موضوع الغلاف

قيادة الجيش: شهداؤنا فخرنا واعتزازنا ودماؤهم حياة للوطن
إعداد: باسكال م . بو مارون


القاضي جان فهد: ختمنا الملف بنتائج قاطعة
الدكتور مكربنه: عملنا موثوق مئة في المئة
قضية بحجم الوطن ضجَّت بالكثير من المآسي والآلام. موضوع إنساني بالغ الأثر زخر بمعاني التضحية والشهادة والبطولة. تعانق شرف الشهادة وعظيم التضحية مع بهاء الوفاء. قيادة الجيش قاربت هذه القضية بكل حكمة وصمت ودقة احتراماً لأرواح الشهداء، وكرامة الانسان. ونجحت بفضل المعالجة الدؤوبة والعالية الحرفة، في جعل ملف رفات العسكريين الشهداء مفتوحاً بكل شفافية أمام الوطن والعالم.
مجلة «الجيش» تابعت في هذا الملف تفاصيل قضية العسكريين الذين واراهم ثرى مدافن الشهداء العسكريين في وزارة الدفاع الوطني، فالتقت المعنيين وواكبت آلية العمل والمراحل التي قطعها وصولاً الى النتائج الأكيدة.

 

لجنة مختصة للمتابعة

 في الثالث عشر من تشرين الأول 2005 وبناءً  على قرار قائد الجيش العماد ميشال سليمان، تشكّلت لجنة ضمّت كبار الضباط من مختلف المجالات القانونية واللوجستية والطبية، مهمتها وضع خطة عمل تقضي بإخراج رفات العسكريين لإجراء فحص الحمض النووي (DNA) وتحديد هوية كل منهم وتسليمهم الى ذويهم.
وقد أرسل العماد سليمان مذكّرة بهذا الخصوص الى رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة الذي أوعز بدوره الى الهيئة العليا للإغاثة لتغطي تكاليف هذا المشروع كلها.
وفي التاسع والعشرين من تشرين الأول، تشكّلت لجنة باشراف مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي جان فهد للمباشرة بعملية البحث وإجراء الفحوصات المخبرية للحمض النووي والتعرّف على هوية الرفات.
اللجنة التي ترأسها العميد الركن نبيل قرعه، رئيس هيئة شؤون أوضاع المدنيين في الجيش، ضمّت ثمانية ضباط من قطع مختلفة في الجيش لها دورها الفاعل والأساس في عملية كشف مكنونات هذا الملف بكل تفاصيله.

 

عمل اللجنة وتطوّرات القضية

 عن اللجنة وعملها وتطور هذه القضية تحدّث العميد الركن قرعه الى «الجيش» فقال:
اجتمعت اللجنة بتواريخ مختلفة واتخذت سلسلة إجراءات، بدأت على أثرها عمليات الحفر في البقعة المحدّدة في محيط وزارة الدفاع. وقد نُفِّذ العمل بدقة وحذر إحتراماً لحرمة الموت، وحفاظاً على سلامة الجثث المتوقع إيجادها.
في اليوم الأول، أي في الثامن من تشرين الثاني 2005، لم يتم العثور على أي رفات بسبب بطء العمل والتأني الكبير في تنفيذه. وقد رُفعت فوق الحفرة خيمة ضخمة صُنعت من سقالات عالية احتراماً للموقع وهيبته، وحرصاً على عدم تركه مكشوفاً أمام الفضوليين ووسائل الإعلام.
 

