قضايا دولية

قوّة الاتحاد.. وقوّة التحديات
إعداد: جورج علم

يستمر التفاعل ما بين التاريخ والجغرافيا على وقع الضرورات التي تتحكّم بحركات الشعوب. قد تكون الدوافع اقتصادية، فتستوجب في مرحلة من المراحل قيام وحدة منسّقة بين العديد من الدول، لتحقيق مستويات عالية من الأمن الاقتصادي، الاجتماعي، المعيشي. وربما تكون أمنيّة، أو سياسيّة تمليها ظروف واعتبارات داهمة، أو افتراضيّة تستوجب التحوّط، واليقظة. وربما تكون قوميّة تحضّ على التقارب والاتحاد، وهذا على الأقل، ما استند اليه المفكّر الفرنسي فيكتور هوغو عندما أطلق في العام 1851 نظرية «أوروبا موحّدة من خلال التعاون والمساواة في العضويّة». لكن نظريته تلك، لم تحظ بفرص مؤاتية جادة نحو التطبيق، لأنّ ما كان يباعد، أكثر مما كان يقرّب، ويوحّد .
قبل هوغو ونظريته، جرت محاولات لتوحيد أوروبا، الأولى كانت في عصر الأمبراطوريّة الرومانيّة التي تفاهمت قبل انهيارها مع أمبراطوريّة شارلمان الفرنكوفونيّة على جعل مساحات شاسعة من الأراضي تحت إدارة موحّدة، لكن عندما انهارت الأمبراطوريتان، بقيت الأرض، وانتهى الحلم. وحاول نابوليون بونابرت في القرن التاسع عشر، لكن محاولته لم تتجاوز الطابع الشكلي والمرحلي نظرًا إلى الفروقات، لا بل التناقضات الكبيرة ما بين اللغات والثقافات والخصوصيات الأوروبيّة المتباينة. وكرر رودولف هتلر المحاولة في أربعينيات القرن العشرين، لكنّه انتهى منتحرًا.

 

المصيبة  تجمع
إنتهت الحرب العالميّة الثانية إلى كوارث بشريّة، واقتصاديّة، وشعر الأوروبيّون بأنّه لا بديل عن التصالح والتعاون والتعايش السلمي بعد الويلات التي عايشوا أوقاتها الحرجة. واقترح رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل في العام 1946 تأسيس «الولايات المتحدة الأوروبيّة». وأطلقت الولايات المتحدة الأميركيّة في العام 1948 «خطة مارشال» لإعمار أوروبا، ودعم تماسكها، في الوقت الذي بدأ فيه المستشار الألماني كونراد أديناور في السير باتجاه الانتماء الوثيق مع المجتمع الغربي. وفي الخامس من أيار 1949 تمّ تأسيس «المجلس الأوروبي» في ستراسبورغ ليصبح أقدم منظمة تجمع بين الدول الديموقراطية في أوروبا.
ويحلّ التاسع من أيار من العام 1950، حيث اقترح وزير خارجيّة فرنسا آنذاك، روبرت شومان، على العدو الألماني (في حينه) التعاون المشترك مستقبلًا في مجال صناعة الفحم، والحديد، والصلب، بعدما لعبت هذه المواد دورًا هامًّا في أثناء الحرب العالميّة الثانية. بعد سنة (1951) أسست فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبلجيكا، واللوكسمبورغ، وهولندا، «المجموعة الأوروبيّة للفحم، والحديد، والصلب»، وبات التاسع من أيار من كل عام موعدًا للاحتفال بيوم أوروبا، تخليدًا لذكرى الفكرة الجريئة للوزير شومان.
وتتدحرج كرة الثلج باتجاه الوحدة، وتكبر يومًا بعد يوم، حيث شهد الخامس والعشرين من آذار من العام 1957 توقيع كلّ من فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبلجيكا، واللوكسمبورغ، وهولندا على معاهدتين في روما، الأولى: تأسيس «المجموعة الاقتصاديّة الأوروبيّة». والثانية: تأسيس «المجموعة الأوروبيّة للطاقة الذريّة». وأدت الاتفاقات حول «المجلس الأوروبي»، و«المجموعة الاقتصاديّة الأوروبيّة» إلى قيام «المجموعة الأوروبيّة» في العام 1967، ثم إلى قيام «الاتحاد الأوروبي» في العام 1993.

