قمّة الألفيّة والتحدّيات العالمية

قمّة الألفيّة والتحدّيات العالمية
إعداد: د. عدنان السيد حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية.

اجتمع 150 رئيس دولــة وحكومة مـــن البلـــدان الأعضاء في منظّمة الأمم المتحدة، في الفترة الممتدّة من السادس من أيلول 2000 إلى الثامن منه، للبحث في التحدّيات العالمية التي تواجه الإنسانية حالياً، وستواجهها في العقود المقبلة. إنها قمّة الألفية، حيث ودّع العالم، الألف الميلادي الثاني، ليدخل عصراً جديداً يتّصف بالدينامية المفرطة في حجم المتغيّرات الدولية. وهي القمّة التي انعقدت بناءً على قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذته في شهر كانون الأوّل 1998، وجاءت أثناء انعقاد الدورة السنوية العادية للجمعية العامة. وجاء في القرار المذكور أن انتهاء القرن العشرين “يمثّل لحظة فريدة ورمزية للإفصاح عن رؤية حيوية للأمم المتحدة في العصر الجديد”.

فهل حملت قمّة الألفية رؤية حيوية جديدة في مواجهة تحدّيات عالمية تضغط على الدولة والمجتمع الدولي؟

تأتي قمّة الألفية في سياق ديبلوماسية المؤتمرات التي درجت عليها الأمم المتحدة بعد الحرب الباردة، وأرادت من خلالها حشد أكبر عدد من رؤساء الدول والحكومات فضلاً عن عددٍ كبيرٍ من ممثّلي المنظّمات الأهلية غير الحكومية، في إطار مشاركة المجتمع المدني العالمي في معالجة المشكلات والتحدّيات الراهنة والمستقبلية. فمن مؤتمر ريو دي جينيرو للبيئة والتنمية في العام 1992 “قمّة الأرض”، إلى مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان العام 1993، إلى مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية في العام 1994، إلى مؤتمر كوبنهاغن للتنمية الإجتماعية في العام 1995... وكلّ منها كان بمثابة تجمّع دولي كبير على مستوى القمّة يشهده العالم بعد مرحلة الحرب الباردة، وكلّها أسّست لتطوير القانون الدولي العام على المستويات البيئية والتنموية والإنسانية، وشكّلت فرصة للدول النامية كي تشارك في أعباء المسؤولية الدولية، وتطرح مشكلاتها المتراكمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

جاءت قمّة الألفية تحت رعاية الأمم المتحدة، وفي مقرّها في مدينة نيويورك، وتوقّفت عند أبرز التحدّيات التي تواجه الأسرة الدولية في القرن الحادي والعشرين وطرحت ستراتيجيات وبرامج عمل محدّدة خصوصاً تجاه النزاعات الدولية القائمة، توخّياً لتسويتها بالطرق السلمية بعيداً من أجواء العنف والحروب. وأشارت إلى تحدّيات إضافية تواجه الإنسان والأرض في عالم متغيّر ومتحرّك، عسى أن توضع الحلول لها في إطار التعاون الدولي. فما هي تلك التحدّيات؟ وما هو دور لبنان ومجموعة الدول العربية في مواجهتها ومعالجتها بعيداً من التهميش والسلبية؟

 

النزاعات الدولية والتحديات العالمية

تعيد قمّة الألفية إلى الذاكرة ما ورد في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة قبل خمس وخمسين عاماً: “نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا على أنفسنا: أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب، التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرّتين أحزاناً يعجز عنها الوصف...”. فهل تخلّصت البشرية من ويلات الحرب؟ أم أن الحرب صارت أكثر تدميراً بفعل التقانة الحديثة؟