وأضاف قائلاً:
تمّ العمل تحت إشراف مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي جان فهد وحضوره الشخصي عدة مرات، وبمواكبة من الدفاع المدني، والشرطة العسكرية، والمستشفى العسكري، وفوج الهندسة، وفوج الأشغال...
وكانت المجموعات التي تولّت الحفر تتبدّل باستمرار تسريعاً لوتيرة العمل. وفي اليوم الثاني عُثر على أولى الجثث المدفونة على عمق حوالى ثلاثة أمتار. وبعد ذلك، توالى اكتشاف الجثث الموضوعة في أكياس سوداء داخل صناديق خشبية سُمِّرت أغطيتها ليبلغ عددها عشرين جثة.
عند ظهور الجثث، ارتدى العناصر العاملون على الموقع ملابس خاصة وعازلة شملت القفازات والأحذية وأغطية الرأس والكمامات. ثم أخذت صور فوتوغرافية للجثث في أمكنتها، ورقمت ودونت ملاحظات عن كل منها من قبل الشرطة العسكرية والأدلة الجنائية.
بعد ذلك، تمّ نقل الرفات الى منصة خاصة أتاحت للطبيب الشرعي معاينتها وأخذ العيّنات منها لإجراء فحص الحمض النووي، الذي تمّ في مختبر علم الوراثة التابع لكلية الطب في الجامعة اليسوعية.
والجدير ذكره أن الرفات وجد في معظمه في حال جيدة. فغالبية الجثث كانت في بزاتها العسكرية، كما عثر في جيوب بعضها على مفاتيح وأوراق نقدية لبنانية وأميركية، وفي جيب إحداها على مسبحة صلاة، وفي أخرى مجسّم صغير لقلعة بعلبك.

 

في المختبر

 بعد عملية رفع العيّنات، يتابع العميد الركن قرعة، بدأت مهمة المختبر الذي شرع في عملية فحص دقيق للحمض النووي في العيّنات المرفوعة من الجثث العشرين تباعاً. في غضون ذلك قصدت الشرطة العسكرية عائلات العسكريين المفقودين في الثالث عشر من تشرين الأول 1990، ودعتهم الى التوجّه إلى المختبر المذكور على دفعات وفي تواريخ محدّدة اعتباراً من الخامس عشر من تشرين الثاني، من أجل إخضاعها لفحص الحمض النووي. وقد وسعنا في ما بعد نطاق البحث ليشمل عائلات العسكريين المفقودين في ظروف غامضة منذ العام 1973، فبلغ مجموع المتقدمين الى المختبر خمساً وثمانين عائلة بالإضافة إلى عائلة الراهب الأنطوني سليمان أبي خليل. وهدفنا من هذا الإجراء مطابقة نتائج الفحص المذكور آنفاً على أي رفات يعثر عليه مستقبلاً في أي منطقة من لبنان.
هذا مع الإشارة إلى أن قيادة الجيش أكّدت ان «الأمر (فحص الحمض النووي) ليس إجبارياً، ولن نرغم أحداً على القيام بما ليس مقتنعاً به. نتفّهم مشاعرهم، انما ينبغي أن تكون ثقتهم بقيادة الجيش كبيرة، هي التي أبدت دوماً كل تجاوب معهم، وفتحت هذا الملف الشائك، وأمّنت له كل التغطية المادية والمعنوية والسياسية. وفي كل الأحوال، العسكريون هم أبناؤنا، ونبذل كل ما في وسعنا لايجاد الحلول المناسبة ونعمل ما يمليه علينا ضميرنا».
ويوضح العميد الركن قرعة، انه في مختبر علم الوراثة بدأ العمل على فحص الحمض النووي في مقارنة مُعمقة ودقيقة لتأكيد هويات الجثث العشرين. واستغرق العمل العلمي الجبّار من حيث الجهد والدقة والاحتراف حوالى ثلاثة أشهر، قورن خلالها الحمض النووي لكل جثة مع ذلك العائد لخمسة وثمانين فرداً من العائلات المتطوّعة. وتعتبر هذه المدة قياسية حتى بالنسبة الى مختبر عالمي. علماً أنه في بعض الحالات أعيد الفحص عدة مرات لمزيد من التأكد، وقد غطّت اللجنة العليا للإغاثة وقيادة الجيش الكلفة العالية لهذه الفحوصات.
أكّدت نتائج الفحوصات هوية عشرة عسكريين، سبعة منهم سقطوا في معارك 13 تشرين الأول 1990، والثلاثة الآخرون استشهدوا في معارك الشحّار الغربي العام 1984.  ويستمر المختبر في إجراء فحوص مطابقة معمّقة واكثر دقة (Chromosoney DNA)  لثلاثة رفات إجلاءً لهويتها، في حين تعذّر التعرف على هوية سبع جثث ربما هي لعسكريين لم تتقدّم عائلاتهم للخضوع لفحص الحمض النووي أو لمدنيين اضطروا أن يرتدوا البزة العسكرية بسبب الوضع الصعب آنذاك.

