قصة من وطني

قصة من وطني
إعداد: العميد الركن اميل منذر

عند مدخل القرية تجمهروا لملاقاته بطلاً عائداً. كلهم جاؤوا يستقبلونه، لا بل يبكونه ويودعونه، ويقولون له بالدموع الخرساء عبارات أبلغ ممّا تنطق به الشفاه.
بين الجمع امرأة واحدة تشق صفوف الناس المحتشدين بيديها وهي تصرخ وتبكي بتفجّع. أمسكت بذراعيها امرأتان متجلببتان بالأسود، وساعدتاها على جرّ قدميها إلى سيارة الإسعاف. إنها أمّ الجندي الشهيد. جاءت لا لتضمّ إبنها وتسرّح شعره القصير بأصابعها وتلمّ بشفتيها قطرات العرق المنسابة على جبهته السمراء كما في كل مرة، بل لتغسل بالدموع قطرات الدمّ الطاهر التي تخضّب بزّته المرقّطة. قبل أن يخرج من باب البيت مغادراً إلى جبهة القتال، قال لها إنه سيعود. كانت تنتظر عودته حاملاً حقيبة ملابسه، باسم الثغر والعينين، فيمر على والده في البستان ليلقي عليه التحية ويقبّل يده وينال بركته متمنياً مجيء يوم يستطيع فيه أن يحمل الأتعاب عنه، ثم يحثّ الخطى إلى المنزل منادياً أمه من بعيد: أنا جئت يا أمي. فتترك كل عمل تقوم به وتخرج لملاقاته واحتضانه بين ذراعيها مثلما كانت تفعل وهو صغير. لا لم يكبر كثيراً. هو ما زال صغيراً ولو أصبح جندياً ينتعل حذاءً عسكرياً قاسياً ويرتدي بزة خشنة. هو ما زال صغيراً وإن كان كبير أخويه. العشرون سنة ليست بكافية لتجعله كبيراً في نظر أمه. كانت تناديه: يا صبي، فيضحك: «كفّي عن مناداتي: يا صبي. ألا ترين أنني أرتدي بزة عسكرية! لقد أصبحت الآن رجلاً». فتجيبه أمه بدعابة: تعال إلى ذراعيّ أمك أيها الرجل الصغير. ثم تنهض وتدنو منه وتطبع قبلة على رأسه.
- لقد آن الأوان يا أمي لآتي لك بخادمة تساعدك في عمل البيت. لقد تعبت كثيراً في سبيلنا، وها أنا اليوم أصبحت قادراً أن أفعل شيئاً من أجلك.
- لا يا بني إدّخر مرتّبك، فغداً عليك أن تؤسس بيتاً وتتخذ لك شريكة حياة. أريد أن أفرح بك وأرى أحفادي بين يديّ قبل أن أموت.
- كيف تريدينني أن أتزوج وأنت ما زلت ترينني صبياً فهل يتزوج الصبيان!؟ سأل باسل ضاحكاً.
- دعك من المزاح الآن. ما رأيك لو بدأت بالبناء فوق سطح هذا البيت؟ على الأقل تبقى قريباً منّا فنستطيع أن نراك كل يوم.
لاذ باسل بالصمت، تماماً كما هو صامت الآن. لا. لن يبقى قريباً من أمه؛ وهي لن تستطيع أن تراه بعد اليوم. باسل سيبقى بعد اليوم صامتاً، وسيغيب وجهه إلى الأبد.
كل هذه الذكريات إزدحمت فجأة في خاطر الأم المفجوعة وهي تلقي برأسها فوق صدر ولدها وتدس راحتيها تحت كتفيه وتشده صوبها كأنها تحاول أن تخبئه بين ضلوعها فتمنع الموت من أن يسرقه منها. هو ولدها. هو لها. لن تسمح لأحد بأن يبعده عنها.
كانت عيناه مغمضتين ويداه باردتين. وجهه الهادئ سكب عليه الموت لونه الزعفراني. لقد عاد إلى القرية ولم يرَ حقولها وكرومها. هذه الكروم وتلك الحقول التي رافق أباه أيام الحرّ والبرد ليعمل وإياه في حراثة أرضها الطيبة وريّ أشجارها الخيّرة وقطف ثمارها اليانعة، فيساعد «أبا باسل» في تأمين لقمة العيش وشراء الكتب المدرسية له ولأخويه. عاد إلى القرية ملفوفاً بالعلم فلم يداعب نسيم الغابة وجنتيه ولم تلوّح الشمس جبينه وساعديه. عاد ولم يسمع خرير عين الضيعة وغناء العصافير على أغصان السنديان والشربين.