تبرز النزاعات المسلّحة داخل الدولة أو بين الدول، أي أنها تكون نزاعات داخلية أو إقليمية. وقد زاد عدد النزاعات الداخلية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لأسباب دينية أو إثنية أو قومية أو إقليمية... وصار المدنيون ضحايا الحروب أكثر من العسكريين المحميين، إذ ارتفعت نسبة الضحايا في صفوف المدنيين أثناء النزاعات المسلّحة من خمسة في المئة في بداية القرن العشرين، إلى أكثر من تسعين في المئة في نهايته(1)، وهذه مسألة جديرة بالملاحظة. إن قوّة التدمير المتزايدة بفعل الأسلحة الحديثة التصنيع، واتخاذ المدنيين رهينة حرب في مواجهات دامية، والتنصّل من الإلتزامات الدولية التي يحدّدها القانون الدولي الإنساني(2)، هي من الأسباب التي تقف وراء ظاهرة تهديد حياة المدنيين أكثر من العسكريين. وهذه في مجمل الأحوال ظاهرة غير أخلاقية، ولا تحمل بعداً إنسانياً أو حضارياً ممّا يجدر بالمجتمع الدولي أن يحمله، في وقت يدور الحديث عن “القرية الكونية”، واختصار المسافات بين الأمم والشعوب، وتشابك الرؤى والمصالح الدولية!

في مناطق النزاعات المسلّحة، تتهدّد مقوّمات التنمية البشرية التي لم تعد تنمية إقتصادية وحسب. ذلك لأن رأس المال البشري هو الأساس في أيّة عملية تنموية، إلى جانب رأس المال الطبيعي وما يشمله من موارد وثروات طبيعية، ورأس المال المالي الضروري في عمليات الإنفاق لتنفيذ البرامج التنموية. هذا بالإضافة إلى تهديد مقوّمات الدولة وتفكيك هيكليتها من الداخل عندما يتفاقم النزاع الداخلي، فتزداد معاناة البشر مع ما يعني ذلك من تهديد للأمن الوطني والإقليمي في بيئة تشهد تزايد أعداد اللاجئين والنازحين والفقراء وحالات سوء التغذية وانتشار الأمية... وهذا ما شهدته دول عدّة من آسيا إلى أوروبا إلى أفريقيا حيث تتركّز النزاعات الداخلية والإقليمية، وفي طليعتها: أفغانستان، سريلانكا، البوسنة والهرسك، صربيا، أذربيجان، أرمينيا أنغولا، رواندا، ليبيريا، الصومال، السودان، سيراليون، موزامبيق، تشاد، بوروندي... وتستمرّ النزاعات الداخلية في بعض الدول الأميركية، كما يجري في إقليم شياباس داخل المكسيك، أو في النزاع الداخلي في كولومبيا، ما يعني أن النزاعات الداخلية صارت ظاهرة عالمية تهدّد السلم والأمن الدوليين، وتستدعي تدخّلاً فاعلاً من جانب المجتمع الدولي والمنظّمات الإقليمية والدولية.

إلى ذلك، تهدّد النزاعات الإقليمية الأمن والسلم الدوليين. وهي تظهر بأشكال مختلفة: نزاعات حدودية، نزاعات على إقليم محدّد ونزاعات إقتصادية أو سياسية... فالنزاعات الحدودية قائمة في مناطق من أميركا اللاتينية، وفي بلاد البلقان، وفي أفريقيا، وفي بلاد القوقاز، وفي شبه القارة الهندية... وهي تعيد الإعتبار للجغرافيا السياسية وما يرتبط بها من نتائج جيو ستراتيجية(3)، ونزاعات إقليمية، ناهيك عن النزاعات الناتجة عن أسباب اقتصادية في عصر العولمة، وتعمّق الهوّة الإجتماعية بين الأغنياء والفقراء على اتساع العالم.

 

أمام هذا الواقع الدولي، تسعى الأمم المتحدة إلى تطوير عمليات حفظ السلام في إطار نظام الأمن الجماعي، بغية الحدّ من تفاقم النزاعات المسلّحة، والتمهيد لإحلال السلام، وتثبيته في البيئات المضطربة. إنها عمليات تدفع أطراف النزاع نحو التفاوض، على رغم فشل بعضها ونجاح بعضها الآخر في مناطق التوتّر والنزاعات. وتكفي الإشارة إلى ارتفاع عدد أفراد قوات عمليات حفظ السلام، الجارية تحت إشراف مجلس الأمن، إلى أكثر من 76 ألف رجل في العام 1995، مع ما يرتبط بها من مهمّات وستراتيجيات(4)، لندرك مدى انتشار هذه العمليات في إطار الأمن الجماعي. وهذا ما دفع قمّة الألفية إلى التوقّف مطوّلاً عند عمليات حفظ السلام في تقرير تفصيلي فيه تقييم للتجارب الماضية، واستشراف لمستقبلها في ضوء الإحتياطات الدولية المتعاظمة، حيث يتعيّن على الأمم المتحدة وضع ستراتيجيات أنجح من أجل تجنّب النزاعات المسلّحة في الأجلين القصير والبعيد، وذلك مع مراعاة القواعد الآتية:

1 - استخدام بعثات تقصّي الحقائق لإيفادها إلى مناطق التوتّر دعماً لإجراءات درء الأزمات في الأجل القصير.