 

صدور النتائج الرسمية وإبلاغ الأهالي

 عقب صدور النتائج، التأم أعضاء اللجنة في اجتماع ترأسه قائد الجيش العماد سليمان وحضره أركان القيادة والقاضي جان فهد. وتمّ خلاله الاطلاع على التقارير الطبية الصادرة عن المختبر والطبيب الشرعي، ومحاضر الشرطة العسكرية. وبعد عملية تقييم بالغة الدقة لكامل الملف والموافقة على محتواه، اتخذ القرار بتبليغ الأهالي المعنيين النتائج الرسمية. فتوجّه ضباط من اللجنة وعلى رأسهم العميد الركن قرعة الى منازل هؤلاء في مختلف المناطق اللبنانية (بيروت، البقاع، عكار، جبيل).
وفي هذا الصدد يقول العميد الركن قرعة: كان الوضع اليماً وصعباً ومأسوياً. كانت العائلات على علم بالأمر وانما لم تستطع تقبّل الأمر. لقد كان العيش على الأمل، ولو كان وهماً، أسهل عليها من تقبّل الحقيقة المرة. وحرصنا بدورنا على إبراز المستندات والأوراق الرسمية الممهورة بأختام المختبر والطبيب الشرعي والمحققة صدق النبأ المؤسف والحزين، الذي حملناه الى الأهالي بكل رهافة شعور وقلق انساني وعمق مواساة تخفيفاً لوقع صدمة طالما حاولوا الهروب من حقيقتها. وهكذا خلال أيام ثلاثة، كانت دهراً بالنسبة الينا، أنجزنا زيارات العائلات العشر مؤكدين لها وقوفنا الى جانبها مواسين وداعمين ومرافقين، ووضعناها في أجواء مراسم التكريم العسكرية والرسمية التي ستقام للشهداء أمام المستشفى العسكري المركزي في بدارو، وحيث ستتسلّم كذلك كل عائلة، مع رفات شهيدها، تقريراً عن فحص الحمض النووي يساعدها في إتمام معاملات الوفاة الرسمية منذ تاريخ الاستشهاد.
أما الرفات الذي لم يتم التعرّف على هوية صاحبه، فقد اتخذ القرار بإعادته الى المدافن الخاصة بالشهداء في محيط وزارة الدفاع الوطني بعد إعطائه رقماً، على أن تحفظ التقارير الطبية ونتائج الفحوص المخبرية في أرشيف قيادة الجيش للعودة اليها عند الضرورة في مراحل لاحقة.
وأصدرت قيادة الجيش بياناً أعلنت فيه رسمياً أسماء الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الوطن، إضافة الى أسماء العائلات التي رفضت الخضوع لفحوص الحمض النووي، كي لا تتحمل في ما بعد أي مسؤولية انسانية وضميرية أو حتى قانونية وتنظيمية في هذه المسألة.

 

