سياحة في الوطن

قضاء بشري الحائز جائزة السياحة الدولية للمواقع الطبيعية
إعداد: العميد أنطوان نجيم - جان دارك أبي ياغي - ماري الحصري

روعة الطبيعة وعظمة التاريخ وضَوع القداسة

عظيمة هي أعمالك يا رب... عقوقة جاحدة أعمالنا... هذا باختصار ما كان عليه لسان حالنا ونحن نطوف في أرجاء قضاء بشري ببلداته وقراه المنتشرة حول وادي قاديشا.
بين ضوع القداسة وروعة الطبيعة وعظمة التاريخ، كانت سياحتنا في القضاء الذي حاز جائزة السياحة الدولية للمواقع الطبيعية للعام 2009. وهذه الجائزة يؤمل أن تكون حافزاً للحفاظ على مواقع طبيعية تعتبر  
من الأجمل في العالم. لكن جمالها وتاريخها لم يشفعا لها، فهي لم تنجُ من الإهمال والتشويه.

 

خطة النهوض السياحي
سبق جولتنا في القضاء لقاء مع رئيس اتحاد بلديات بشري السابق الأستاذ نوفل الشدراوي الذي تحدّث عن ظروف الجائزة وخطة النهوض السياحي التي ينبغي تنفيذها في المنطقة. قال: شارك اتحاد بلديات  
قضاء بشري بمهرجان السياحة الدولية الذي نظّمته مدينة لوغانو السويسرية بين 15 و19 نيسان 2009، وفاز بجائزة السياحة الدولية للمواقع الطبيعية.
وتسلّم وفد الاتحاد، الذي ضمّني الى رئيس بلدية حدشيت المهندس نبيل الدريبي، وجوليان عرب منسّقة برنامج المهرجان، الأوسكار الخاص خلال حفل رسمي أقامته اللجنة المنظمة في أحد فنادق لوغانو -  
سويسرا.

 

• كيف تلقيتم خبر ترشيحكم لنيل جائزة السياحة الدولية؟
- تلقّى اتحاد بلديات قضاء بشري أواسط الصيف الماضي رسالة من بلدية مدينة لوغانو السويسرية، تضمّنت قراره ترشيح القضاء لنيل جائزة السياحة الدولية  
الفخمة، شارحة كيفية المشاركة فيها.

 

مشاركة دولية
• كيف تمّت التحضيرات، وفي أي إطار حصلت المشاركة؟

- شكّل الاتحاد فريق عمل متخصص لدرس سبل المشاركة وفق المعايير التي وضعتها اللجنة المنظمة، ولجنة التحكيم والتقييم المؤلفة من إعلاميين ورجال أعمال وكتّاب مهتمين بشؤون السياحة الدولية.
وعقدت لهذه الغاية سلسلة اجتماعات شملت مختلف الهيئات المعنية بالسياحة في القضاء. كما حضر ممثلو إتحاد البلديات، ولجنة أصدقاء غابة الأرز، وهيئة الحفاظ على البيئة، ومجموعة الحفاظ على تراث  
وادي قاديشا، وهيئة إنماء السياحة في بشري - الأرز، ولجنة جبران الوطنية، ورابطة قنّوبين للرسالة والتراث، كما شارك المهندس جوني حميد كيروز، والمصوّر وجيه شباط.
وكان وقوف على آراء مختلف الأفراد الناشطين في الحقلين البيئي والسياحي، وفي خلاصة المداولات تحدّدت المشاركة في تصنيف السياحة الطبيعية ذات الإرث الثقافي، وفق الأطر الآتية:
- إنتاج فيلم وثائقي عن المنطقة باللغتين العربية والإنكليزية بإشراف المخرج ميلاد طوق.
2- إنتاج مجموعات من البطاقات والملصقات الحاملة أبرز معالم المنطقة ذات الأبعاد السياحية عرضت خلال المسابقة.
3- إنتاج كتيّب باللغة الإنكليزية (قضاء بشري: خصائص ومناظر)، وزّع على المشاركين في المسابقة، ولجنة التقييم وأصحاب الشركات السياحية الحاضرين.
4- عرض وتوزيع تذكارات الإنتاج التراثي الذي يميّز قضاء بشري من منحوتات خشب الأرز، وبذور الأرز وعطره وأغراسه، وبعض لوحات جبران، وبعض المقتنيات الأثرية من الحجارة والمعادن  
والأخشاب وما سواها.
5- نشر تحقيقات إعلامية مصوّرة عن خصائص القضاء في المطبوعات السويسرية الصادرة للمناسبة.
وقد تبرّعت شركة Echomedia بكلفة إعداد التصاميم الفنية واللوازم المطلوبة لعرض الملصقات وسائر المطبوعات والهدايا التذكارية الخاصة بالمناسبة. فيما تولّت الآنسة جوليان عرب متابعة الملف الإداري  
لهذا المشروع مع فريق مدينة لوغانو السويسرية المنظّمة. كما أُعدّت صفحة إلكترونية لقضاء بشري.