2 - ربط أنشطة بناء السلام بعد الحرب بخطط تنفيذية واضحة، وبمصادر تمويل محدّدة.

3 - الإقتصار في استعمال القوّة على مجالات الدفاع عن النفس، وينبغي أن تكون وحدات الأمم المتحدة قادرة على الدفاع عن نفسها.

4 - التمييز بين المعتدي والمعتدى عليه بعدما تتقيّد أطراف النزاع باتفاق سلمي، إذ لا يجوز أن تقف الأمم المتحدة موقفاً متماثلاً بين الجانبين.

5 - أن تسعى قوات حفظ السلام بما أوتيت من قوّة لوقف أعمال العنف ضدّ المدنيين، دعماً للمبادىء الأساسية للأمم المتحدة.

6 - دعوة الدول الأعضاء التي تلتزم بتقديم وحدات عسكرية إلى تشاور مع أعضاء مجلس الأمن قبل الشروع بتنفيذ عملية حفظ السلام. وينبغي إطلاعها من قبل الأمانة العامة للأمم المتحدة على المخاطر التي قد تترتب على هذه العملية.

7 - إنشاء آلية جديدة لدعم أمين عام الأمم المتحدة بالمعلومات الكافية المتعلّقة بالنزاع وتطوّر الأحداث، على أن تتضمّن هذه الآلية محلّلين عسكريين، وخبراء في نظم المعلومات، والشبكات الجنائية الدولية...

8 - أن توفد الأمانة العامة للأمم المتحدة فريقاً للتثبّت من توافر الإستعداد لدى كلّ جهة من الجهات المحتمل أن تسهم بقوات قبل النشر، لاستيفاء متطلّبات الأمم المتحدة من التدريب والمعدّات اللازمة لعمليات حفظ السلام.

9 - دعوة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى إنشاء “مجمعات وطنية” من ضباط الشرطة، وخبراء مختصين للمساعدة في تلبية الطلبات المتزايدة على الشرطة المدنية، وما يرتبط بها من خبرات في شؤون العدالة الجنائية، وإرساء سيادة القانون في عمليات حفظ السلام داخل الدول التي تشهد نزاعات داخلية.

 

01 - إجراء إستعراض إداري منهجي لإدارة عمليات حفظ السلام، توخّياً لسد النقص الحاصل في عدد الموظّفين(5)...

تندرج هذه القواعد في إطار ستراتيجيات تجنّب النزاعات المسلّحة، وما تمثّله عمليات حفظ السلام من أهمية في هذا الصدد. وهي تكشف عن مدى ما تؤثره تلك النزاعات في النظام العالمي، قانوناً وسياسةً واقتصاداً وثقافة، خصوصاً وأن نهاية الحرب الباردة كشفت عن ثلاثة تحدّيات كبرى تواجه هذا النظام، وهي: نزع الأسلحة الستراتيجية المهدّدة للأمن والسلم الدوليين، ومكافحة الآثار السلبية لتصدّع هيكليات الدول، وتعزيز مكانة حقوق الإنسان والديمقراطية على مستوى الشعوب والدول. هذا ما توقّفت عنده قمّة مجلس الأمن الأولى التي انعقدت في كانون الثاني 1992 بعيد سقوط الإتحاد السوفياتي، عندما التأم قادة روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والصين (الخمسة الكبار) لبحث تحدّيات النظام العالمي. وهذا ما أُعيد الإعتبار إليه في قمّة مجلس الأمن الثانية، خلال شهر أيلول 2000، أي بالتزامن مع قمّة الألفية، عند التأكيد على مبادىء عالمية معروفة حفاظاً على التعاون الدولي، وفي مقدّمتها:

1 - الإلتزام بالمساواة السيادية بين الدول، والتأكيد على السيادة الوطنية، والسيادة الإقليمية، والإستقلال السياسي لجميع الدول.