القاضي جان فهد: ختمنا الملف ونحن واثقون بأن النتائج قاطعة

 القاضي جان فهد، مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، الذي أشرف على موضوع الرفات برمته، تناول القضيّة من جانبها القانوني، فقال:
لقد تمّت عملية التعرّف على هويات الجثث بإشراف النيابة العامة العسكرية. ومنذ اللحظة الأولى تولّت الشرطة العسكرية توثيق العملية وتنظيم محضر تحقيق واكب الخطوات التنفيذية كافة، وذلك بناءً على التوجيهات والإرشادات التي كنت أزودها إياها شخصياً، ومنها الاستماع الى الشهود المدنيين والعسكريين، وعناصر الصليب الأحمر اللبناني، ومراجعة محفوظات الشرطة العسكرية، وأرشيف الصحف، وعلى ضوء كل هذا، المباشرة بأعمال النبش مع توخي أكبر قدر من الدقة والحذر،  وتوفير الحماية لبقعة العمل، والاستعانة بطبيب شرعي لمواكبة الأعمال، والكشف على الجثث وتنظيم التقارير الطبية.
وفي غضون كل ذلك، واكبتُ مراحل المهمة كلها فقصدت عدة مرات موقع النبش والتقيت الأشخاص المولجين بالأعمال، وكشفت على جثث الشهداء واستمعت الى رأي الطبيب الشرعي، واجتمعت بضباط اللجنة كلهم. كما اطلعت على محاضر الشرطة العسكرية، والتقيت أطباء مختبر علم الوراثة في الجامعة اليسوعية.
 

ويضيف القاضي فهد قائلاً:
بعد ذلك، أعطيت الإشارة بتكليف خبير اختصاصي في الحمض النووي (DNA) لأخذ العيّنات من الجثث ومن أهالي العسكريين المفقودين، وأيضاً بتكليف الأدلة الجنائية في الشرطة بعملية توثيق المهام كلها بواسطة الصور الفوتوغرافية والفيديو وتكوين المشاهدات.
وبالفعل، نفذت هذه الأعمال بالدقة المطلوبة وأرسلت العيّنات المأخوذة من الرفات الى مختبرات كلية الطب في الجامعة اليسوعية حيث خضعت للفحوصات اللازمة.
وأكّد القاضي فهد، انه لم يتم الإعلان إلا عن الحالات التي عرفت تطابقاً تاماً بين الحمض النووي العائد للجثث وذلك العائد للأهل، وهذه الجثث هي التي سُلِّمت الى ذويها.
والجدير ذكره اني أعطيت الأمر بالسماح لأهالي الشهداء وأصحاب العلاقة بالاطلاع على ملف الشرطة العسكرية أو بالحصول على نسخة منه.
من ناحية ثانية، شاءت إحدى العائلات أن تعيد فحص الحمض النووي في مختبرات وعند أطباء اختارتهم بنفسها، فكان لها ما أرادت جواباً على طلب خطي تقدمت به قبل إقفال المحضر. فهمُّنا الأول والأخير كان طمأنة الأهالي الى النتائج التي شئناها واضحة وشفافة وأكيدة مئة بالمئة.
وأشار القاضي فهد الى أن إشراف القضاء ضروري لإثبات الوفاة الفعلية للشهداء الذين كانوا قبلاً بحكم المفقودين، وكانت ترعى حالتهم النصوص القانونية المطبّقة على المفقودين، أما الآن فقد باتوا متوفين، ووفاتهم الحقيقية مثبتة بالتاريخ الذي استشهدوا فيه، وأدرجت اسماؤهم على لائحة شهداء الجيش اللبناني.
وختم القاضي فهد قائلاً: «هذا ملف ختمناه ونحن واثقون بشكل قاطع من نتائجه، وسنستمر بالعمل حثيثاً على أمل التعرّف على هويات الجثث المتبقية».

 

