عرس الشهادة

قيادة الجيش تكرّم الشهداء العشرة الذين أعدمهم «داعش»
إعداد: تريز منصور

رئيس الجمهورية: بشهادتكم تكبرُ المؤسسة ويكبر الوطن
قائد الجيش: سكنتم قلوب اللبنانيين جميعًا


..عادوا شهداء، ووسط حداد وطني كان وداعهم، في احتفال مهيب أقامته قيادة الجيش.
باحة وزارة الدفاع الوطني التي احتضنت الوداع، شهدت كل ما يليق بالشهداء من مراسم التكريم وكل ما يليق بالأبطال من فخر وتقدير.
بمهابة مرّت نعوشهم أمام الحضور من أركان الدولة إلى الرفاق والأهل...حملت الجدران صورهم، تردّدت في الوجدان أسماؤهم، زُيّنت بالأوسمة نعوشهم. وفي العيون التقت دموع أهلهم بدموع رئيسهم وقائدهم.
من باحة خفق فيها العلم لتحيّتهم، ثمّ نُكّس حدادًا على أرواحهم، انطلقوا إلى بلداتهم وقراهم، ورافقهم لبنان في المشوار الأخير.

 

مراسم التكريم
تقدّم الحضور إلى جانب رئيس الجمهورية رئيس مجلس النواب نبيه بري، رئيس الحكومة سعد الحريري، وزير الدفاع الوطني يعقوب رياض الصرّاف، قائد الجيش العماد جوزاف عون، رئيس الأركان اللواء الركن حاتم ملاّك وقادة الأجهزة الأمنية وقائد قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، ملحقون عسكريون، وممثلون عن رؤساء الطوائف والبعثات الديبلوماسية، وعدد كبير من الشخصيات، إضافة إلى كبار ضباط القيادة وعائلات الشهداء المكرّمين.
بعد وصول علم الجيش برفقة سرية التشريفات، وصل على التوالي، رئيس الأركان، فقائد الجيش، ومن ثم وزير الدفاع الوطني، فرئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، ليكتمل الحضور مع وصول رئيس الجمهورية في تمام الساعة العاشرة وسط مراسم التكريم.
استعرض رئيس الجمهورية كتيبة التشريفات من لواء الحرس الجمهوري، ثم قُرعت الطبول إيذانًا بإدخال نعوش الشهداء العشرة، الملفوفة بالعلم اللبناني والتي تقدّمت بمهابة يحملها عناصر من الشرطة العسكرية. وعلى وقع موسيقى التكريم مترافقة مع تحليق للطوافات العسكرية، عبرت نعوش الشهداء الممرّ المغطّى بالسجاد الأحمر، وصولًا إلى ساحة العلم، حيث وضعت في الأمكنة المحدّدة لها وتمركز حملة الأكاليل والأوسمة خلفها.
إحدى وعشرون طلقة تكريمًا للشهداء سبقت التعريف بهم من خلال نبذة عن حياة كل منهم ومنحهم أوسمة الحرب، والجرحى والتقدير العسكري.
وبعد معزوفة الموتى ولازمة النشيد الوطني، وقف الحضور دقيقة صمت، وردّد رفاق السلاح عبارة «لن ننساكم أبدًا»، ثلاث مرات. ثمّ وضع رئيس الجمهورية الأوسمة على نعوش الشهداء العشرة، فيما سلّم قائد الجيش عائلة كل شهيد العلم اللبناني، وألقى كلمة أعقبتها كلمة رئيس الجمهورية.