 

 

من العداوة.. إلى الصداقة
في الثاني والعشرين من كانون الثاني 1963، اتفق الزعيمان الفرنسي شارل ديغول، والألماني أديناور على توقيع اتفاقيّة «التعاون المشترك»، والتي أطلق عليها لقب «معاهدة الأليزيه»، وتحوّل أعداء الأمس إلى أصدقاء اليوم، ومنذ ذلك التاريخ يلتقي الزعماء في البلدين مرّتين في السنة بشكل متبادل لتأكيد الشراكة الوثيقة بينهما، ويعتبر هذا التعاون المحفّز لعملية الاندماج في أوروبا، وقد شهد العام 2003 احتفالًا ضخمًا بمناسبة مرور 40 عامًا على هذه المعاهدة.

 

معاهدة ماسترخت
في الأول من كانون الأول من العام 1991 التقى عدد من الزعماء الأوروبييّن في مدينة ماسترخت الهولنديّة، وتوافقوا على الخطوط العريضة لقيام «الاتحاد الأوروبي»، ووقّعوا في 7 شباط 1992 معاهدة حملت اسم المدينة المضيفة، وعرفت بـ«معاهدة ماسترخت». دخلت هذه المعاهدة حيّز التنفيذ في الأول من تشرين الثاني 1993، وشكّلت أساس الدستور الأوروبي الذي تمّ الاتفاق عليه لاحقًا في العام 2004، وأطلقت العملة الموحّدة (اليورو)، ووضعت أطرًا لسياسات العمل الموحّدة، بما في ذلك السياسة الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والتعليم، والصحة. وبفضل هذه المعاهدة، بدأت منطقة «اليورو» في موعدها في كانون الثاني من العام 1999، وأدخلت إجراءات حماية اجتماعيّة هامّة، مثل توحيد وقت العمل الأوروبي، وحماية قانونيّة أكثر صرامة للعاملين بالدوام الجزئي، وكذلك الحق في الحصول على إجازة أبويّة، وإدخال تدابير لدعم الديموقراطيّة بمكان العمل، كمجلس الأعمال الأوروبي.
بعد هذه المسيرة الطويلة من المحاولات، ومن التفاعل ما بين التاريخ والجغرافيا، أبصر الاتحاد الأوروبي النور، وهو يضمّ حاليًّا 28 دولة، كانت آخرها كرواتيا التي انضمت في الأول من تموز 2013. ومن أهم مبادئه نقل صلاحيات الدول القوميّة إلى المؤسسات الدوليّة الأوروبيّة، على أن تبقى هذه المؤسسات محكومة بمقدار الصلاحيات الممنوحة من كل دولة على حدة، لذا لا يمكن اعتبار الاتحاد «اتحادًا فدراليًا»... إنه يتفرّد بنظام سياسي فريد من نوعه في العالم. وله نشاطات عديدة أهمها سوق موحد ذو عملة واحدة (اليورو) تبنّت استخدامها 19 دولة من أصل الـ28 الأعضاء، وله سياسة زراعيّة مشتركة، وسياسة صيد بحري موحّدة.

 

 