الشرطة العسكرية: ملف حساس وصعب

 المهمة التي كلفت بها الشرطة العسكرية، حدثنا عنها العميد الركن نبيل غفري قائد الشرطة العسكرية، موضحاً بداية أن الملف هو من أصعب الملفات وأدقها التي كلفنا بها. ومن اللحظة الأولى أدركنا حجم الدقة المطلوبة، لأن الموضوع لا يحتمل الخطأ حتى بنسبة واحد بالمليون، وينبغي أن تكون النتيجة فيه واضحة مئة بالمئة، ولا يمكن خصوصاً مقاربته بالاستنتاج كما هو الحال عادة في الملفات الأخرى. من هنا أدركنا حجم الصعوبة، خصوصاً وأنه، في نتيجة الأمر، كنا على علم بأنه من الممكن التوصل الى حقائق مؤلمة بالنسبة الى ذوي هؤلاء الشهداء الذين كانوا يعيشون على أمل عودة أولادهم ذات يوم الى أحضانهم سالمين معافين. وهذه النتيجة المتوقعة منذ البدء حضَّتنا على مقاربة الموضوع  بكثير من الحذر والمهابة والاحترام والوقار، وفي الوقت عينه على التحلي بوافر الجرأة في إعلان النتيجة العلمية. وهذه كانت على الدوام توجيهات قائد الجيش التي طبقناها بحذافيرها.
وعن دور الشرطة العسكرية في هذا الملف قال:
لقد كلفت الشرطة العسكرية بمهام دقيقة وشاملة في هذا الملف. أولاها كان تعيين ضابط محقق (هو رئيس قسم الأدلة الجنائية في الشرطة العسكرية) عضواً في اللجنة نظراً الى أهمية الموضوع، وأفضل محققي الشرطة كتّاباً عدليين.
وقضت المهمة الثانية بقيام عناصر الشرطة بعزل بقعة النبش تماماً، ومنع أي شخص غير مصرّح له من الدخول اليها خلال أوقات النبش، وحظر الدخول على أي كان خارج أوقات العمل.
أما مهمة الشرطة الثالثة، فكانت مواكبة عملية النبش بشكل محترف من قبل قسم الأدلة الجنائية، بالإضافة إلى بعض الوحدات المختصّة، من خلال توثيق مكتوب ومصوّر لتفاصيل العمل كله من بدايته وحتى الفراغ منه.
واقتصرت المهمة الأخيرة على مشاركة الشرطة العسكرية في الاحتفال التكريمي للشهداء، وقد حرصت الشرطة وفقاً لتوجيهات قيادة الجيش وإصرارها، على أن يكون الاحتفال مهيباً، يقارب حجم الحدث.
وعن التحقيق قال: تمّت مراعاة أمور أساسية في التحقيق، وهي:

 

أولاً: كان التحقيق تحت إشراف القضاء المختص المتمثّل بالنيابة العامة العسكرية بشخص مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي جان فهد. فأتت خطوات التحقيق كافة بعد مراجعة القضاء وتحت اشرافه.

 

ثانياً: كان الأهم بالنسبة إلينا هو الحفاظ على سرية التحقيق، بحيث لا يتم تسريب أي معلومة الى وسائل الإعلام قبل التأكد من صحتها مئة بالمئة.

 

ثالثاً: كان الحرص كبيراً على الدقة في توثيق الإجراءات والمشاهدات كافة من ألفها إلى يائها، لكي يغدو الملف عند وصوله الى النيابة العامة العسكرية مستنَداً يطلع عليه من يرغب من المعنيين، فيكوّن قناعات لا يدانيها الشك.

 

رابعاً: تم تدوين الافادات والتقارير الصحافية والتحقيقات السابقة المتوافرة كلها، والمذكرات الصادرة عن قيادة الجيش، بالإضافة الى الاستخدام الواسع لأي دليل حسي يمكن الوصول اليه في أماكن الجريمة، حسب إفادة الشهود أو في المدفن حيث تم مواراة هذه الجثث. ومن هذه الأدلة الهامة: مقاييس الرفات التي استخدمت فيها المعايير الدولية، وجود بعض آثار ألبسة
عسكرية.. وغيرها تم توثيقها وتصويرها والاشارة اليها في الملف.

 

خامساً: ابلاغ أهالي المفقودين بكل هدوء ووقار واحترام بضرورة اجراء فحص الحمض النووي (DNA)، ومنحهم الوقت الكافي للتفكير بالأمر واتخاذ القرار المناسب، لأن الموضوع يتطلب قناعة شخصية سيعول عليها لاحقاً.

 

سادساً: منح ذوي الشهداء حق التأكد من النتائج التي توصّل اليها التحقيق بالطرق التي يجدونها مناسبة، وتسجيل هذا الحق لدى القضاء المختص، وقد تم ذلك لمن رغب.