 

الجائزة تسلّط الضوء على القضاء
• كيف انعكست هذه الجائزة على واقع القضاء كموقع سياحي؟

- مشاركتنا في مسابقة لوغانو الدولية كانت فرصة للتلاقي مع باقي الهيئات المشاركة التي قاربت المئة مؤسسة من مختلف بلدان العالم، والتباحث معهم في إمكان توظيفهم واستثمارهم في قضاء بشري، بالإضافة  
الى الإستفادة من خبراتهم وتجاربهم. كما ركّز البحث على سبل التعاون مع الشركات السياحية لجهة تنظيم رحلات لسوّاحها الى المنطقة. ومجرّد المشاركة في هذه التظاهرة السياحية الدولية كانت فرصة إعلامية  
كبيرة سلّطت أضواء عالمية على قضائنا، والعمل يقتضي متابعة طويلة وحثيثة لاستقطاب اهتمام الحاضرين من الأفراد والشركات تعزيزاً للحركة السياحية في القضاء.

 

• ما هي خطة الإتحاد المستقبلية لإنماء السياحة في القضاء؟
- بعد الفوز بالجائزة، رأى الإتحاد ضرورة وضع خطة متابعة مستقبلية تواكب هذا الحدث، انطلاقاً من حاجات القضاء الأساسية. فالنهوض بحركة سياحية واسعة، يستلزم تأهيل مرافق الخدمات، وإعداد  
مجموعات بشرية مؤهلة لمواكبة أي نشاط سياحي مرتقب.
لقد حقّق إتحاد بلديات قضاء بشري إنجازاً عمرانياً كبيراً تمثّل بإصدار مخطط توجيهي جديد للقضاء يحرر الحركة العمرانية من القيود المتشدّدة التي وضعها المخطط السابق. ولقد باتت نسب الإستثمار مؤاتية  
للبناء والإعمار وإطلاق المبادرات الإنمائية اللازمة لمواكبة نهضة سياحية مرتقبة.
أما أبرز ما ينبغي التركيز عليه فيتمثّل بالآتي:
- تأهيل مغارة قاديشا ومواقع الوادي المقدّس تسهيلاً لحركة السواح فيه.
- تنفيذ محطات الإستراحة التي اقترحها الخبراء اليابانيون في إطار دراسة أجروها حول تطوير السياحة الدينية والبيئية في الوادي (الدراسة أودعت وزارة السياحة).
- إقامة دورات لتدريب أدلاء سياحيين، وتأمين عناصر شرطة سياحية لقضاء بشري.
الشدراوي الذي اعتبر أن خطة المتابعة تقتضي مشاركة الجميع، ناشد الوزارات المختصة وخصوصاً وزارة السياحة الإسراع في تنفيذ المشاريع التي ذكرها، لتنمية قضاء بشري وإنهاض قطاعه السياحي.
وإذ نوّه بالإتحاد المؤلف من 11 بلدية، طالب بقانون يحمي المواقع السياحية في المنطقة.

 

طورزا: طريق الإمبراطورية
واندفعنا نحو شمال لبنان يحملنا شوق وتحدونا رغبة عارمة الى التمتّع في بقعة تختصر التاريخ وروعة الطبيعة والإيمان.
عن الطريق السريع المزامل البحر، جاره القريب، خرجنا عند مطلّ شكا تدلّنا إشارات المرور الى بدء السعي صعوداً. دخلنا قضاء الكورة وودّعناه يرافقنا اخضرار زيتونه المعطاء، لتستقبلنا عند مفترق بلدة  
طورزا المطلّة على مدى جمالي لا متناهٍ: وادي قاديشا، وادي القديسين.
ترتفع طورزا عن سطح البحر 700 متر، وأصل إسمها آرامي يعني إما جبل الأرز لكونها جبل الأرز، أو جبل الزيتون لوفرة الزيتون في بساتينها، أو الجبل الجميل لمناظرها  
الخلابة.
وقد سكنها الفينيقيون الذين تدلّ عليهم آثارهم الباقية مثل مغارة السبع وهي مدافن لملوك هؤلاء منحوتة في الصخر ويعود تاريخها الى الألف الثالث ق.م. وثمة  
بلاطة من العهد الروماني تشير الى أن طريق الإمبراطورية مرّ فيها. ومن العهد الصليبي مغارة الدلماس التي حوّلها الصليبيون قلعة... ولكن معظم أهالي البلدة اليوم في المهجر.

