قضايا اقليمية

قصيدة ترعب اسرائــــــيل وتهز كيانها
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

في 4 نيسان 2012 المنصرم نشرت ثلاث صحف أوروبية في موقع بارز من ملاحقها الأدبية قصيدة للأديب الروائي والشاعر والناشط اليساري الألماني المعروف غونتر غراس بعنوان «ما ينبغي أن يقال». وغراس حاصل على جائزة نوبل للآداب العام 1999 لدوره في إثراء الأدب العالمي وخصوصًا في ثلاثيته الشهيرة «ثلاثية دانتسيغ»، بالإضافة إلى جوائز محلية كثيرة.
لقد اعتبر غراس أن أهوال النازية ليست ذريعة للصمت ولذلك فهو ضمّن قصيدته بشكل اساسي انتقادات غير مسبوقة لسياسة إسرائيل على خلفية تهديداتها وتحضيراتها لضرب المنشآت النووية في إيران، الامر الذي اثار عاصفة هوجاء من التأييد في المانيا ومن الإنتقاد في اسرائيل تردّدت أصداؤها في مختلف أنحاء العالم بشكل عام. وقد اعتبر في قصيدته أن سياسة إسرائيل في هذا المجال هي بمنزلة تهديد للسلام العالمي، وأنه لدرء هذا التهديد لا بد من التكلم الآن. وقال «لن أصمت بعد اليوم، لأنني متعب من نفاق الغرب، وما آمله هو أن يتحرر الكثيرون من صمتهم، وأن تتم المطالبة بمراقبة دائمة وغير مقيدة للقدرة النووية الاسرائيلية وللمرافق النووية الايرانية، عبر هيئة دولية لحكومتي البلدين».
وانتقد ايضًا بلده ألمانيا على بيعها اسرائيل غواصات يمكن تجهيزها بأسلحة نووية، وحذر من أن هذه الاخيرة قد تبيد الشعب الإيراني في أي غارة تشنها مقاتلاتها ضد المنشآت النووية هناك، في ظل النزاع بين الدولتين بشأن البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل. وقال غراس في قصيدته إنه يتحدث الآن، عن خطر القدرة النووية الاسرائيلية، وعن السلام العالمي الهش بالفعل، خوفًا من ان يكون الغد متأخرًا جدًا. وبرر ذلك بالقول: «لأننا كألمان عانينا بما فيه الكفاية.. ويمكن أن نتهم بمساعدة المجرم، واسهامنا هذا في الذنب لا يمكن أن يقبل بأي من الأعذار المعتادة».
لم ينفع غونتر غراس تراجعه عن وصف إسرائيل بأنها تهدد سلم العالم، وتوضيحه أنه يقصد حكومتها اليمينية بقيادة بنيامين نتنياهو، كما لم ينفعه قوله إنه كان دائمًا مؤيدًا لإسرائيل، وإنه سبق أن زارها، وسوف يعيد النظر في قصيدته، بل لقد أعلنته الدولة العبرية شخصًا غير مرغوب فيه، بموجب قانون يمنع «النازيين القدماء» من الدخول اليها. واعتبرت القصيدة جزءًا من حملة لنزع الشرعية عنها، الامر الذي  قد يتحول مع الوقت في نظرها إلى تهديد وجودي، وهي اتهمته باللاسامية لكي لا يتجرأ أحد سواه على التعرض لها بأي نقد في ميدان سياسي وثقافي غربي يمكن ان تسقط فيه كل المقدسات ويسمح فيه  بانتقاد أي كان، وتوجيه اللوم لأي جهة، إلا إسرائيل. و«تابو» إسرائيل والوصم بتهمة اللاسامية لا يتوقفان عند مجرد التعريض بالشخص الذي يتجرأ على خرق المحرمات والتحريض عليه، بل يشملان إغلاق مجال الإعلام والنشر في وجهه، ومحاصرته وتنغيص عيشه، الامر الذي جعل احد كبار الساسة الالمان يصف القرار الإسرائيلي بأنه علامة على «اليأس».
مع ذلك فإن غونتر غراس ينظر إليه الآن بوصفه ضمير ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، لأنه لم يخجل من انتقاد ماضيه حين كان صبيًا صغيرًا وانخرط في صفوف الشبيبة النازية بعد نشره مذكراته «تقشير البصل». وهو على الرغم من تراجعه قليلًا عن مضمون قصيدته، ومحاولته التخفيف من وقعها، فإنه يعلم أن حضوره الكبير في ثقافة ألمانيا والعالم يحميه من تهديدات اللوبي الصهيوني وسلطته المتوحشة التي تكم أفواه الكثير من المثقفين والفنانين وقادة السياسة في العالم الغربي.
لقد ضرب الكاتب الألماني الكبير ذو الأربعة والثمانين عامًا في عمله الادبي المتواضع مثالًا في النزاهة والمناقبية الأخلاقية، وهو قد فتح الباب على مصراعيه لكي تتخلص النخب الثقافية الغربية من رؤيتها الأحادية غير السليمة إلى حقوق الانسان والقضية الفلسطينية وما يسمى حق إسرائيل في الوجود، فالقصيدة لم تعد مجرد تعبير أدبي، بل إنها درس أخلاقي يتعلق بمفهوم العدالة الحقيقية الذي يجب أن يطبق على جميع بني البشر.