قضايا إقليمية

قضية فلسطين بين مطرقة نتنياهو وسندان ترامب
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

لقد كان حلّ الدولتين مثاليًا بالنسبة إلى الفلسطينيين ودول «الاعتدال» العربي، من حيث أنه كان يضمن لهم دولة في حدها الادنى، وقدرًا من الفوائد النسبية، الأمر الذي تجلى في المبادرة التي أنتجتها القمة العربية في بيروت (2002)، لكنّ هذا الحل يبدو اليوم بعيدًا جدًا.

 

ما كان وما صار
في عهد بيل كلينتون، كانت إقامة دولة فلسطينية «مستقلّة وذات سيادة وقابلة للحياة» (بحسب التعبير الشهير للإدارة الأميركية آنذاك) تعتبر حقًّا مكتسبًا، مفروغًا منه، وبمثابة النتيجة المحسومة لـ«عملية السّلام». وكان التفاوض والخلاف يقتصران فقط على مسائل الحدود والإجراءات الأمنية ووضع القدس، والتزامات العدو الإسرائيلي تجاه اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّرتهم من ديارهم.
في عهد جورج بوش، استمرّ تبنّي خطاب «الدولة الفلسطينية»، ولكن بشروط، منها: أن يتخلى الفلسطينيون عن «العنف» و«الإرهاب»!! وأن يعترفوا بإسرائيل، وألّا ينتخبوا «حماس»، إلخ…وقد تكرّست قاعدة مفادها أنّ الدّولة الفلسطينية، ولو قامت، فهي لن تكون ذات سيادة كاملة ووطنية، بل ستكون في حالة «انتداب» دوليّة دائمة. حتى أن نتنياهو قال في هذا الخصوص: «لو كانوا يعلمون ماذا أقصد بالدولة الفلسطينية، لما عارض أحد من معسكر اليمين». وعلى وقع قمة واشنطن الأخيرة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، بادر رئيس «البيت اليهودي» اليميني المتطرف، نفتالي بينت إلى الإعلان أنه «تمّ اليوم إنزال علم فلسطين... واستبداله بعلم إسرائيل»، مضيفًا أن الفلسطينيين يملكون دولتين في غزة والأردن... «ولا حاجة إلى دولة ثالثة».
معظم الناس في المنطقة والعالم، وفي مقدمهم كبار رجال السياسة، يعلمون هذه الحقيقة لكنهم يتهربون من مواجهة تبعاتها. وهم يعلمون أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة قد ارتفع ارتفاعًا هائلاً، وأنه لا يوجد حزب واحد في إسرائيل بوسعه إخلاءها أبدًا، وجميعهم أيقنوا بعد فوات الأوان بأنه لا يمكن قيام دولة فلسطينية من دون إخلاء تلك المستوطنات. والمستوطنون من جهتهم لم ينووا في يوم من الأيام قط تنفيذ حلّ الدولتين، في حين كانت الحكومات الإسرائيلية جمعاء تستكمل مشاريعها التوسعية رغم أنف الجميع.
في الواقع لم يقم مؤيدو طرح حلّ الدولتين، في تل أبيب ولا واشنطن ولا الدول العربية، بأي عمل جدي للوقوف في وجه التمدد الاستيطاني السرطاني، عندما كان ذلك ممكنًا، وبالتالي كانت النتيجة المأساوية: الاستسلام لواقع نهاية حلّ الدولتين بالشكل المخزي الذي بلغته المسيرة السياسية.