 

أما آخر الأمور الأساسية التي ركّزنا عليها، فتمثّل بضرورة إعلان النتائج استناداً الى الدلائل العلمية البحتة والتي توصل العلم الى إثباتها بنسبة مئة بالمئة، وبعدم الخوض في أي استنتاجات حتى ولو كانت نسبة صحتها مرتفعة وابقاء هذا الموضوع في اطاره العلمي وحسب.
وعما إذا كان سبق للشرطة العسكرية أن اضطلعت بدور مشابه في موضوع مماثل؟ قال: ان الشرطة العسكرية هي السلطة المخوّلة التعامل مع مواضيع كهذه، بيد أنها وللمرة الأولى تقوم بمهمة على هذا القدر من الحساسية والأهمية والدقة، واستطاعت، عن حق، تنفيذها باحتراف وتقنية عاليين ما جعلها محط اعجاب القيّمين وتقديرهم.
وختم العميد الركن غفري حديثه قائلاً: إن هذا الموضوع، ووفقاً لتوجيهات القيادة مستمر، إلا أن المحضر قد ختم وأودع النيابة العامة العسكرية وقيادة الجيش. وسيتم فتح محضر جديد بأي معلومات جديدة عند توافرها وسيستمر العمل حتى النهاية.

 

قسم الأدلة الجنائية

المقدم نبيل عبدالله رئيس قسم الأدلة الجنائية في الشرطة العسكرية تحدّث عن المهمة التي كلف بها القسم في هذا الملف فقال: التحقيق بمعناه العام يعني اتخاذ الاجراءات والوسائل المشروعة كافة التي تؤدي الى كشف الحقيقة. أما التحقيق الجنائي الفني، فهو استخدام الوسائل العلمية والفنية التي تساعد المحقق على كشف معالم الجريمة وايضاحها وإنارة التحقيق من جوانبه كافة، من خلال جمع الأدلة التي تثبت وقوع الجريمة وكيفية حدوثها.
أما عن كيفية استخدام التحقيق الجنائي الفني في الكشف عن جثث العسكريين، فأوضح المقدم عبدالله: مع بداية عملية النبش وظهور الجثث، بدأ عمل الأدلة الجنائية التي سارع عناصرها الى توثيق عملية استخراج الرفات في محضر تحقيق عدلي سطّره ضابط قائد عدلي من الشرطة العسكرية، ومن خلال تصوير مراحل العمل كافة وتوثيقها. فكانت كل جثة تنبش تفحص بدقة كما الأغراض كلها التي تحملها أو تظهر معها. وتوثق كل هذه الدلائل في السجلات، وتصوّر وتعطى الجثة وأشياؤها الرقم نفسه لتؤلف ملفاً كاملاً. وما يجدر ذكره أنه لم يظهر على أي جثة أي اثبات لهويتها كبطاقة هوية أو أي غرض آخر. كما واكبت الأدلة الجنائية مرحلة أخذ العيّنات اللازمة لفحص الحمض النووي من كل جثة، وقد حملت هذه العينات رقم الجثة نفسه.
وأضاف المقدم عبدالله قائلاً: على عكس عملنا المعتاد كأدلة جنائية على مسرح جريمة نحاول إيجاد دلائل مادية ذات علاقة بالجريمة المرتكبة، بيد أننا في هذا الملف كنّا أمام حدث من نوع آخر تعاملنا معه نوعاً ما بالطريقة نفسها علماً أننا سخّرنا معرفتنا العلمية لإدارة وتوجيه قسم الأدلة الجنائية نحو هدف جديد يخدم هذه القضية الانسانية. لقد كان عملنا احترافياً جداً ولا يقل مستوى عن أي بلد متقدم.