2 - عدم التهديد باستخدام القوة، واعتماد التسوية السلمية في حلّ النزاعات المسلّحة.

3 - تعزيز دور الأمم المتحدة في منع تجدّد النزاعات، وفي فترة بناء السلام.

4 - وضع ستراتيجيات لمعالجة الأسباب الجذرية للنزاعات، بما في ذلك تعزيز عمليات حفظ السلام.

5 - منع تدفّق الأسلحة الصغيرة إلى مناطق النزاعات، بالتعاون مع المنظّمات الإقليمية(6).

 

إن ما بين قمّة الألفية وقمّة مجلس الأمن الأولى مسافة زمنية هي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، تزاحمت خلالها المتغيّرات الدولية. وكان يصعب على قمّة الألفية تجاهل المعطيات الدولية والعالمية الراهنة، من حيث أن الإنسان أوّلاً وأخيراً هو صانع التقدّم وهدفه، ومن حيث أن الذين تكهّنوا بنهاية الحداثة التي تعتمد الإنسان معياراً لها يقفون اليوم أمام أهوال جديدة تطاول الشعوب والدول في غير مكان من العالم... وبصرف النظر عن قوّة الغرب، ومكانة الولايات المتحدة في قمّة النظام العالمي بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وانقضاء الحرب الباردة، فإن هذه التحديات باتت تشكّل أولوية عالمية على رغم الإختلاف الثقافي والحضاري في تفسير مضامين حقوق الإنسان وحقوق الشعوب. وسيبقى موضوع النزاعات المسلّحة في أولوية الإهتمامات العالمية في العقود القادمة، طالما أن تجارة السلاح رائجة في العالم - وبعضها من خارج القوانين المحلية والدولية - وطالما أن سباق التسلّح التقليدي والستراتيجي ما يزال قائماً. فبعد عقد من الزمان على الإنعطاف الكبير في مسيرة النظام العالمي، وفي بنيته وعلاقاته، تكتشف الإنسانية هول الحروب الداخلية مع ما يرافقها من تصدّع لهيكلية الدولة على الطريقة الصومـالية أو اليوغوسلافية(7)... هـول انتشار اللاجئين والنـازحين بـلا مأوى، واغتصاب النساء، وقتل المدنيين بدون وازع أخلاقي، وهدر حقوق الإنسان في أبسط مقوّمات عيشه. وعلى رغم المجهودات الأميركية والروسية في نزع الأسلحة الستراتيجية (Start 2)، وفي ضبط انتشارها كما في أوكرانيا وروسيا البيضاء وكازاخستان... إلا أن التفجيرين النوويين في الهند وباكستان، خلال شهر أيار 1998 أوجدا حالة اعتراضية خطيرة. هذا بالإضافة إلى معضلة السلاح النووي الإسرائيلي، ورفض إسرائيل الإنضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة الستراتيجية (1966). فالشرق الأوسط، والحال هذه، مهدّد في أمنه واستقراره بفعل السياسة التصعيدية الإسرائيلية، ناهيك عن تعثّر العملية السلمية بين العرب وإسرائيل وما ينطوي عليه من إشكاليات جديدة.

أمّا عن مسيرة حقوق الإنسان والديمقراطية، فإن بابها الذي فُتح لن يغلق تحت وطأة النزاعات السياسية والفكرية والإقتصادية والإجتماعية. إنها نزاعات في إطار الثقافة، ولو لم يستخدم فيها السلاح الناري. وهي تكشف عن التعددية الثقافية التي يتناساها الغرب أحياناً، عندما يريد فرض نموذج محدّد على العالم، وكأن هناك استمارة واحدة يجب تعبئتها باسم العولمة. ثمّة رفض للإملاء الغربي في هذا المضمار، ظهر جلياً في المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا (1993)، وفي مؤتمر السكان والتنمية في القاهرة (1995)، عندما برزت مواقف مختلفة بين مجموعات من الدول ليست كلّها في منطقة واحدة، ولا هي تدين بمعتقد ديني واحد، ولا هي تندرج في إطار حضاري أو قومي واحد. لقد وقفت على سبيل المثال - الفاتيكان إلى جانب السعودية وإيران في مواجهة طروحات أميركية وأوروبية حول حقوق المرأة وشؤون الأسرة. ولم ينقسم العالم على أساس شمال وجنوب، أو شرق وغرب. وإنّما بانت الإختلافات الحضارية - ولا نقول الصدامات الحضارية - في غير جهة من العالم، وأحياناً داخل المنظومة الدولية أو الإقليمية الواحدة. هذه الإختلافات تشير إلى ما يمكن تسميته بالخصوصية التي لن تنسحق بفعل العولمة، حتى وإن تراجعت في بعض جوانبها أو عناصرها الوطنية والقومية، إذ على رغم الإتجاه العالمي الواضح نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان، تختلف المفاهيم القانونية والسياسية والإجتماعية لهذين المصطلحين بمثل ما تختلف آليات التطبيق بين دولة وأخرى.