 

عبدين: كروم سخية
من طورزا الى عبدين (من 700 الى 1000م عن سطح البحر وتبعد 100 كلم عن بيروت)، السابحة بين كرومها السخيّة، وقد صَدَقَتنا الحديث عن معنى إسمها: خولة وخدّام وفلاحين لما رأينا فلاحاً يغدو باكراً  
الى كرمه وقد حمل على كتفه معوله مكللاًّ بزاده، وفي الكروم والبساتين فعلة كثيرون يسقون الأرض عرق جبينهم. لقد استطاع هؤلاء الكرام الحفاظ على إنتاج زراعي تراثي الطابع. وكم كان ملفتاً صبيحة ذلك  
اليوم أن نرى في مساحات واسعة من الأحراج والغابات من يمارس رياضة المشي.

 

برحليون: قرية الشعراء
أطلّت علينا برحليون، قرية الشعراء (104 كلم عن بيروت، و1200 م عن سطح البحر) الغنية بآثارها ونواويسها الفينيقية وسنديانها المعمّر وكنائسها العديدة وخصوصاً سيدة ديرونا العجائبية.
إسمها يعني بالسريانية الإبن الحلو الجميل المستحب أو، حسب تفسير آخر، المرض والضعف والسقم، وهي كانت مقراً صيفياً للبطريرك الماروني توما البنهراني.

 

بلاّ: الجميلة الوادعة
من برحليون الى بلاّ أو بلاّ المغر (105 كلم عن بيروت، 1150 م عن سطح البحر)، وهي قرية وادعة هادئة تصدق فيها جميع معاني إسمها: فهي الجميلة (Bella) والحزينة بالسريانية (Bet Bella)، ودار  
الندوة والمشورة (Bouli) باليونانية، والأميرة الشريفة (Bouli) بالسريانية ايضاً، والفل وزهره (Pella). أما تاريخها الحديث فيرقى الى عهد الصليبيين الذي ترك فيها آثار أبراج قديمة. وتضم بلاّ اليها قرية  
المغر لتعرف ببلّا المغر.

 

قنات: القرية النموذجية
جذبتنا قنات (107 كلم عن بيروت، 1100م عن سطح البحر) الراتعة بين سلسلة منتظمة من الجبال والأودية تتماوج على سطحها الألوان الطبيعية الجذابة بين بنفسجي ووردي وأخضر، وتفتح  
المدى واسعاً أمام ناظرينا، فنسرح منقّلين طرفنا بين مناظر خلابة وقرى متناثرة حتى ينتهي الى الساحل البحري.
قنات بسطوحها القرميدية، وبيوتها القديمة التي بنيت أواخر القرن التاسع عشر (1896) وتزيّنها القناطر والنقوش من الجفصين والزجاج المزخرف، هي قرية النبع المتفجّر  
والمغارة المنسية والكنائس والمزارات، والشجرة المتحجّرة التي اكتشفت العام 2001 ويعود تاريخها الى ما بين 125 و140 مليون سنة.
يعود تأسيس قنات الى أكثر من ألف سنة، ويحمل إسمها أكثر من معنى فهو يفيد الاقتناء والملك، والمقبض والمكان المهم، وعليه يكون إسمها قرية الملك المهم القادر. ويرجّح الأب بطرس ضو أن يكون إسمها  
هو نفسه إسم الإلهة البطلة «أناة» الفينيقية إبنة الإله الأكبر «ايل». وقد اختارتها العام 1960 البعثة الأوروبية «إيرفد» لتكون القرية اللبنانية النموذجية. وفي قنات كذلك آثار بناء قديم العهد هو قصر الملكة،  
ومغارة مار شليطا المماثلة لمغارتي قاديشا وجعيتا لجهة مكونات التحجّرات المائية داخلها، وفيها محمية أرز قنات التي تضم آلاف أشجار الأرز واللزاب والسنديان المعمّرة، وكنيسة مار شينا العائدة الى القرن  
الرابع. تطل على جبل نيحا، ومزرعتي بني صعب وبني عسّاف. الأولى هي امتداد طبيعي لوادي مار شليطا، فيها 4 طواحين قديمة ومغارة الملح ومغارة الشنيف. أما بني عسّاف فتعود تسميتها الى أمراء آل  
عسّاف الذين ملكوا أراضيها في عهد الأمير فخر الدين. وفيها مجموعة من الأديرة القديمة المهجورة القائمة في باطن الجبل الصخري المتصل بحردين، وهي آخر قرية اتصال قضاء بشري بحدود قضاءي  
البترون والكورة.

