عادات وتقاليد

قرعة المتي من الأرجنتين إلى لبنان
إعداد: إعداد: دريد زهر الدين
عميد متقاعد

في التواصل اللبناني بين البلد المضيف والوطن الأم، تمتزج العادات والأعراف والتقاليد الاجتماعية, بما في ذلك صنوف المائدة والضيافة، التي جلبها المهاجرون العائدون إلى لبنان، وإن انفردت بها بعض الطوائف، فأصبحت من أولويات الحياة اليومية لديها.
يقال في الموروث التركي «كُلّ فرنجي برنجي» وبرنجي أصلها Birinci باللغة التركية، أي أولي. من جهتنا كلبنانيين، نعطي أولوية لكل ما هو جديد، وبحكم العادة يصبح جزءًا أساسيًا مما نحن فيه، يتجذّر فينا ويصبح تقليدًا، وعُرفًا، وسلوكًا.

 

عادة جلبها المهاجرون
من أساليب الترحاب والضيافة التي اكتسبها المهاجرون إلى الأرجنتين تقديم أنواع من الحلويات التقليدية الأرجنتينية مثل مربّى الحليب «دولثي دي ليتشي» Dulce de leche ومربّى البطاطا «دولثي دي باتاتا» Dulce de Batata و شراب «المتّي» التي أخذها لبنانيو الوطن من ذويهم المغتربين في الأرجنتين.
«المتّي»، هي شراب الضيافة الأساسي عند طائفة الموحدين الدروز في لبنان، درج استخدامها منذ الهجرة اللبنانية للطائفة المذكورة أواخر القرن التاسع عشر إلى جنوبي أميركا، وتحديدًا إلى الأرجنتين والباراغواي. إلّا أنها درجت لدى بعض الطوائف الأخرى بالتواتر والتواصل الاجتماعي، خصوصًا المسيحيين الموارنة الذين تعايشوا في جبل لبنان والمتن مع الدروز. أمّا هجرة المسيحيين الأوائل، فكانت كثيفة باتجاه البرازيل، ومنها أتوا بالقهوة كضيافة أساسية، ولو أنها استقدمت إلى المشرق منذ عهد السلطان سليمان العثماني كمشروب ضيافة جديد.
بعض المسيحيين، وخصوصًا في المدن، درجوا على شرب «المتّي» بالفنجان وليس «القرعة» وفق التقليد الأرجنتيني، وذلك أسوةً بالضيافة على طريقة القهوة وخلافًا لما هو الأمر لدى المسيحيين الذين تعايشوا مع الدروز وأخذوا عنهم «قرعة المتي». لكن كيف اشتُقّ الاسم؟

 

أصل التسمية
الجاربا هي «yerba» أو «erba» أي «عشبة»، لكن في جنوبي أميركا، وخصوصًا في اللهجة الأرجنتينية، تلفظ الـ lyeh كـ«جه». وهكذا تصبح «la erba» بلفظها «جاربا». ومثلها تلفظ «bombilla» بقول «بومبيجا» و«bomba» تعني مضخّة وتصغيرها «bombilla»، وهي المضخّة الصغيرة التي تُشرب بها عشبة «المتّي».
أما كلمة «متّي»، كما يقول أقرباء من مهاجري جبل لبنان إلى الأرجنتين، فمصدرها فعل «matar» أي قتل. ويقال للاعب الثيران في التقليد الإسباني «توريرو» Torrero، واللاعب الذي يرمي الرماح لينحر الثور الجامح، يسمى «ماتا دور» Matador، أي «قاتل». وتصريف فعل Matar يكون: mato – matas - Mata بعد أسماء الإشارة للمذكر، وتقلب الـ Mata إلى Mate من تصريف الفعل في المستقبل التام المستمرّ Subjunctivo Presente، فتصبح التسمية إنشائيًا la yerba que mate el tempo، أي «العشبة التي تقتل الوقت»، أو «جاربا متي». هذا المعنى يعود بنا إلى تقليد ضيافة «المتي» في سهرات جبل لبنان، إذ يتم تمريرها بالدور على الزائرين، وسط تبادل الأحاديث، وهكذا يمرّ الوقت...

 

جلسات وأحاديث
بما أن الكسل من سمات الشعب الأرجنتيني, فإنّ شرب «المتّي» يناسب جلسات الأصدقاء الطويلة، فيضيع الوقت ويتناسى الزائر مراده من الزيارة أو عمله الذي هو ذاهب إليه، وقد تكون جلسة «المتّي» للراحة بعد يوم طويل من العمل. ففي الأرجنتين، يجلس «الغاوتشو» معًا حول الموقدة، وهم يحتسون «المتّي» بعد يوم عمل مرهق وطويل، حيث يولد الصمت من التعب، ومن انتظار تمرير «قرعة المتّي» من يد تنتظر دورها إلى أخرى. بعدها، شيئًا فشيئًا، تبدأ محادثة فطرية، يتقارب الحضور أكثر ويشعرون بالتلاحم، ويصبح الحديث كما الجلسة، أكثر حميمية.

 

بين التقاليد والعادات اليومية
القرعة تقليد أرجنتيني صرف، هي صغيرة الحجم أحيانًا، كما في لبنان، وكبيرة كما في تقاليد جنوب البرازيل، ولو أنّ القهوة هي أساس الضيافة هناك.
يستخدم «الغاوتشوس» Los Gauchos أو رعاة البقر الأرجنتينيون Argentinian Cowboys «الماتّي» yerba mate كمنشّط غذائي. وهم يعتبرون أن لشربه بواسطة القرعة منافع صحية، فضلًا عما يوفره من تسلية وتوطيد للعلاقات الاجتماعية. فتمرير «قرعة الماتي» من يد شخص إلى آخر فعل ضيافة ضمن حلقة من أصدقاء يتبادلون القصص والأفكار.
أخيرًا، الـ«يربا ماتي» شجرة صغيرة تنبت في الغابات الرطبة، وتسمّى البلوط الأخضر Llex Paraguariensis، اكتشفها المستعمرون الإسبان في شرقي باراغواي على ضفاف نهر Rio Parana.
ويعتبر «الماتي» المشروب الوطني الأول في الأرجنتين، والأوروغواي، والباراغواي وجنوبي البرازيل، حيث يستهلك بنسبة ستة إلى واحد مقارنة بالقهوة.. ويشرب أكثر من تسعين بالمئة من المواطنين الأرجنتينيين الماتي بالطريقة التي أخذها عنهم اللبنانيون المهاجرون، كما يُعدّ لبنان من أكبر مستهلكي هذا المشروب خارج أميركا الجنوبية.