 

تحدّيات إضافية

إكتشف قادة العالم في قمّة الألفية، مدى ضبابية الوعود التي أغدقت في العقد الماضي، وإن قمّة مجلس الأمن الثانية لم تزح تلك الضبابية في عالمي الشمال والجنوب معاً. بل ثمّة تحدّيات إضافية راحت تبرز، ومن المتوقّع أن تكبر في حقيقتها وآثارها خلال المدى المنظور. وأبرز هذه التحديات: الهجرة من الجنوب إلى الشمال، النزاع على المياه العذبة مع الزيادة السكانية واتساع ظاهرة الجفاف والتصحّر، تعمّق الهوّة بين الغنى والفقر، معضلة إنتاج وانتشار التقانة والمعلوماتية، وتدهور البيئة الطبيعية.

يشكو الإتحاد الأوروبي تدفّق المهاجرين الأفارقة والآسيويين إليه، فيما تتعمّق موجة عنصرية في أوروبا ضدّ وجود نحو 51 مليون مهاجر، شرعي وغير شرعي، جلّهم من العرب والمسلمين، وخصوصاً من المغرب وتركيا(8). ولا تقتصر الشكوى هذه على أوروبا بل تصل إلى الولايات المتحدة الأميركية والغرب بصورة عامة، مع ما ينتج عنها من نزاعات سياسية واجتماعية، وإعادة إنتاج لظواهر عنصرية على رغم الحديث المكثّف عن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب... ثمّة دعوات لإجلاء العرب والمسلمين عن فرنسا وأوروبا(9)، بالتزامن مع فتح الحدود وتقدّم وسائل الإتصالات والمواصلات، ووجود شبكات منظّمة لتسهيل الهجرة غير المشروعة.

وبينما يطاول الجفاف عشرات الدول، وقد يضرب أكثر من مئة دولة في الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين، تزداد الحاجة إلى المياه العذبة للشرب والزراعة والصناعة. وتبرز منطقة الشرق الأوسط في إطار نزاع محتمل داخل المثلّث التركي - العربي - الإسرائيلي. ذلك لأنها من المناطق الجافة في العالم، والتي تعيش تحت وطأة ضوابط قانونية وسياسية جديدة لاحتواء النزاعات المائية مع وجود 230 نهراً دولياً في العالم، وما قد تولده من نزاعات محتملة. وكان مؤتمر باريس للمياه والتنمية المستدامة أشار في العام 1998 إلى دخول المياه سبباً مباشراً للتوتر الدولي في سبعين حالة عالمية، وتحوّلها سبباً للنزاعات والحروب

الإقليمية(10)، على أن الخشية من تزايد مثل هذه الحالات قائمة في العلاقات الدولية، وخصوصاً في المناطق الشحيحة المياه العذبة، وبينها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث تقع مجموعة الدول العربية.