 

مفاجأة بيت منذر
فاجأتنا بيت منذر (100 كلم عن بيروت، 1250 م عن سطح البحر) لتعيدنا الى مغاورها ومواقعها الطبيعية المميّزة، وتذكرنا بأن الطريق السياحية المعروفة بطريق عين السنديانة والتي تعبرها هي الطريق  
الأولى التي شقّها الفرنسيون لمنطقة بشري العام 1926.

 

قْنَيوِر على عرشها
على عرشها، كتف الوادي، تتربع قْنَيوِر (110 كلم عن بيروت و1300م عن سطح البحر)، إسمها قد يعني الملك، والرزق أو القصب. النار واللهب أو القش، في أي حال هي تتباهى بطبيعتها الجميلة، وتشكر  
الله على نعمته. لم لا وهي تتصل بالوادي المقدس وتمتد باتجاهه قرب مغارة عاصي الحدث وقطين الرواديف، وبينهما آثار قرية بائدة يرجح هدمها خلال غزوة المماليك لمنطقة بشري العام 1283.

 

حدث الجبة: روضة معلّقة
نصل الى روضة معلّقة بين الأرض والسماء، الى حدث الجبة (115 كلم عن بيروت، و1450 م عن سطح البحر) حيث حضنت أعيننا البحر والجبل في آن: نمدُّ يداً فنلاعب موج البحر ونبسط أخرى ليرتاح  
الأرز الخالد على زندها. إسمها من جذر «جبه» ويفيد العلو والارتفاع، وفي السريانية هو جديدة الآبار. تطل الحدث على الوادي المقدّس الذي يلفّها بعبق بخوره السماوي، وبرداء جمال طبيعته البكر. ونمر فيها  
نقرأ التاريخ على صفحات حجارتها، وكفوف أرزها الدهري المبسوطة، كنيستها الرعائية (مار دانيال) المبنية بين العامين 1110 و1113، تعود هندستها الى الفن السرياني السوري المتميّز بناؤه بالأسواق  
الثلاثة. ونقف برهبة أمام مغارة العاصي المقترن تاريخها بتاريخ البلدة والوادي المقدّس. فهي المغارة التي لجأ اليها أهالي حدث الجبة في أثناء اضطهادهم حين غزا المماليك المنطقة العام 1283، عثر فيها على  
سبعة أجساد بشرية، ونقل منها 293 قطعة أثرية الى المتحف الوطني. وتمر بالقرب منها طريق المشاة الى وادي قنوبين، ومنها الى حديقة البطاركة في الديمان وسائر المواقع المحيطة.

 

بريسات: المندفعة نحو الوادي
نكمل الى بريسات (116 كلم عن بيروت، و1400م عن سطح البحر) القرية ذات الطراز المعماري اللبناني المميّز، وتحسُّ وأنت تنظر اليها وكأنك في بحر تتلاطم لججه الخضراء وتتكسّر على كتل جلمودية  
نقش التاريخ عليها أروع حكاياته. وهي «الأراضي المنبسطة الممتدة»، حسب معنى إسمها، تنزع الى التماهي مع الوادي المقدّس فتهرول أراضيها نحوه نزولاً من كنيسة مار يوسف حيث تنتشر مجموعة كبيرة  
من الآبار منحوتة في الصخور يغذّيها شلال «المعاصر» الذي يحاذي مغاور وادي الطواحين، وبرج بيت رعد وهو الثاني الذي شيّده المماليك لتشديد حصارهم مغارة عاصي الحدث العام 1283.