طوال الليل سهر عادل وسلمى إلى جانب ولدهما المسجّى على سرير محاط بالشموع المضاءة وسط الدار؛ وطوال الليل بكى جميل وليلى أخاهما إلى أن تقرّحت من صبّ الدموع أعينهما. لقد أرادوا أن يسهروا مع باسل ليلة أخيرة طويلة. إنها الأطول. في ما مضى كان باسل ينام باكراً ليغدو فجراً مع أبيه إلى الحقل أو ليعود إلى ثكنته بعد فرصة قصيرة. أما هذه الليلة فإنه سينام ملء أجفانه. لن يوقظه في الصباح صياح الديك الرصاصي في الخمّ القريب ولا خوار الثورين في القبو العتيق. هذه الليلة سينام طويلاً بين أمه تحتضن يده الباردة وتعفّر بها وجهها وعينيها، وأبيه يمسح دموعاً خرساء تنزلق بين تجاعيد وجهه حتى شفتيه المرتعشتين، وأخوين ينتحبان ملتاعين وأناس يأتون صامتين ويذهبون باكين نادبين. هذه الليلة سينام قرير العين. ستشرق الشمس من وراء الجبل وهو نائم. سينتصف النهار وهو نائم، قبل أن يذهب محمولاً على الأكتاف إلى حيث سيرقد في ظلمة باردة.
الليل في الخارج كان ساكناً. كل شيء هادئ وساكن. الظلام حالك يرخي ستائره السوداء على السفوح والتلال، لكنها بقيت أقلّ سواداً من الوشاح الذي يلف روح أمّه الممزقة.
هي تذكر الآن كم سهرت من ليال إلى جانب سريره وهو صغير حتى كبر. وكم ركعت على ركبتيها تقرع صدرها وتصلي من أجله وهو مريض حتى شفي. لقد شفي وكبر وشبّ صلب العود، سليم البنية، فلماذا يسقط مثل زهرة أقحوان قصفت العاصفة ساقها ونثرت أوراقها! إنها الأقحوانة التي تأبى أن تحني رأسها عند هبوب العاصفة.
وطلع القمر من وراء الجبل مصباحاً مضيئاً يرسل أشعته خيوطاً من لجين تنساب بين أشجار الصنوبر وترمي بظلالها إلى السفح أشباحاً مخيفة. آه. سلمى تذكر الآن الليالي الطويلة التي سهرها باسل في ضوء القمر والشموع، يدرس ويكتب. لقد أراد أن يتعلم فتعلّم وتطوّع جندياً في الجيش ليقتله مسلحون جهلة لم يتعلّموا حرفاً ولم يفتحوا كتاباً. أولادهم لا يذهبون إلى المدرسة. فقط يتدربون على استخدام السلاح والسرقة وقطع الطرق والقتل.
في ذلك اليوم منذ أقل من سنتين، عندما حمل باسل حقيبته وخرج من البيت ليذهب مع العسكر ويصبح جندياً في صفوفهم، ودّعته أمه ولم تخرج معه، بل ضمته إلى صدرها وتمنّت له التوفيق من غير أن تدمع لها عين. لكن في المرة الأخيرة التي غادر المنزل فيها ليلتحق بثكنته، كان الخوف يقبض على قلب سلمى بيدٍ من فولاذ، ففي شمال البلاد جبهة القتال حامية الوطيس، ووحدات الجيش تلتحم مع العصابات المسلحة في معركة ضارية. يومذاك عانقته أمه عناقاً طويلاً جهدت خلاله في منع دموعها من تجاوز أجفانها. دعته إلى اليقظة وتوخي الحذر وتلاوة الصلاة كل مساء، وساعدته في رفع حقيبته التي كانت قد أثقلتها بأرغفة خبز الصاج والأطعمة التي يحبها وتكفيه مع عشرة من رفاقه، ثم التقطت يده ولثمتها بشفتين تبتسمان فيما عيناها تكادان تبكيان. وخرجت معه تشيعه بنظرات حزينة. وما إن توارى خلف منعطف الطريق حتى أجهشت بالبكاء، فدخلت وإرتمت على ركبتيها تحت الصورة المعلّقة فوق الباب، ورفعت إليها قلبها وبصرها: «يا مريم. أنت الآن أمّه. هو لك. كوني معه ومع رفاقه الجنود. وليكن كما تشائين. آمين». إنه قلب الأم يستشعر الخطر قبل أوانه، وهي الأم تخاف على أبنائها أكثر مما يحسبون.