رئيس الجمهورية: الأوطان تصان بالشهادة
قال رئيس الجمهورية في مستهلّ كلمته: «إنها محطة وطنية أخرى في تاريخنا، نقف فيها بإجلال أمام جثامين شهدائنا، ننحني أمام تضحياتهم وتضحيات رفاقٍ لهم سبقوهم على دربِ الشهادة إياها، وشهداء استشهدوا في معركة أكملت مهمتهم، فحرّرت الأرض وحرّرت جثامينهم، فصانوا معًا بدمائِهم أرض الوطن، وحصّنوا أمن المجتمع ومستقبل أطفالنا والأحلام».
وأضاف الرئيس عون: «إنها محطة تمتزج فيها مشاعر الألم والحزن بمشاعر الفخر والاعتزاز والكرامة الوطنية.
شهداؤنا المسجاة جثامينهم أمامنا اليوم، وقفوا في العام 2014، على خطوط الدفاع عن لبنان، ملتزمين الواجب والمسؤولية، وقَسَم الشرف والتضحية والوفاء لجيشهم ووطنهم. واجهوا الخطر والتحدّيات بعزمٍ وإيمان، غير آبهين بما ظلّل تلك المرحلة من غموض في مواقف المسؤولين، سبّبت جراحًا في جسم الوطن، فوقعوا في يد الجماعات الإرهابية الطامعة باستباحة بلدنا كاملًا، وسقطوا شهداء أعزاء كبارًا، شرفاء، وانضمّوا إلى سجل الخالدين فداءً عن لبنان وجميع اللبنانيين.
لقد كان شهداؤنا في حياتهم مصدر فخر واعتزاز لعائلاتهم، وهم اليوم في استشهادهم أكثر حضورًا في العقول والقلوب على مساحة الوطن. إليكم يا أفراد عائلات هؤلاء الأبطال وقد رافقناكم بصبركم وإيمانكم وسهركم وآلامكم أقول، إن تعزيتكم واجب، وهي لا تكفي، بل عهدي لكم أن دماء ابنائكم أمانة لدينا حتى تحقيق الأهداف التي استُشهدوا من أجلها وجلاء كل الحقائق».
وتابع الرئيس عون: «ليست الأوطان مستحَّقة لنا إذا لم نكن مستعدّين لصونها بالشهادة وكل ما غلا في حياتنا... وجثامين شهدائكم يا أبناء الجيش، هي شهادة للعالم على ما يدفعه لبنان ثمنًا لمواجهاته الطويلة مع الإرهاب على مر السنين، ولإيمانه بأن روح الحق والاعتدال والسلام والانفتاح، أقوى من ظلمات الإرهابيين، وفكرهم المتطرف الداعي إلى العنف والإلغاء والوحشية سبيلاً لتحقيق أهدافهم الهدَّامة.
وبهذه المناسبة أقول مجددًا للبنانيين جميعًا، وفاءً لتضحيات شهدائنا، علينا تمتين وحدتنا الوطنية، ونبذ المصالح الضيّقة على حساب مصلحة الوطن والشعب، والسعي لبناء وطن عصري، منفتح، وثري بتنوّع أبنائه وغنى حضارته، تحقيقًا لأحلام شبابنا الذين كفروا بالانقسامات، والتراشق السياسي، والمشاكل المتوارثة من جيل إلى جيل».

وأعلن الرئيس عون الشهداء العسكريين العشرة شهداء ساحة الشرف، وهم المؤهل ابراهيم مغيط، الرقيب علي المصري، الرقيب مصطفى وهبي، العريف سيف ذبيان، العريف محمد يوسف، الجندي أول خالد حسن، الجندي أول حسين محمـود عمـار، الجنـدي أول علي الحاج حسن، الجنـدي أول عبـاس مِدلـج، الجنـدي أول يحـي علـي خضـر.
وختم الرئيس كلمته قائـلًا: «إنّ الأوسمة التي وضعتها على نعوشكم هي أوسمة محبة وشكر من كل اللبنانيين لتضحياتكم من أجلهم ومن أجل وطنكم. بشهادتكم تكبر الأوسمة ويكبر الوطن».