 

الدكتور مكربنه: عملنا صادق وأكيد مئة بالمئة

لمتابعة الملف بكل تفاصيله التقت مجلة «الجيش» الدكتور اندره مكربنه، الاختصاصي في الأمراض الوراثية، الذي تسلّم مهمة فحص الحمض النووي على رأس فريق طبي يتألف من الدكتورة إليان شويري خوري، والآنسة نادين جلخ، وأجرت معه حديثاً شرح خلاله ماهية هذا الفحص، وآلية العمل التي اتبعت للحصول على أفضل النتائج، وقد قال:
الحمض النووي مؤلف من ثلاثة مليارات حرف موجودة في نواة كل خلية، وهو يمثل الخريطة الجينية لكل شخص والتي تحدّد شكله الخارجي ومواصفاته الخاصة كافة. وفي نواة الخلية هناك الكروموزومات التي تحمل الجينات المكوّنة من الأحرف التي تؤلف الحمض النووي. وهذا الأخير يختلف ويتشابه بين شخص وآخر، إلاَّ أن ثمة أحرفاً فيه تكون خاصة بشخص محدد ولا يتشابه بها مع أي شخص آخر، لذلك تسمى البصمة الجينية.
يأتي نصف الكروموزومات الخاصة بكل شخص من والده والنصف الآخر من والدته، فيمتلك عندها خريطة جينية خاصة به تميّزه عن أهله مع وجود شبه، لكنها لا تتطابق مع الخرائط الجينية الخاصة بإخوته لأن الأحرف الجينية تتراصف وتتكوّن مع كل إنسان بطريقة مختلفة ومميزة وخاصة. وفي حالة الفحوصات على رفات العسكريين اعتمدنا الحمض النووي (DNA) المستخرج من أي سائل أو إفرازات تخرج من الجسم (دماء، عرق، لعاب، بول،...) ومن الأنسجة المكوّنة لأعضاء الجسم كافة (جلد، لحم، شعر، عظم،...).
وعند سؤاله عن التقنية المتبعة لإجراء فحص الحمض النووي أجاب الدكتور مكربنه:
هناك طريقتان لفحص الحمض النووي الموجود في مكانين مختلفين من الخلية: في نواتها (nucléaire)، وفي ما يسمى الميتوكوندريا (Mitochondrie). وقد اعتمدنا تقنية فحص الأخيرة أي بواسطة الميتوكوندريا، أولاً: لأن في حالة الجثث القديمة يسهل استخراج الحمض النووي المتأتي من الميتوكوندريا، إذ يمكن الوصول اليه بواسطة العظام مهما كانت حالتها، أكثر من الحمض الموجود في النواة. وثانياً، لأن الحمض النووي من الميتوكوندريا يصل الى الإبن عن طريق الأم وحسب، وهذه الميزة الأساسية تنتقل من الأم الى أولادها كافة فيسهل مقارنة هذا الحمض مع مثيله لدى الأم. وثالثاً لأن مقارنة هذين الحمضين (الأم والإبن) لا تحتمل الخطأ أبداً بل تأتي نتائجها واضحة بشكل أكيد لا مجال للشك فيه أبداً.

 

- كيف جرت عملية مقارنة الحمض النووي بين الأهالي والرفات؟
- لقد أخذنا عينات من كل جثة تم إستخراجها، وباشرنا العمل عليها في المختبر، في حين بدأ يقصدنا أفراد من عائلات العسكريين المفقودين لنأخذ منهم عيّنات من الدم. وعمدنا بعدها الى مقارنة كل حمض نووي لجثة مع حمض كل فرد من العائلات التي زارتنا وبلغ عددها 58 عائلة. وكلما اكتشفنا تشابهاً بالخريطة الجينية كنا نعمّق البحث اكثر حتى نتأكد من مطابقة الحمضين النووين مئة بالمئة، على الرغم من الوقت والتكاليف التي نتكبدها كلما أعدنا إجراء الفحص، ذلك ان همّنا الأكبر أن تكون النتيجة دقيقة وصحيحة مئة بالمئة مهما صعبت أمامنا السبل للوصول اليها. كان الهدف الذي نعمل لأجله يتطلب تسخير مهاراتنا وجهودنا كافة الى أقصى الحدود.