ليلة البارحة نام الكلّ إلا سلمى. سلمى وحدها لم يجد النوم إلى عينيها سبيلاً. لقد بقيت طوال الليل مغمضة الأجفان منتبهة الذهن. كيف تغفو وهي لا تعرف عن إبنها شيئاً! أين هو في هذه الأوقات يا ترى؟ أفي خندق القتال أم في الثكنة؟ هل هو نائم في سريره مطمئن البال أم يفترش التراب ويلتحف السماء، البندقية إلى كتفه وإصبعه على الزناد؟ صور مخيفة وأفكار مقلقة كانت تقفز فجأة إلى مخيلتها فتطردها بالصلاة والعياذة بالله. لكن ما كانت تخافه وتصارعه، تغالبه وتطرده فيغلبها ويعاودها، كان يحدث على أرض الواقع فعلاً. نجمة الصبح تتلألأ ناحية الشرق والليل يتثاءب وقد بدأ بلملمة أطراف عباءته السوداء عن أسطح المنازل والساحات. هدوء ثقيل يلف الطبيعة في كل مكان. إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة. هذه العاصفة هبّت فجأة. رعودها دويّ قذائف تساقطت هنا وهناك كأنها نيازك ترشق بها السماء الأرض، غيومها سُحُب دخان وغبار إرتفعت فأعمت الأبصار، وأمطارها وابل رصاص ينهمر زخّات زخّات لينقش على الجدران رموزاً وكلمات لا تعرفها صفحات الدفاتر والكتب.
في تلك الأثناء كان باسل ورفاقه يتّقون القذائف محتمين بالخنادق والمتاريس. وما إن هدأ القصف واستراحت فوهات المدافع حتى أعطى الضابط أمراً لمجموعة من الجند بالتسلّل إلى خطوط المسلحين ومفاجأتهم في مراكزهم. تقدّمت المجموعة تحت جنح الظلام وغطاء نيران البنادق الرشاشة وتمكنت من عناصر المركز المعادي، غير أنها وهي تنكفئ إلى قاعدتها تعرّضت للقصف فأصابت قذيفة مبنى متصدّعاً ما أدى إلى إنهيار جدار من جدرانه وسقوط أحد الجنود جريحاً تحت الركام. لم يستطع الجندي المصاب في كتفه رفع الحطام عن ساقيه فلبث هو عالق إلى أن عادت المجموعة وتفقد آمرها عناصره فعرف أن أحدهم ما زال هناك.
أراد الضابط إنقاذ الجندي الجريح، لكن المهمة صعبة للغاية ومحفوفة بالمخاطر الكبيرة، فلم يعط أمراً بذلك. غير أن باسلاً تطوع لإنقاذ رفيقه وطلب إذناً بذلك.
- لا أريد أن أخسر جنديين من خيرة الجنود يا باسل. قال الضابط.
- إن شاء الله أعود وإياه يا سيدي. أما إن لم أذهب إليه فهو هالك لا محال.
وضع الضابط يده على كتف باسل وانتظر طويلاً قبل أن يهز برأسه من غير كلام علامة الإيذان. ثم أمر الآخرين بتأمين غطاء ناري كثيف له.
إندفع باسل بكل شجاعة باتجاه رفيقه فأدركه ورفع الحطام عن ساقيه وحرّره مما هو عالق به فزحف تحت وابل من الرصاص إلى خندق قريب رمى نفسه فيه فنجا بأعجوبة. أما باسل وفيما كان يهمّ بالتراجع والعودة، أصابته رصاصة في أعلى صدره فخرّ مضرجاً بدمائه.
لم يعد باسل يقوى على الزحف. لقد نزف طويلاً وشحب لونه كثيراً. أسند ظهره إلى جدار الخندق ونزع الخوذة عن رأسه. أغمض عينيه وقبض على حفنة تراب ضمّها إلى صدره: «أيتها الأرض. يا أرض وطني. يا أمي. إفتحي لي ذراعيك. ضمّيني إلى صدرك. خذي دمي... يروي ترابك الطاهر. إقبلي جسدي... حفنة تراب... تُغذّي... جذور... أرزك... الخالد. ها... أنا ذا.... لكِ... يا... أرض... وطني». ولفظ باسل أنفاسه وهو يبتسم وحبّات التراب تتسرّب من بين أصابعه.
