متاحف في بلادي

قلعة شعبان في خربة سلم
إعداد: جان دارك أبي ياغي

متحف للحِرفيين يجمع بين التراث والفن

 

للتعرّف إلى الحِرف اللبنانية القديمة، عنوان واحد: متحف قلعة يوسف شعبان (أبو موسى) في بلدة خربة سلم- قضاء بنت جبيل، الذي استغرق إنجازه 25 عامًا من الجهد المتواصل.


على تلة مرابضة في خربة سلم، تقع القلعة التي بناها يوسف شعبان بنفسه، وصمّم هندستها وزخرفتها وحتى أبراجها التسعة. أقل ما يقال عن قلعة شعبان السياحية إنّها «قلعة الأحلام» التي نتخيّلها في قصص ألف ليلة وليلة، مستمدًا إبداعه من عائلته العريقة في مجال الفن، خصوصًا في النحت والرسم.

 

حجارة تحكي قصة حلم
في صيف العام 1993، ‎انطلق فجر الحلم الذي لازم أبا موسى، منذ طفولته. بدأ يرسم خارطته في مخيلته، يعقد الجسور، ويربط الخيوط، يُعدّل ويضيف... إلى أن جسّد مشروعه الفني على هيئة قلعة. واجه في حينها صعوبات كثيرة كان أخطرها استهداف العدو الإسرائيلي لخربة سلم، وذلك من المواقع التي كان يحتلها في ما عرف بالشريط الحدودي. إلاّ أنّه أصرّ على إكمال مشروعه متسلّحًا بإرادةٍ صلبة وهو ما تحقّق بعد التحرير، وبمجهودٍ فردي، إذ حفر في قلب الجنوب بساعده وأنامله وذوقه وإبداعه، مَعْلَمًا سياحيًا يؤمّه الزائرون اليوم من لبنان ومختلف أنحاء العالم.
ينحدر أبو موسى من عائلة يسكنها الهاجس الفني. فوالده كان متخصصًا في أعمال النحت والرسم على الصخر والحفر فيه، وبصماته واضحة في العديد من بيوتات الجنوب اللبناني. وشقيقه بهيج ياسين شعبان كان خطّاطًا مشهورًا ونقيبًا لخطّاطي الصحف في لبنان في العام 1948.
في هذه الأجواء ترعرع شعبان متأثرًا بمواهب والده وفنّ شقيقه، وبدا هذا التأثر واضحًا في أسلوب بناء القلعة.
في هذا الإطار يقول يوسف: «أنا فنان بالفطرة، لم أتعلم أصول النحت ولا فصول العمارة، ولكنّي صاحب نظرة إبداعية، وهذا ما يميّزني».

 

واحة فنية
يتربّع قصر أبو موسى بأبراجه التسعة (في إشارة إلى أشقّائه التسعة)، على مساحة خمسة آلاف متر مربع، ويتوزّع على خمسة طوابق تبلغ مساحة كلٍّ منها 250 مترًا، تأخذ شكلًا دائريًا وتروي سيرة لبنان التاريخية والثقافية والحضارية والتراثية. تحيط بالقلعة أشجار الأرز والسرو وعشرات الأنواع من الزهور، وهي تنتصب شاهقة كتلال جبل عامل في قببها المستديرة وأحجارها الفريدة وشرفاتها الرحبة.
المواد المستخدمة في البناء هي من حجارة المنطقة التي صقلها شعبان بيديه، وبيديه أيضًا صنع زخرفة زجاج النوافذ، والأبواب الخشبية والحديدية، ما يعني أنّ القلعة بكاملها بناها رجل واحد وهو يريد أن يحوّلها إلى متحف يضم رموزًا للشخصيات الوطنية ولتاريخ المنطقة.
إذًا، القلعة هي نتاج تصنيع وتركيب شخصي. ويشرح أبو موسى: «الغلاف الخارجي عبارة عن خلطة أحتفظ بسرّها، وهي متأتية من مادة تتمتّع بمواصفات تضاهي الإسمنت، وقد خضعت لامتحانٍ على مدى سنة ونصف، تحت تأثير عوامل مناخية مختلفة».
يوحي الشكل الهندسي للقلعة بأنّه انعكاس لخَيال يوسف شعبان أكثر مما هو انعكاس لخرائط هندسية، ثمّة حركة سحرية فنية جعلتها «لا تشبه أي قلعة أخرى»، كما يقول. ويضيف: «هي خارطة عائلية، تبدأ من بوابتَي المدخل، ذُيّلت الأولى باسم أمي وأبي، فيما نُسِبت الثانية لشقيقتي ولي، مع ثلاث شرفات هي عدد أبنائي، أما المدخل الأساس فهو على اسم زوجتي».
جُنونٌ عبقري تتلمّسه داخل أروقة القلعة الغريبة، الفريدة بجمالها، والتي أضحت مقصد العديد من الشـخـصـياــت الـدبـلـومـاسية اللبنانية والأجنبية والسيّاح العرب والأجانب فضلًا عن قوات «اليونيفيل» بكتائبها كافة.