 

الديمان: المقر الصيفي للبطريركية
نصل الى الديمان البلدة الرائعة الجمال التي انتقل اليها من وادي القديسين البطاركة الموارنة العام 1823 على عهد البطريرك يوحنا الحلو ليجعلوا منها مقراً صيفياً لهم. وما يزال ماثلاً للعيان الكرسي  
البطريركي القديم الذي بناه البطريرك يوحنا الحاج العام 1890، فيما يشمخ الحالي وقد بناه البطريرك الياس الحويك العام 1900. أما كنيسة الديمان المبنية على الطراز اللبناني العريق فتزيّنها جداريات للفنان  
اللبناني العالمي صليبا الدويهي هي أجمل ما يمكن أن تراه العين. وقرب المقر البطريركي الصيفي حديقة رائعة تعرف بحديقة البطاركة الموارنة التي تشرف على وادي قنوبين وتضم ستاً وسبعين أرزة لستة  
وسبعين بطريركاً.
وأخيراً في الديمان التي معنى إسمها الشبه والمثال، آثار مدينة كفرصارون التي هدمها المماليك العام 1283، ومغارة الجماجم. وثمة نبع في جرودها هو نبع الفراعة كُرِّس على إسم البطريرك صفير.

 

حصرون: وردة الجبل
نغادر الديمان وما ارتوى ناظرنا لتطالعنا حصرون، وردة الجبل، التي تختبئ بيوتها الحجر تحت قبعات حمر تقيها حر الصيف وقرّ الشتاء. هي الخنصر في اليد التي تغمر  
وادي قنوبين.
حصرون (120 كلم عن بيروت، و1450 م عن سطح البحر)، من البلدات اللبنانية النموذجية التي تروي حجارتها العتيقة أجمل حكايات الزمان وتاريخ علاقة دهرية مع أخضر الطبيعة.
بنيت كنيستها في القرن الثامن على أنقاض هيكل وثني وفي واديها محابس وأديار حمل بعض جدرانها كتابات حبشية. أنجبت حصرون عدداً من رجالات الفكر والكنيسة أبرزهم العلامة يوسف سمعان السمعاني  
والبطريركان يعقوب وإسطفان عواد.

 

بزعون: تفاصيل الزمان والمكان
في بزعون (122 كلم عن بيروت، و1400م عن سطح البحر)، المطلة على الوادي المقدّس والمتصلة به عبر مواقع طبيعية تضم عدداً كبيراً من المغاور والكهوف  
والمحابس، استقبلتنا كنيسة السيدة الأثرية ومنتجع نبع مبخا في جرودها حيث ارتحنا، وما ارتاحت حواسنا التي أبت إلا أن تغني ذاكرتنا بتفاصيل الزمان والمكان. إسم بزعون سرياني يعني ثقب صغير وشق،  
والكلمة تصغير «بزغا» من جذر آرامي، وتعني شق ونفذ.

 

بقرقاشا: قرقعة في التاريخ
بقرقاشا (123 كلم عن بيروت، 1450 م عن سطح البحر)، قافان تتلاحقان لتثبتا أّنها أحدثت قرقعة في التاريخ اللبناني والماروني.
إسمها سرياني يعني مكان الضجيج والصخب وصوت الارتجاف والرعدة، وقد يكون معناه البرد والصقيع.
هي من البلدات الجميلة المحيطة بالوادي وفيها محبستا مار جرجس (1112) حيث نُسخ أول مخطوط ماروني (ريش قريان أي رأس القراءات العام 1242)،  
ومار سمعان العمودي الذي كان أول من حمل الرسالة المارونية الى هذه المنطقة وفيها قامت مدرسة اضطلعت بدور ثقافي بارز.

 

بقاع كفرا وقديسها
تدعونا بقاع كفرا (125 كلم عن بيروت، و1800 م عن سطح البحر)، أعلى قرية مأهولة في الشرق الأوسط. إسمها سرياني يعني القرية أو السهل المنبسط الذي تقوم عليه القرية، ولفظة كفرا آرامية وتعني  
القرية. هي ضيعة القديس شربل مخلوف الذي تحوّل منزله الوالدي محجّاً للمؤمنين. واحتفظت، الى جانب أبنية الباطون الحديثة، بالكثير من المنازل القديمة المتواضعة المبنية من حجارة غشيمة غير مصقولة  
ترتسم فوق عتباتها طيبة أهلها وصلابة الدهر وتتغلّف بهالة من نور الإيمان. ما تزال طرقاتها الداخلية صخرية للمشاة وحسب، وقد صنفتها مؤسسة ذاكرة البيوت الأوروبية العام 1994 بلدة نموذجية من بلدان  
حوض البحر الأبيض المتوسط. وتتصل جرودها بموقع الأرز عبر طرق لهواة المشي.