ما البديل؟
من ناحية أخرى، من المستغرب أنه في أوروبا والولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية وإسرائيل، لا يزال هناك من يعكف على تكرار مصطلح «حل الدولتين» لكن في أجواء من الذهول والعجز والخوف من الآتي. والحلّ البديل، أي حل الدولة الديموقراطية الواحدة لكل مواطنيها، بحسب زعم بعض الإسرائيليين، سيتطلب من القيادات الصهيونية الراهنة إعادة التفكير من جديد في كل شيء. ومن هنا جاءت التشريعات العنصرية المتسرعة وغير الديموقراطية في الكنيست الاسرائيلي، لتشهد على أن حكومة نتنياهو في الواقع متجهة نحو إقامة الأسس الإيدلوجية والقانونية لتنفيذ خيارها المفضل، المتمثل بإقامة دولة تمييز عنصري واسعة النطاق. وهذا يتجلى في الشرطين المسبقين اللذين فرضهما قبل الوصول إلى أي تسوية: «الأول، يجب على الفلسطينيين الاعتراف باسرائيل كدولة يهودية، والثاني، يجب أن تحتفظ إسرائيل بالسيطرة الأمنية على المنطقة الكاملة الواقعة غربي نهر الأردن».
وأمام هذه الوقائع تعيش السلطة الفلسطينية حالة أزمة سياسية وتنظيمية قاسية، وربما قاتلة، وقد تقلّص مجال المناورة السياسية أمامها إلى حد بعيد. وهي تدرس طرق عمل مختلفة كردّ ممكن على الإجراءات الأميركية الإسرائيلية التعسفية، مثل التوجه قريبًا إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي في ظل إعلان حكومة إسرائيل عن استمرار البناء خلف الخط الأخضر، والتوجه إلى مجلس الأمن الدولي للمطالبة بتطبيق القرار 2334 الذي يشجب الاستيطان، لكنها تخاف من الاصطدام بالفيتو الذي ستفرضه إدارة ترامب حتمًا. وبالتالي، من الخيارات الدراماتيكية المطروحة أمام هذا العبث، إلغاء اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، وإلغاء اتفاق أوسلو، والتوجه إلى الأمم المتحدة بطلب قبول فلسطين كدولة عضو فيها.

 

تحوّل جذري
لم ينته الرئيس ترامب من صياغة سياساته بعد، في ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، لكنّ مواقفه خلال حملته الانتخابية، التي لم يتراجع عنها منذ دخوله البيت الأبيض، وجزء من الإجراءات الأولية التي اتخذها، تحرج السلطة الفلسطينية وتقلقها. وفي تحوّل جذري للرؤية الأميركية لعملية التسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل، تخلى ترامب عن «حل الدولتين»، الذي عمره أكثر من 25 عامًا، وكان الرؤساء بيل كلينتون وجورج بوش وباراك أوباما قد تبنّوه، واقترح استضافة قمة للقيادات العربية وإسرائيل في واشنطن للبحث في حلّ إقليمي. ومما قاله ترامب في هذا المجال: «أنا أنظر إلى الدولتين وإلى الدولة... يعجبني ما سيعجب الطرفين (الإسرائيلي والفلسطيني)، ويمكنني العيش مع كليهما». وفي مشهد سريالي ساخر، دعا ترامب نتنياهو إلى «ضبط النفس بعض الشيء»!! في قضية الاستيطان، فرد نتنياهو أن «مسألة المستوطنات ليست في صلب النزاع» مع الفلسطينيين، الذين كرر مطالبتهم بالاعتراف بإسرائيل كـ«دولة يهودية»، فيما دعا ترامب الفلسطينيين إلى التخلص من «الكراهية»!.
تحت عنوان «ترامب جيّد لليهود»، كتب بوعاز بيسموط في صحيفة «إسرائيل اليوم»: «إذا كان لا يزال ثمة أحد يشك في أن دونالد ترامب جيّد لإسرائيل، فقد جاء المؤتمر الصحفي المشترك في البيت الأبيض ليثبت أن ترامب جيد لليهود... وهو كان المنعطف عن كل ما سمعناه، وعرفناه، واستوعبناه ومضغناه (لكننا لم نهضمه) منذ عدة عقود». وأوضح بيسموط ما يعنيه قائلاً: «فكرة الدولتين كخيار وحيد للسلام، خريطة الطريق، المفاوضات المتعددة الأطراف، المبادرات الدولية، التهديد بالعقوبات ضد إسرائيل، توجيه إصبع الاتهام للمستوطنات، هذه كلها أصبحت بكل بساطة غير ذات صلة، أو ثانوية...». ويضيف الكاتب «ليست سنوات أوباما الثماني فقط قد تحولت إلى تاريخ، بل حتى عهد كلينتون بات يبدو قديمًا ولا ينتمي إلى الحاضر. لقد سلّم ترامب اتفاقات أوسلو ومبادرات السلام لعلماء الآثار. وإدارة ترامب تعمل على صيغة جديدة، من المؤكد أنها لن تعجب اليسار الاسرائيلي، ولكن يجب الانتظار أيضًا، لرؤية مدى ملاءمتها لرغبات اليمين».