أمّا عن الغنى والفقر، فإن تقارير المنظّمات الدولية بدءاً من البنك الدولي، تشير إلى حقائق مخيفة. حقيقة وجود أكثر من مليار وثلاثماية مليون نسمة تحت خط الفقر، معظمهم في عالم الجنوب وفي قطاع النساء، حيث يعيش كلّ واحد منهم على دولار أميركي واحد يومياً. وحقيقة إرتفاع مديونية الدول النامية إلى مستوى معطل للتنمية، بل معطل أحياناً لاستمرارية الدولة ذاتها. وحقيقة انتشار الأمية والمرض والتفكك الإجتماعي والإنهيار القيمي والثقافي. حسبنا الإشارة هنا إلى إنتشار مرض الأيدز عند أكثر من أربعين مليون شخص، أكثر من نصفهم في أفريقيا(11). فمتى تفي الدول اصناعية بوعدها القائم من سبعينات القرن العشرين، في دفع 5.7 في المئة فقط من ناتجها المحلّي الإجمالي كمساعدات للبلدان النامية والفقيرة؟

ثمّة علاقة جدلية بين وجود الفقر من جهة وتجدّد النزاعات الدولية من جهة أخرى. هذا ما حدا ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي U.N.D.P. إلى الدعوة لإقامة مركز مستقل لتقديم المعونة القانونية وللتظلّمات، بغية مساعدة الدول الفقيرة في مفاوضاتها الدولية في إطار منظّمة التجارة العالمية التي تشكّلت بعد اتفاقات (غات) GATT. فآليات تسوية النزاعات لا تكون سوية وفاعلة إلا إذا أُتيحت فرص متساوية أمام الدول - غنية وفقيرة - للدفاع عن مصالحها وقضاياها المشروعة.

إلى ذلك، يعيش فقراء العالم على هامش الثورة المعلوماتية الجديدة، وهم لم يشاركوا في ثورة الإتصالات والمواصلات، بـل بقوا على هـامشها المتلقي، مع مـا في ذلك من تبعية على المستويات كافة. فكيف سيكون المشهد العالمي بعد عقدين مع تركّز الدور الإقتصادي للشركات المتعدّدة الجنسية التي صارت تقف وراء تغطية نفقات البحث العلمي والإكتشافات الحديثة في عالم الشمال الصناعي؟ وهل سيشعر “الأمراء الماليون” الجدد، من كبار أثرياء العالم الذين يُعدّون بالمئات فقط، بمدى البون الشاسع بين الغنى والفقر؟ بين المنتجين للتقانة الحديثة والمهمّشين على أطرافها؟ بين شعار حقوق الإنسان وحقيقة تطبيقه على الأرض؟ بين الحديث عن الديمقراطية ومضامينها السياسية والإقتصادية؟...

إذا كانت الثورتان الصناعيتان الأولى والثانية قد أسّستا للثورة الالكترونية التي نعيشها، فإن الخشية تكمن في أن تبقى الأرض ومن عليها (بيئة طبيعية وبشر) ضحيّة تهديد البيئة، وسيادة الفقر، وسيطرة سياسة القوّة في العلاقات الدولية. فالأزمات المالية، والقيمية - الأخلاقية، والأمنية، والإقتصادية، تعصف بالعالم من كلّ حدبٍ وصوب، فيما تطالب الأمم المتحدة، في غير مناسبة، بأنسنة العولمة، أي جعلها أكثر إنسانية. هذه المطالبة صارت مطروحة حتى داخل الدول الصناعية نفسها، من خلال مجتمع مدني عالمي يرفض ما يجري من مضاربات واحتكارات مالية واقتصادية فيما تزداد تعاسة الفقراء والمهمّشين، وجلّهم في العالم النامي أو عالم الجنوب.

فكيف يمكن للبنان ولمجموعة الدول العربية التعامل بإيجابية مع التحديات الدولية الراهنة في ضوء ما طرحته قمّة الألفية من وقائع وبرامج؟

 

جامعة الدول العربية والدور الإقليمي

يمكن لجامعة الدول العربية، كمنظّمة إقليمية، أن تلعب دوراً مهماً في مواجهة التحديات الدولية المشار إليها بالتعاون مع الأمم المتحدة كمنظّمة دولية. ولبنان على رغم صغر مساحته، وقدراته المحدودة، يبقى عضواً مؤسّساً لجامعة الدول العربية ولمنظّمة الأمم المتحدة. وتلك سمة دولية وإقليمية مهمّة للبنان، يجدر توظيفها في السياسة الخارجية اللبنانية من خلال تفهّم المشكلات الدولية الراهنة، والتفاعل في السياسة معها بإيجابية في إطار التعاون الدولي.