 

بشري: موطن جبران والأرز
يممنا شطر موطن جبران والأرز، بشري (130 كلم عن بيروت و1500م عن سطح البحر)، أكبر بلدات المنطقة، وعلى وقع هدير شلالها قصدنا أولاً دير مار سركيس الذي تحوّل متحفاً للفيلسوف جبران خليل  
جبران ومدفناً لرفاته، وهو غارق في غابة السنديان الرائعة التي تنتصب فيها التماثيل المنحوتة بإزميل الدهر.
معنى إسمها مكان النزول والإقامة والإستيطان وبيت المبتدئ، والمكان ذو الرطوبة والماء، والمكان الراسخ الثابت ويفيد القوة والمنعة والثبوت.
تعدّدت الآراء حول تاريخ نشوئها، فثمة قائل إنه يرقى الى العهد الظرّاني كما انطلياس وكان إسمها «بيتشوروي» وتأويله المسكن الأول، وآخر إنه يعود الى العهد الفينيقي وإسمها منحوت من  
لفظتين «بيت الشري» رُكّبا تركيباً إضافياً ومعناهما بيت عشتروت.  
بشري هي موطن البطريرك أنطون عريضة، وفيها غابة أرز الرب بمنتجعاتها السياحية، ومغارة قاديشا وهي مغارة جوفية من عجائب الطبيعة، أو دير مار اليشاع القديم حيث تأسست الرهبانية المارونية العام  
1695 وحيث ترجمت الكتب الطقسية المارونية من السريانية الى العربية.
أقام ودفن فيه الناسك الفرنسي فرنسوا دي شستويل (1644). وفيها ايضاً سيدة الدر حيث رسوم جدرانية تعود الى القرون 12 و13 و14.
غابة الأرز بردائها الأخضر المضمّخ برائحة البخور تسحر زوارها بحكايات الصمود والبقاء. وفيها أروع مظاهر الترف وأجمل ملامح العصر من فنادق وشاليهات ومطاعم، ومراكز للتزلج بمواصفات عالمية.
وقد ابتدعت لجنة أصدقاء غابة الأرز فكرة تسمح لأي مواطن في العالم أن يكون عرّاباً لشجرة أرز تُزرع باسمه مقابل 100 دولار أميركي يدفعها لتغطية نفقات زراعة شجرتين تحسّباً لاحتمال يباس واحدة. وقد  
تمّ حتى الآن زرع 2800 شجرة أرز في محيط الغابة الدهرية. وفي مرحلة ثانية (2012) سيتاح لعرّاب الأرزة مواكبة نموّها من خلال صفحة خاصة على شبكة الإنترنت. وثمة مشتل ينتج سنوياً نحو 20 ألف  
شتلة أرز وأنواعاً أخرى من الأشجار تزرع في محيط الغابة، وينتظر قسم منها «عرابين».
أرزات الأرز هي أقدم أشجار الأرز في لبنان، ومنها 375 شجرة يصل عمرها الى بضع مئات من السنين من بينها 4 أرزات يصل ارتفاعها الى 35م وقطرها 14م.
وهناك ألوف من الأشجار الأصغر سناً، وقد غُرست منذ عقود أو سنوات بهدف تأمين استمرارية هذا الإرث الوطني. سور الحماية حول الغابة أمرت بإقامته ملكة بريطانيا العظمى العام 1876  
لحمايته من أعداء الغابة التقليديين لا سيما قطعان الماشية.
وتقوم في وسط الغابة كنيسة صغيرة بنيت العام 1843.

 

حدشيت: القمر الجديد
تركنا بشري وانتقلنا الى قرية حدشيت (131 كلم عن بيروت، و1400م عن سطح البحر).
أصل إسمها فينيقي «حدش» وتعني القمر الجديد أو الهلال فيكون معنى إسمها القرية الجديدة، وثمة رواية ثانية تعيد أصل الإسم الى السريانية بمعنى قمة شيت أو تاج شيت، وشيت هو إبن آدم الثالث. جعلها  
الرومان مركزاً عسكرياً ودينياً تدل على ذلك الآثار الرومانية المنتشرة فيها، ويحصّنها سور من الجهة الشمالية، بينما الشير العاصي هو الحصن الطبيعي للجهات الثلاث الأخرى. واستخدمها هؤلاء لحماية وادي  
قاديشا في طريقهم من طرابلس، أميون، بزيزا، عين عكرين، حدشيت حتى أرز الرب وذلك لموقعها الطبيعي الذي لا يؤخذ.
أسس أهل حدشيت في هجرتهم الداخلية العديد من القرى في البقاع (القدام ونيحا ووادي الرطل). ومنها خرج البطريرك الماروني دانيال الحدشيتي العام 1278.
طفنا في أرجاء حدشيت التي أدهشتنا بثرائها الجمالي والتاريخي وبكثرة الأديار فيها: فمن دير مار جرجس الذي سكنه الرهبان السريان بعد إخراجهم من دير مار يعقوب الأحباش إهدن العام 1488، الى دير  
الصليب الغني بالرسوم ليقال فيه إنه «شابيل سكستين» وادي قاديشا، الى دير ما يوحنا المؤلف من مغارتين، ودير مار بهنام أحد قديسي السريان، ودير القديسة شمونة من القرن 13.