 

الموقف الفلسطيني والخيارات المتاحة
على الأثر ردت حنان عشراوي، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بالقول: «إنه من الواضح أن الإدارة الأميركية الجديدة تدعم نتنياهو في مواقفه، وتوفّر له مساحة للقضاء على حلّ الدولتين، وتتحول من حليف منحاز إلى إسرائيل، إلى شريك بالجريمة، فإذا أراد الرئيس الأميركي دونالد ترامب التخلص من حلّ الدولتين لخلق واقع بديل، فعليه أن يقدم الخيارات والبدائل لذلك». وأضافت بشأن تراجع إدارة ترامب عن تبني حلّ الدولتين: «إن حلّ الدولة الواحدة يتطلب المساواة في الحقوق والمواطنة للجميع، وما يسعى إليه نتنياهو هو استمرار الاحتلال العسكري وفرض دولة فصل عنصري، الأمر الذي سيجر المنطقة وخارجها إلى المزيد من التطرف والعنف والدمار». أما أمين سرّ منظمة التحرير الفلسطينية د. صائب عريقات فحذّر من أن «انهيار حلّ الدولتين سيقود إلى كارثة». وأضاف: «من لا يقبل بحلّ الدولتين سينتهي به الأمر إلى حلّ الدولة الواحدة». أي: «دولة ديموقراطية للمسلمين والمسيحيين واليهود». وقال، إن الفلسطينيين والعالم لن يقبلوا، الخيار الذي تفرضه إسرائيل من طرف واحد على الأرض، وهو دولة واحدة تقوم على التمييز العنصري. واعتبر أن «حكومة الاحتلال تسعى إلى دفن حلّ الدولتين وإلغاء فكرة إقامة دولة فلسطين ضمن حدود العام 1967، من خلال جملة من الإجراءات والسياسات المتمثلة بتوسيع المستوطنات وسرقة الأرض والموارد والمياه». وختم قائلاً: «كمنظمة تحرير ودولة فلسطين، خيارنا هو حلّ الدولتين ضمن حدود الـ1967، وقد قدمنا لهذا الغرض تنازلات كبيرة ومؤلمة...» أما آفي بريمر، السفير الإسرائيلي السابق في برلين، فاعتبر أن التخلي عن حلّ الدولتين يعني عمليًا خيارين: «إما أن يتدخل المجتمع الدولي ويمارس الضغط على إسرائيل، وأنا لا أرى أن ذلك واقعي، لأسباب مختلفة يمكن فهمها، أو أن تضم إسرائيل جميع المناطق الفلسطينية، ولكن بعد ذلك يجب أن تمنح الجنسية الإسرائيلية للفلسطينيين، والكثير منهم يتمنون ذلك لأنّه مفيد لهم. في الواقع الذين يريدون ضمّ المناطق الفلسطينية لا يريدون منح الجنسية الإسرائيلية للفلسطينيين وهذا يعني استمرار الاحتلال».

 

خطة
أخيرًا، في مقابل هذه المواقف، ما هي الخطة الأميركية –الإسرائيلية؟
وفق اعتقادنا تسعى هذه الخطة إلى تحقيق النقاط الجوهرية الآتية:

  • الاعتراف بالقدس الكبرى كعاصمة أبدية للشعب اليهودي.
  • عدم اعتبار الاستيطان «عائقًا أمام السلام»، والقرار 2334 في مجلس الأمن الدولي ضدّ سياسات الاستيطان غير مبرر.
  • وجوب تنفيذ صفقة بين إسرائيل والفلسطينيين عن طريق مفاوضات مباشرة بين الجانبين بلا شروط مسبقة، مع التزام ترامب المطلق بأمن إسرائيل ومصالحها.
  • نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب الى القدس.
  • فتح عهد جديد وجيّد من العلاقات الإسرائيلية -الأميركية. وخلافًا لفترة إدارة أوباما، ستدعم الولايات المتحدة إسرائيل بلا قيد ولا شرط، في الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية.
  • تجميد مبلغ يقدر بنحو 221 مليون دولار، كان الرئيس أوباما قد صادق على تحويله إلى السلطة الفلسطينية قبل مغادرته البيت الأبيض بوقت قصير.
  • التركيز على المشاكل الداخلية بحسب مبدأ «أميركا أولًا»، ومحاربة «داعش» والمنظمات الأصولية الإسلامية المتطرفة، والتصدّي العملي لخطر إيران وحزب الله، كأولوية تسبق قضية التعامل مع خطر الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.
  • إحداث تغييرات جذرية في السياسة الخارجية تدعم سياسات نتنياهو الاستيطانية وتؤيدها.