أجاز ميثاق الأمم المتحدة، في الفصل الثامن(12)، للمنظّمات الإقليمية بالتصدّي لقضايا حفظ السلم والأمن الدوليين، توخّياً للحلول السلمية في مواجهة النزاعات الإقليمية. على أن يتحقّق تعاون ملموس بين هذه المنظّمات ومجلس الأمن الدولي، صاحب السلطة الدولية الأولى في هذا المجال. ويمكن لمجلس الأمن استخدام المنظّمات الإقليمية في أعمال القمع، إذا وجد ذلك مفيداً، إنفاذاً للفصل السابع من الميثاق. وفي مطلق الأحوال يجدر إطلاع مجلس الأمن بصورة دائمة على أعمال المنظّمات الإقليمية، وما تزمع القيام به، عند إضطراب الأمن والسلم في منطقة معيّنة... ذلك كلّه، يكشف عن التكامل الوظيفي بين التنظيم الدولي والتنظيم الإقليمي بصورة عامة لحفظ السلم والأمن الدوليين. وتلك مهمّة مركزية في عمل الأمم المتحدة، ومبرّر أساسي لوجودها عشية إنتهاء الحرب العالمية الثانية.

في نظرة سريعة إلى التعاون الإقليمي - الدولي خلال العقد الأخير من القرن العشرين، نجد جملة معطيات تؤكّد هذا التعاون. فمن دور منظّمة الأمن والتعاون الأوروبي في حفظ السلام في البلقان - خاصة في البوسنة والهرسك وكوسوفو - إلى تعاون كومنولث الدول المستقلّة بقيادة روسيا مع الأمم المتحدة لمعالجة النزاع الداخلي في جورجيا(13)، وضمانة وحدة هذه الدول القوقازية. إلى تعاون منظّمة الوحدة الأفريقية والأمم المتحدة في منطقة البحيرات الكبرى غداة تفجّر الصراعات العرقية وتزايد أعداد الضحايا واللاجئين. إلى دور منظّمة الدول الأميركية في المساعدة على تسوية النزاع على السلطة في هايتي (منطقة البحر الكاريبي)، وعلى معالجة الأزمة الحدودية بين البيرو وأكوادور... هذه النماذج، وغيرها، تدلل على أهمية التعاون الإقليمي - الدولي في وقت عادت فيه التكتلات الإقليمية إلى الظهور بقوّة على المسرح الدولي، تحت ضغط عاملين أساسيين هما: العامل الإقتصادي، والعامل الأمني.

في هذا السياق، يمكن لجامعة الدول العربية أن تفعل فعلها شريطة أن تجدّد إطارها المؤسّسي بعيداً من النزاعات العربية - العربية. وقد أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1998 مشروعاً للتعاون مع جامعة الدول العربية، يقضي بتدعيم الروابط القائمة بين الطرفين، في الميادين السياسية والإقتصادية والإجتماعية والإنسانية والثقافية والتقانية والإدارية(14)، على أن تتولّى الوكالات المتخصصة وسائر مؤسّسات وبرامج الأمم المتحدة، تكثيف التعاون مع جامعة الدول العربية ومنظّماتها المتخصّصة في القطاعات التالية ذات الأولوية: الطاقة، والتنمية الريفية، والتصحّر والأحزمة الخضراء، والتدريب المهني، والتكنولوجيا، والبيئة، والإعلام والتوثيق.

إلى ذلك شدّد قرار الجمعية العامة على تعزيز آليات التنسيق بغية متابعة المشاريع والمقترحات المعتمدة في الإجتماعات المعقودة بين الطرفين. وتقرّر عقد اجتماع مرّة كلّ سنتين وعقد اجتماعات قطاعية مشتركة بين وكالاتهما بانتظام بشأن المجالات ذات الأولوية وذات الأهمية الكبيرة في تنمية الدول العربية...

من شأن هذا التعاون بين جامعة الدول العربية والأمم المتحدة تعزيز الدور العربي في المجتمع الدولي، والإفادة من الدعم الذي يمكن أن توفّره المنظّمة الدولية لجامعة الدول العربية بعدما صارت محددات التنمية متعدّدة وشاملة، وذات بعد إنساني واضح. على أن هذا التعاون منوط بقدرة جامعة الدول العربية على التجدّد والتطوّر. وتلك مسألة سياسية تتطلّب توافقاً رسمياً عربياً، وإعلاءً للمصالح المشتركة على الخلافات السياسية مهما كانت دوافعها وأسبابها. فالسمة العامة للمجتمع الدولي هي الإتجاه نحو التكاملية الإقليمية، والإنتظام في كتل أو أحلاف تجمع الدول المتجاورة إقليمياً(15).