 

قائد الجيش: سنبقى مرفوعي الرأس بكم
استهلّ قائد الجيش العماد عون كلمته قائلاً: نلتقي وإياكم اليوم في هذه المناسبة المؤثّرة والمليئة بالتضحيات الجليلة لأبناء المؤسـسة العسكرية، الذين ومنذ لحظات اختطافهم على أيدي الإرهاب الغاشم، قد أعلنوا إقدامهم للدفاع عن الوطن والاستشهاد في سبيله، فكانوا عنوان معركة «فجر الجرود».
وأضاف مخاطبًا رئيس الجهمورية: «لقد كان لحضوركم شخصيًا مع ساعات الفجر الأولى إلى غرفة عمليات القيادة، بالغ الأثر في رفع معنويات الجيش، حيث تابعتم سير المعركة ميدانيًا وخاطبتم العسكريين ضباطًا وجنودًا أبطالًا في ساحة المعركة، داعمين لهم، واثقين بهم وبانتصارهم على الإرهاب، ومؤكدين للبنانيين وللعالم على الملأ أن وحدة أراضي لبنان يصونها الجيش وشهداؤه، وأن النصر على الإرهاب آتٍ لا محالة. وقد عبّر عن الموقف نفسه دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري، الذي ما كلَّ يومًا عن دعم المؤسـسة العسكرية ومؤازرتها في مختلف الظروف، وهو القائل: «الجيش دائمًا على حق». وكذلك، دولة رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد الحريري الذي بدوره زار الأراضي المستعادة وتفقَد جنودنا في الميدان، وقدّم كامل الدّعم لإنجاز المهمّات الموكلة إلينا. وما كان لعملية «فجر الجرود» أن تتحقّق لولا دعمكم جميعًا، ولولا القرار السيادي اللبناني الذي اتخذته الحكومة اللبنانية».
وتوجّه القائد إلى العسكريين الشهداء قائلًا: «فرحتنا بالانتصار على الإرهاب تبقى حزينة، فقد كنا نأمل ونعمل على تحريركم من خطف الإرهاب سالمين، لتعودوا إلى جيشكم وعائلاتكم وتشاركونا هذا الإنجاز التاريخي. إلاّ أنّ يد الإرهاب الوحشي خافت من الإيمان الراسخ بوطنكم، فَأَخْفَتْكُمْ شهداءَ أجلّاءَ تحت تراب الوطن الذي ارتوى من دمائكم الطاهرة. ففي حضرتكم أيها الشهداء يتسابق الخشوع مع الافتخار، وأمام نعوشكم يتوجب الإنحناء إجلالًا، لكننا دائمًا وأبدًا سنبقى مرفوعي الرأس بكم وبتضحياتكم، فأنتم وسام يُعَلَّقُ على صدور الضباط والرتباء والأفراد الذين خاضوا «فجر الجرود» لأنكم أول المضحِّين في هذه المعركة».
وخاطب العماد عون أبطال معركة «فجر الجرود» قائـلًا: «باسم لبنان والعسكريين المختطفين ودماء الشهداء الأبرار، وباسم أبطال جيشنا العظيم، أُطلِقَت عملية «فجر الجرود»، وتحققت أهدافها. لقد تسابقتم إلى الميدان بإرادة قتالٍ لا تُقْهَرْ، فكانت حرفيَّتكم وبسالتكم وبطولتكم، وكنتم تلك القوّة التي صنعت الانتصار واستعادت الأرض.
إلاّ أنه وعلى الرغم من أهمية هذا الإنجاز التاريخي، لن ننسى ولن يسهى عن بالنا وجود خلايا الإرهاب السرطانية النائمة، التي قد تسعى إلى الانتقام لهزيمتها وطردها بمختلف الأساليب وفي مقدّمها أسلوب الذئاب المنفردة، وهذا يتطلب منّا البقاء متيقظين وحاضرين للتصدي لها وللقضاء عليها».
