القيادة تشجع على هذا الأمر وتعقد اتفاقيات تعاون مع الجامعات بهدف تخفيف أعباء كلفة الأقساط عن العسكريين.

من جهة أخرى، وبموجب بروتوكول تعاون مع الجامعة اللبنانية بات بإمكان متابعي دورة الأركان معادلة شهادتهم بماستر في العلوم العسكرية، كما ستتم معادلة ٤ سنوات يمضيها التلامذة الضباط في الكلية الحربية بإجازة في اختصاصات محددة يحتاج إليها الجيش.

ولتعزيز امتلاك العسكريين اللغات الأجنبية أُنشئت عدة مختبرات لتعليم هذه اللغات.

 

نقلة نوعية

في بداية التسعينيات شاهد اللبنانيون لأول مرة مجموعة من الإناث يتخرجن من المدرسة الحربية برتبة ضابط اختصاص، هؤلاء تدرجن في الترقية حتى رتبة عميد وكانت اختصاصاتهم غير قتالية (طب أسنان، إدارة أعمال...). بعد ذلك (بين ١٩٩٤ و١٩٩٧)، تم تطويع إناث من حملة الإجازات برتبة عريف، وكثيرات منهن أصبحن برتبة ملازم. لكنّ النقلة النوعية على صعيد دور الإناث في المؤسسة العسكرية حصلت في العام ٢٠١٧، إذ فُتحت أبوابها أمامهن، فتم تطويع نحو ٤ آلاف أنثى. واستكملت الخطوة الرائدة بدخول الإناث إلى الكلية الحربية ليتخرجن ضباطًا في مختلف الاختصاصات بما فيها القتالية، ويثبتن خلال التدريب كفاءة عالية ضاهت كفاءة رفاقهن الذكور وأحيانًا تخطتها.

نقرأ في مسيرة جيشنا في الماضي فنشعر بالعزة والفخر، وننظر في حاضره فنشعر بما هو أكثر من الفخر، بالأمل يهزم كل السواد من حولنا، ويؤكد أنّ حماية الاستقلال ليست فقط في بذل الدماء فداءً للوطن، إنما هي أيضًا فعل إرادة يتجلى في مختلف المجالات، وهذا ما يُثبته الجيش اللبناني يوميًا بسيره إلى الأمام متخطيًا كل العوائق.