صعوبات وتحديّات
طوّر الاتحاد آليات عمله، واستحدث مؤسسات إداريّة منها:
• مجلس الاتحاد الأوروبي: ويتكوّن من وزراء حكومات الدول الأعضاء، ويعقد اجتماعاته وفق الحاجة في كلّ من بروكسيل ولوكسمبورغ، ويتمتع بصلاحيات واسعة ضمن المجالات المتعلقة بالسياسة الخارجيّة المشتركة، والتعاون الأمني.
• المفوضيّة الأوروبيّة: مقرّها بروكسيل، تشرف على تنفيذ القوانين المشتركة، يحق لها تقديم مقترحات قوانين، وتقوم بوضع الميزانية العامة للاتحاد، وبالإشراف على تنفيذها، كما تتولى تمثيل الاتحاد في المفاوضات الدوليّة، وتوقيع الاتفاقيات، وتتمتع بصلاحيات واسعة بقبول أعضاء جدد.
• البرلمان الأوروبي: يعتبر الجهاز الرقابي والاستشاري في الاتحاد الأوروبي، يملك بعض الصلاحيات التشريعيّة، يراقب عمل المفوضيّة، ويوافق على أعضائها، كما يشارك بوضع القوانين، ويصادق على الاتفاقيات الدوليّة، وعلى انضمام أعضاء جدد، ويملك صلاحيات واسعة في ما يتعلّق بالميزانيّة المشتركة. يتكوّن من 785 عضوًا موزعين على الدول الأعضاء بشكل يتناسب وعدد سكانها، مقرّه ستراسبورغ، ويجتمع أيضًا في بروكسيل، ولوكسمبورغ.
• المجلس الأوروبي: يضم رؤساء الدول والحكومات في الدول الأعضاء، بالإضافة إلى رئيس المفوضيّة الأوروبيّة، يعقد ما بين اجتماعين وثلاثة اجتماعات في العام، لاتخاذ القرارات السياسية والاقتصاديّة الهامة، ورسم سياسة الاتحاد.


وعلى الرغم من الجديّة والشفافيّة التي تحكم عمل هذه المؤسسات، فإن الاتّحاد لم يصل بعد الى الموقع الذي يؤهله أن يكون قوة دوليّة متماسكة منزّهة من الثغرات، والعيوب، والشوائب. وجاءت أزمة الديون اليونانيّة لتكشف الكثير من نقاط الضعف التي تستوطن جسمه المكتنز:
• أولاً، التمايز في العضويّة: صحيح أن 28 دولة متساوون وفق القوانين والأعراف المعتمدة من قبل الاتحاد، لكن الفروقات واضحة بين الدول الكبيرة، والأخرى الصغيرة، إذ هناك مناخ من الطبقيّة، والفئويّة.
• ثانيًا: هناك دول غنيّة وأخرى فقيرة، هناك من يعطي، وهناك من يستجدي.
• ثالثًا: تشعر الدول الفقيرة بأنها تعمل لحساب الدول الغنية، وكل جهدها، واقتصادها، ومواردها تصبّ في خانة تسديد فوائد الديون المتراكمة على كاهل شعوبها.
• رابعًا: التباينات العميقة في الدين، واللون، والعرق، واللغة، والسلوكيات، والعادات والتقاليد، والتي لا تزال تشكّل حساسيات متفاقمة بين شعوب الاتحاد.
• خامسًا: شعرت مجتمعات الدول الصغيرة، أو الفقيرة، بأن البطالة لا تزال مرتفعة في صفوف شبابها، وأن الوضع الاقتصادي الاجتماعي المعيشي لم يتغيّر نحو الأفضل، بل على العكس، إنه يتدرّج من سيّىء إلى أسوأ.
• سادسًا: يشعر بعض زعماء الدول بأنه فقد الكثير من هامش حريته وتحرّكه، وأنه مقيّد بسياسات والتزامات أوروبيّة عليا قد لا تتوافق ومصالح بلده.
• سابعًا: إن السياسات الإنمائيّة الخاصة بالدول الأعضاء خصوصًا الفقيرة منها، لم تحقّق نسبة عالية من النجاح، وبالتالي فإن قطار الإنماء يراوح مكانه، أو لم يبلغ بعد، وبالسرعة المطلوبة، محطة أخرى أكثر إشراقًا.
لهذه الأسباب وغيرها وجد الكبار في الاتحاد الأوروبي بأن أزمة اليونان كشفت كم أن الهامش ضيّق، والخيارات محدودة: فإما الاستسلام إلى المطالب وفق دفتر شروط  مرن يتوافق والإمكانات المتاحة، أو التسليم بالطلاق. وفي هذه الحال لن تقتصر المغادرة على اليونان، بل سيحذو حذوها العديد من الأعضاء الآخرين، وعندها يصبح الاتحاد في دائرة الخطر عملًا بمبدأ النظرية القائلة بأن «التفاعل ما بين التاريخ والجغرافيا مستمر دائمًا على وقع الضرورات التي تمليها مصالح الشعوب؟!».