وتوجّه القائد إلى عائلات الشهداء، فقال: «إن أبناءكم الشهداء شركاء أساسيون في صنع الانتصار والفخر، إنهم أيقونة التحرير ودحر الإرهاب. والفخر أنهم سكنوا قلوب اللبنانيين جميعًا، فبتـضحيــاتهـــــم خضنا «فجر الجرود»، وتوحّد اللبنانيون حول الجيش وقدسية مهمته، فكانت معركة شريفة ونظيفة وبطولية، نبراسها تضحيات أبنائكم الشهداء. سنوات الانتظار والأمل بعودة أبنائكم، كانت ثقيلة وقاسية عليكم، لكنكم لم تفقدوا لحظة ثقتكم بالمؤسـسة العسكرية، وإيمانكم بالوطن الذي تهون في سبيله أغلى التضحيات».
وختم قائد الجيش كلمته متوجّهًا إلى الحضور بالقول: «على الرغم من هذا الانتصار، لا تزال أمامنا تضحيات كبرى لا تقلّ أهمية عن دحرنا للإرهاب، فالجيش سينتشر من الآن وصاعدًا على امتداد الحدود الشرقية للدفاع عنها. ويجب أن لا ننسى الإرهاب الأساسي والأهم الذي يتربَّص بحدود جنوبنا العزيز، ألا وهو العدوّ الإسرائيلي، إذ علينا الدفاع عن هذا التراب الغالي وحمايته، حيث لا يمكن أن نكون حرّاس حدود للعدوّْ الغاصب، ترفدنا في ذلك عزيمة لا تلين ولا تضعف، مدعومة من أركان الدولة، وفي مقدّمهم فخامة رئيس البلاد، ومدعومة أيضًا من الشعب اللبناني الذي ما كلَّ يومًا عن ممارسة حقه في مقاومة الإحتلال الإسرائيلي، والالتفاف حول الجيش ودعمه. وفي هذا الإطار نؤكّد التزامنا التام القرار 1701 وجميع مندرجاته، والتعاون الأقصى مع القوات الدولية للحفاظ على استقرار الحدود الجنوبية».
ومن على منبر الشهادة والإنتصار، أكد، «أن ردّ الجيش مستقبلًا سيكون هو نفسه على كل من يحاول العبث بالأمن والتطاول على السيادة الوطنية أو التعرّض للسلّم الأهلي وإرادة العيش المشترك. والجيش سيكون على مسافة واحدة من مختلف الأطياف والفرقاء وفي جميع الاستحقاقات الدستورية، وسيكون في أعلى درجات الجهوزية للدفاع عن وطننا الغالي. ودعمكم لنا يا فخامة الرئيس قد أرسى هذه القاعدة».
وختم قائلًا: «أخلص مشاعر التعزية والمواساة لكم والتضامن معكم أيها الأهل الأعزاء، و ثِقُوا بأن حجم تعاطفنا معكم واعتزازنا بكم، هو بحجم صبركم وتضحيات أبنائكم، فأنتم قدوة أهل هذه الأرض، وأبناؤكم عظماء مؤســسة الشرف والتضحية والوفاء».
في نهاية الاحتفال، توجّه الرئيس عون نحو أهالي الشهداء وقدّم لهم التعازي، وكذلك فعل الرئيسان بري والحريري ووزير الدفاع وقائد الجيش... وجرت مراسم تنكيس العلم حدادًا على أرواح الشهداء.

 

مغادرة الجثامين
غادرت الجثامين ساحة العلم على وقع مراسم التكريم ذاتها وسلكت طريقها إلى ساحة رياض الصلح، إلى الخيمة الشاهدة على وجع انتظار ذويهم وخيباتهم وآمالهم الضائعة بين الشك واليقين. هناك كان في انتظارهم حشد من اللبنانيين الذين نثروا عليهم الأرزّ والورد، عربون شكر وامتنان وإكبار لتضحياتهم.
ثم شقّت مواكب الجثامين الطرق كل إلى مسقط رأسه. وفي البلدات اللبنانية التي لفّها السواد والحزن، كما الفخر والكرامة الوطنية، لاقاهم اللبنانيون بكل ما يليق بهم من إكبار وتكريم.