في تلك اللحظة انتفضت سلمى في سريرها وانقبض قلبها بين ضلوعها. هي الآن تعرف أن سوءاً ما قد حدث. جلست في سريرها. بكت بصمت. صلّت كي يسلم باسل ورفاقه من كل شرّ. وما لم تكن تعرفه هو أن ولدها سيعود إليها عند الصبّاح جثة هامدة لا حياة فيها.
أشرقت الشمس وارتفعت في قبة السماء وغصّ بيت عادل بالناس وأتى رفاق باسل في السلاح يلقون عليه نظرة الوداع الأخيرة، لكنه لم يفتح عينيه لهم. لم يكلّمهم. لم يمازحهم كما كان يفعل من قبل. باسل الآن هو غير باسل الذي كان. الآن هو ساكن صامت، وهكذا سيبقى إلى الأبد.
ساعات ثلاث مضت بعد منتصف النهار، قبل أن يُحمل باسل على أكتاف الجنود في نعش خشبي موشّح بالعلم ويجتازوا به في موكب مهيب شارع القرية الضيّق المزدان بالأشرطة والرايات البيض. خلف النعش جرّت سلمى نفسها ممسكة بذراع زوجها ومتكئة على كتف إبنها: «لقد رحل باسل يا جميل. قتلوا باسلاً يا ليلى. إنتظرني يا حبيبي. لن يطول الأمر حتى ألحق بك يا ولدي».
موسيقى الموت كانت تعصر الأفئدة وتستقطر الدموع من المآقي. لا. هي ليست موسيقى موت. إنها موسيقى فرح بولادة بطل جديد. بطل جادت به أرض منحدراتها مقالع صوّان، جبالها مواطن أرز ووديانها منابت أحرار وقديسين. دقات الجرس ليست رتيبة حزينة. إنها ألحان ابتهاج وزغاريد عرس. هو ذا العريس يسير بين المحتفلين والناس ينثرون فوق رأسه الأرز والعطر والزهور من كل شرفة تطلّ على الطريق. وهي ذي العروس بحلّة خضراء تعانقه وترافقه. إنها أرزة لبنان. أرزة الرب. ستبقى له وفية حتى إنقضاء الدهر.
بعدما أتمّ الكهنة مراسم الجنازة رفع رفاق الشهيد النعش وخرجوا به مثلما دخلوا مرفوعاً على الراحات فوق الرؤوس وراحوا يُرقصونه في ساحة الكنيسة على وقع الزغاريد وتربيع الجرس وصوت الآذان. ثم ساروا به إلى حيث يستريح الأبطال بين يدي الموت من أثقال الحياة.
هناك وقفت سلمى كسيرة الجناح تلوّح بيدها المتعبة لابنها المسلوخ عن كبدها وتصرخ بصوت مخنوق: فداك يا لبنان. فداك أيها الوطن الحبيب. أرضك العطشى أرادت دمه فلترتوِ. إنه لك. خذه. ها أنذا أعطيك إياه. كن معه يا رب. اجعل روحه سحابة بيضاء تظلل أرزك الغالي. بعد ذاك لم تعد أم باسل تقوى على الصمود فتلاشت واختنقت الكلمات في فيها، أما الناس فكانوا يصفقون ويبكون.
ودارت عقارب الساعة ثقيلة بطيئة، وسحبت شمس الأصيل آخر خيط ذهبي لها عن هامات التلال، وزحف الليل على روابي الضيعة بجيوشه السود، وأضواء مسارجه تلمع في قبة السماء، وأوى الناس إلى بيوتهم وطيور البرية إلى أوكارها. الليل طويل فكيف ينقضي؟ وكيف يطلع الصباح على أم باسل التي تكوّمت في سريرها جسداً منهكاً ما زال فيه ظل حياة يغيب! بزة باسل العسكرية تستريح على المقعد إلى جانبها. مدّت يدها إليها. تلمستها. رفعتها وطوتها على مهل وجعلتها تحت رأسها وسادة تناجيها وتغسلها بدموعها. قبل مغادرته البيت لآخر مرة، خلعها باسل لتغسلها أمه له. لا لن تفعل. ستبقيها كما هي مخضبة بعرقه لتعفّر بها وجهها وتشمّ فيها رائحته كل يوم.