 

بلوزا: أرض اللوز
ما انتهت دهشتنا في بلوزا (132 كلم عن بيروت، و1400م عن سطح البحر) التي بدأ أبناؤها بتملك الأراضي ترجمة لمبادرة البطريرك صفير العام 1986 بعدما كانت القرية بكاملها ملكاً للبطريركية المارونية  
منذ ما يقارب المئتي سنة. معنى إسمها بالسريانية مكان اللوز.
تتصل بالوادي عبر طريق مشاة تصل الى كنيسة مارينا حيث مدافن 17 بطريركاً مارونياً وتقع على بعد 250 متراً غرب دير سيدة قنوبين. منها خرج البطريرك جبرائيل البلوزاني مؤسس الرهبانية الأنطونية.

 

بان: المحطة ما قبل الأخيرة
محطتنا ما قبل الأخيرة كانت في بان (127 كلم عن بيروت، 1225 م عن سطح البحر) ومعنى إسمها إما الحمام في السريانية، أو مكان الاغتسال في اللاتينية، أو مكان الحزن والغم والاكتئاب في الفينيقية. من  
أبرز معالمها كنيسة مار جرجس، والبرج في المنطقة الجنوبية المتصلة بالوادي المقدس.
ويُروى أن المماليك عبروها الى عاصي حوقا التجويف الصخري المرتفع 213م وفي سقفه أقدم كتابة عربية مسيحية، وفي أسفله برج مار توما.

 

وادي قاديشا: عالم فريد
هكذا تتوالى قرى قضاء بشري وبلداته من جهة الكورة صعوداً في دورة متكاملة تعرف باسم دورة قاديشا كونها منتشرة على محيط الوادي المقدس. فإلى الوادي المقدس في ختام رحلتنا.
وادي قاديشا من أعمق وديان لبنان وزيارته تعني التجوال في عالم فريد وقائم بذاته. ففي أعماقه الموحشة المخضوضرة يسيل نهر قاديشا الذي ينبع من مغارة عند أقدام أرز الرب. ويبدأ عند بلدة بشري، وتتصل  
به عدة وديان، فتغذي مياهه وتتجمع فيه لتسيل باتجاه البحر. وعند عبور نهر قاديشا في مدينة طرابلس يتخذ إسم نهر أبي علي تيمّناً باسم فخر الملك أبي علي بن عمار، آخر قضاة أسرة حكمت طرابلس في  
العصر الفاطمي.
أما كلمة قاديشا فمشتقة من جذر سامي يعني «القداسة» بحيث بات وادي قاديشا يعني الوادي المقدّس. ومن المحتمل أن يكون هذا الإسم قد أطلق عليه في العصر الروماني حيث كان في الأصل صفة أحد البعول  
التي كانت تكرّم في المنطقة وهو «البعل القدّوس» الذي كان له معبد عظيم في طرابلس عصرذاك وكان يعرف بإسم زوس هاجيوس أي «زوس القدّوس».
وعلى مرّ العصور، منذ أزمنة ما قبل التاريخ حتى العصر الروماني سكن الإنسان في مغاور الوادي وملاجئه الصخرية. ومع بدايات دخول المسيحية الى الجبل تحوّلت هذه الكهوف الى كنائس وصوامع وأديار  
تعاقبت على سكناها وارتيادها أجيال من الرهبان والنساك والمتوحّدين. وبالإضافة الى هؤلاء، كان يقيم في الوادي ايضاً بعض المنقطعين من المسلمين على حدّ رواية الرحّالة إبن جبير الذي تجوّل في المنطقة  
خلال القرن الثاني عشر، وشهد بأن مسيحيي جبل لبنان كانوا يقدّمون الطعام والمؤن الى المسلمين الذين اختاروا الانقطاع عن الدنيا.
عند بلدة طورزا ينفصل الوادي الى شعبتين تقود أولاهما الى بلدة إهدن وتعرف بإسم وادي قزحيا، فيما تقود الثانية الى الأرز وتعرف بإسم وادي قنوبين نسبة الى إسم ديرين عظيمين فيها.