 

«متحف الحِرفيين»
تَشُدُّك تلك الأصوات المنبعثة من خلف آلات الحدّادين والنجّارين والمبيّضين، فتخال نفسك في سوق الحِرفيين لولا تدخّل يوسف شعبان: هذا «متحف الحِرفيين». من هنا بدأت الجولة في عالم بسيط محفوف بالتعب والعطاء والإرادة.
يضمّ المتحف 35 حِرفة قديمة تعيدنا إلى زمن الحياة القروية الجميل وقد اندثر معظمها. تتوزّع هذه الحِرف على مساحة الطابق الأول من القلعة، ولكل منها زاوية خاصة أو غرفة صغيرة: الحداد العربي، النجّار، السكّاف، المبيّض، المنجّد، صانع الزجاج، المصوّر القديم، المُجلّي (الذي يجلي الحديد والسكاكين)، الفاخوري (صانع الفخار)، بائع الكاز، غزل الصوف، دق الزعتر، إلى خبز الصاج والتنور...
كما نرى في إحدى الغرف مجسّمات تمثّل الأديب، المختار، عازف العود، عازف الربابة، الطبّال، الحلّاق، الناطور، الحطّاب، النحّاس، بائع البيض، بائع القهوة، المصوراتي... وفي غرفة أخرى كيفية صناعة الزبدة، وعين الضيعة. نصل إلى محل فلافل وفول القلعة، وغيرها... لينتهي المطاف بزاوية الأدوات التراثية حيث نرى: جرن الكبّة، بلاطة اللحمة، المهباج، آلة تحميص البن، الجاروشة، والفونوغراف...

 

«يلا صبّوا هالقهوة وزيدوها هيل»
يعلو من داخل غرفة الجلسة العربية رجل بزيّه اللبناني، وتجلس بقربه فتاة تصبّ القهوة، ذكّرتنا بأغنية «يلا صبّوا هالقهوة وزيدوها هيل» للفنانة القديرة سميرة توفيق. هكذا كانت جلسات السمر القديمة، حيث لا «واتس أب» ولا «فايسبوك»، إنّما فقط حكايات وخبريات وقصائد شعر.
في كل زاوية من القلعة، حكاية عند أبي موسى الذي يفخر بإنجازه. يتحدث بشغف عن الحِرف «صحيح أنّها أصبحت من الماضي، ولكنّها كانت أساسية في حياتنا. يكفي أن تتعرّف إلى البساطة لتعرف قيمة العطاء وهذا هدفي من النجاح. فحين ترى الخيّاطة تغزل الخيطان أو المبيِّض الذي كان يجول في القرى لتبييض الطناجر النحاسية، وحتى «الكندرجي» وبائع الكاز، تدرك سريعًا كيف أنّ التطوّر نقلنا من عالم إلى آخر، وجعل من حياتنا قرية كونية. لكن في حياة الماضي من البساطة والعطاء ما نفتقده اليوم».
ينهمك شعبان في إنجاز حلمه الذي سيكتمل مع متحف وطني شعبي يضمّ شخصيات أدبية وعلمية وفنية وسياسية... نحتها بدقّة عالية. فعلى الرغم من أنّه لا يعرف من أصول النحت وفروعه شيئًا، أبدع، لأنّه يعتبر أنّ «الفن عشق يولد مع الإنسان».
بعد الجولة الميدانية، صعدنا عبر درج مكوكي مرصوف بحجارةٍ قديمة العهد، إلى الطابق العلوي الذي سيكون في المستقبل نزلاً للزائر الذي يرغب في قضاء وقتٍ مع ثقافة الحرف والتاريخ. وقد صمّم الجناح بشكلٍ يتلاءم مع هندسة القلعة التي تشرف على بحر مدينة صور في بعضٍ منها، وتصافح فلسطين في المقلب الآخر. وينتهي المطاف في مطعم صغير، يقدّم لزوّاره المأكولات التراثية.
أخيرًا، ما قلعة أبي موسى إلاّ خيرُ شاهد على عزيمة جنوبيٍّ يبني تراثًا حضاريًا بمجهودٍ فردي.