ثمّة ظاهرتان تبدوان على طرفي نقيض: التكاملية الإقليمية، والعولمة الشاملة. فمن جهة نلاحظ الخصوصية الإقليمية في منطقة جيوبوليتيكية محدّدة ومن جهة أخرى تتسارع خطى العولمة خصوصاً في مجالي الإقتصاد والتقانة الحديثة. بيد أن طبيعة النظام العالمي السائد تقوم على هذه الثنائية التي تحمل التناقض والتكامل في آنٍ معاً. إنها ثنائية تنطوي على نزاعات دولية معقّدة بعضها مسلّح وبعضها الآخر غير مسلّح، تدور في ميادين الإقتصاد والثقافة والإعلام والسياسة...

 

تستمر النزاعات المسلّحة وغير المسلّحة بين الدول في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، مع ما تحمله من تهديدات للمدنيين والبيئة الطبيعية، وما تخلّفه من تعميق للهوّة الفاصلة بين الغنى والفقر على نطاق عالمي واسع.

 

من أخطر هذه النزاعات ما يؤدّي إلى تفكيك هيكلية الدولة. ذلك لأن هذه العملية تنطوي على مخاطر شاملة تطاول الأفراد والمؤسّسات القائمة، وتحول دون استعادة الحياة الطبيعية في وقت قصير، فضلاً عما تحمله من مخاطر على الجوار الإقليمي، أي تهديد الأمن والسلم الدوليين.

في مواجهة تلك المخاطر، تجهد الأمم المتحدة لتوسيع وتطوير عمليات حفظ السلام في مناطق النزاعات. وثمّة مشاريع عدّة في هذا الصدد تنتظـر التمويل والتنفيذ، والإرادة السياسية من جانب الدول الأعضاء، وخصوصاً من تلك دائمة العضوية في مجلس الأمن. إن مبدأ الأمن الجماعي مرتبط إلى حدٍ ما بهذه المهمّة التي صارت ملحّة في العقد الأخير، وقد تعرّض لكثير من النقد على مستوى الدول والمنظّمات الإقليمية والدولية.

هذا ما توقّفت عنده قمّة الألفية، ووضعت من أجله توصيات وقرارات، بعضها يجدر تنفيذه، وبعضها الآخر ينتظر موافقة الدول المعنية، بحيث يتمّ وضع ستراتيجيات ملائمة وسياسات عالمية رشيدة لتحويل البيان الختامي لقمّة الألفية إلى واقع فعلي داخل المجتمع الدولي.

إلى جانب تحدّي النزاعات المسلّحة وضرورة مواجهته، ثمّة تحدّيات من نوع آخر لا تقود إلى نزاعات مسلّحة، ولكنها تحدّ من التعاون الدولي، ومن فرص التنمية البشرية المستدامة. إنها تحدّيات الهجرة من الجنوب إلى الشمال، والنزاع على المياه العذبة بفعل إتساع نطاق الجفاف، وتعمّق الهوّة بين الغنى والفقر، وتدهور البيئة الطبيعية، وإشكالية انتشار التقانة والمعلوماتية بدون ضوابط سياسية وقانونية...

مجمل هذه التحديات يفرض نوعاً من التكامل بين التنظيم الإقليمي (كتل وأحلاف وتجمّعات) والتنظيم الدولي (منظّمات دولية). إنه تكامل وظيفي على غير صعيد، وفي مختلف مستويات العلاقات بين الدول والقوى الدولية. تكامل قد يخفف من وطأة العولمة، أو من مفاعيلها السلبية. في هذا السياق يأتي دور منتظر لجامعة الدول العربية، شريطة تجديد آلياتها وطابعها المؤسّسي بعيداً من أجواء النزاعات العربية - العربية. وما قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1998، الخاص بالتعاون مع جامعة الدول العربية، إلا الدليل على أهمية تلك التكاملية في إطار العمل للتنمية العربية الشاملة، وفي مجال السعي الدؤوب للتعاون الدولي وحفظ السلم والأمن الدوليين.