 

وادي قنوبين: روعة المكان والمناظر
هبطنا الى الوادي، وادي قنوبين (133 كلم عن بيروت و900م عن سطح البحر)، وقنوبين لفظة يونانية تعني الدير، أو الجماعة. الله ما أروع تلك المناظر. جبل شاهق من هنا، وآخر من هناك، وقطعة سماء  
صغيرة تنصت فتفرح. بيوت قليلة متفرّقة تغمرها البساطة والتقوى وهي تستريح في أحضان الجمال والقداسة، ولم تنفصل حياة ساكنيها قط عن حياة الرهبان المنقطعين عن ضجيج العالم في هذا الركن السماوي  
يمارسون فيه إيمانهم.
الطبيعة في الوادي، كما الإيمان، لا تنام بعد أن كثرت أوتارها، وبات كل شيء فيها يعزف، لا الخرير ملّ ولا الطيور أصابها الوسن، ولا أوراق الشجر المتعانقة أبد الدهر ملّت الحفيف. سرنا في الدروب  
المتعرّجة الوعرة المتسلّلة وسط حديقة طبيعية تنمو فيها عشرات الأصناف من الأشجار المثمرة والبرية ومئات الأنواع من النباتات التي لا نجد البعض منها في أي مكان آخر من العالم. سرنا وقد استنفدنا  
حواسنا الخمس ننهل من معتقات التاريخ وروائع الطبيعة زاداً.
المكان يعج بمحابس النسّاك وهي مغاور محفورة في قلب الصخر النابض بحكايات الأقدمين، والتي يصعب في كثير الأحيان الوصول اليها حتى تبدو وكأنها معلّقة بين الأرض والسماء. ونصل الى دير قنوبين  
عبر درب محفورة بالمعول على شكل لا تملك  أمامه إلا الدهشة. دير سيدة قندوبين محفور في الصخر وقد لجأ اليه من ميفوق البطاركة الموارنة العام 1440 بسبب اضطهاد حاكم طرابلس.
ومنذ ذاك العام وحتى منتصف القرن الثامن عشر نجد أن البطاركة الموارنة استقروا في وادي قنوبين، الدير الذي يقال إن تيودوس الكبير بناه على أقدام الأرز العام 75 ميلادي. ومنذ ذلك الحين كانت رسائل  
الباباوات توجّه الى المقر البطريركي في وادي قنوبين وكنيسته، بالإضافة الى ذلك، فقد كان وادي قنوبين المركز الكاثوليكي الوحيد في الشرق قبل القرن الثامن عشر وكان هدف الحجاج القادمين من الغرب.

 

دير مار قزحيا: إنطلاقة الطباعة في لبنان
من دير قنوبين الى دير مار أنطونيوس قزحيا - وقزحيا كلمة سريانية تعني الكنز الحيّ - مقر أول صحافة مكتوبة في لبنان في القرن السادس عشر. شيّدت كنيسة الدير على الصخر وسط غابة الصنوبر  
تحوطها أشجار الأرز والسنديان. ويضم هذا الدير أول مطبعة في الشرق العربي وقد استقدمت اليه العام 1610.
بعد استراحة في ذاك النعيم عدنا أدراجنا مسلوخين عن عالم وزمان كم تمنينا لو تأبدت إقامتنا بينهما. انطلقنا وعيوننا لا تفارق الوادي المقدّس حتى غاب وراء المسافات. حقاً ما قاله جبران «لو لم يكن لبنان  
وطني لاخترت لبنان وطناً لي». وحقاً أن المجد قد أعطي للبنان يوم ولدت الأرض.


• قال الشاعر أدونيس في مروره في قضاء بشري:
كنت أرى الجمال يمسح بشفتيه الغبار الذي تكدّسه الأيام على جسد المادة، وأرى كيف يمكن أن تغسل يد المكان وجه التاريخ.
قنات، قنيور، برحليون، حدث الجبة، تخلق فيك عيناً أخرى تشعر وكأنك تلمسها للمرة الأولى، عيناً تتيح لك السير على طريق الخروج من عالم ينهض على أعمدة من الخناجر والسكاكين.

 

• زار الشاعر الفرنسي لامارتين وادي قنوبين، ومما سجّله:
«لم يترك أي مشهد في نفسي انطباعاً مماثلاً، هذا المكان يجمع جمال الخطوط وعظمة القمم ودقة التفاصيل وتنوّع الألوان».