 

- كيف كانت الأجواء التي عملتم في ظلها؟
- لقد كان الوضع حساساً ودقيقاً جداً. وهو امتحان كبير لصدقيتنا ومهنيتنا واحترافنا، وكنا على مستوى المطلوب منا. فالنتائج التي قدمناها تطلبت إقفال مختبرنا أمام أي طلبات أخرى لمدة ثلاثة أشهر، انكببنا خلالها على العمل أنا والفريق بكامله بحيث بات موضوع الرفات شغلنا الشاغل وتحدياً لنا كعلميين نحقق من خلاله إنجازاً هدفه خدمة أبناء هذا الوطن.
وعلى الرغم من تأكيدنا الكلي والتام على صدقية هذه الفحوصات ونتائجها بنسبة مئة بالمئة، فإننا ولمزيد من الشفافية قارنا دراساتنا العلمية على هذه الجثث مع إضبارات العسكريين الذين ثبتت هويتهم بعد مقارنتهم بفحوصات ذويهم. فوجدنا أن دراسة كل جثة من حيث الطول والعمر تؤكد بشكل جازم هوية هذا العسكري ومطابقة معلومات إضبارته مع شكل جثته وحالتها. وهكذا تأكدنا اكثر فأكثر من صحة نتائج فحوصات الحمض النووي.

 

- ماذا عن الجهد والوقت والتكاليف التي استهلكتها هذه الفحوصات؟
- تتطلب نتيجة فحوصات الحمض النووي من النواة حوالى أربع وعشرين ساعة. أما في حال تقنية الميتوكوندريا فذلك يتطلب وقتاً أطول وجهداً أكثر، بيد أن النتيجة تكون قاطعة. وقد قدمنا هذا العمل كله بوقت قياسي حتى بالنسبة الى المختبرات العالمية، وتبلغ كلفة الفحص الأول حوالى 250 دولاراً، فيما فحص الميتوكوندريا تصل كلفته الى 003 دولار.
أما عن مستوى المختبر فأكد الدكتور مكربنه انه بمستوى المختبرات العالمية كونه يضم أحدث الآلات والأجهزة العالية التقنية. حتى اننا أصبحنا مرجعاً في هذا المجال اذ اننا ندرّب الكثير من طلاب العلم من مختلف بلدان الشرق الأوسط في مختبرنا. وبما أن مستوى نتائجنا لا يختلف عن مستوى نتائج المختبرات الأوروبية والأميركية، فإننا ندرس اليوم طلباً من جامعة ليل الفرنسية لتوقيع اتفاق معها يقضي بارسالها عيّنات للدراسة بهدف إجراء التشخيص للأمراض الوراثية.
وختم الدكتور مكربنه قائلاً: أنا واثق من هذه النتائج مئة بالمئة وأضع صدقيتي على المحك، وأتحدى أياً كان أن يثبت أي خطأ فيها مهما كان بسيطاً.

 

الطب الشرعي

 دور الطب الشرعي في هذا الملف حدثنا عنه الطبيب الشرعي الدكتور حسين شحرور الذي قال:
في الحادي عشر من تشرين الثاني 2005 تم استدعائي من قبل اللجنة المسؤولة، الى محيط وزارة الدفاع حيث بدأت عملية نبش جثث العسكريين المدفونين.
كانت مهمتي كطبيب شرعي، معاينة وضعية الجثة وحالتها قبل نقلها، ومن ثم معاينتها في المنصة الخاصة قرب موقع الحفر وفقاً لمعايير المعاينة الطبية الشرعية والتي كانت تتمحور حول عدة نقاط أهمها:
- هل الجثة مكتملة؟
- تحديد درجة التحلل والتعفن.
- تحديد وجود الإصابات القاتلة ومواضعها.
- وجود ملابس، نوعيتها وتمزقاتها، وتبدل قماشها.
- البحث عن أفضل ناحية نسيجية في الجثة لأخذ مجموعة عينات منها لإرسالها الى المختبر لإجراء فحص الحمض النووي عليها (شعر، عظام، أسنان...).
- أخذ قياسات العظام الطويلة إذا توافرت في الجثة لتحديد طول كل جثة على حدة، ومقارنتها بالسجلات الرسمية من اضبارات عسكرية وغيرها..
والجدير ذكره أن الفحوصات الطبية الشرعية أثبتت أن الجثث المستخرجة تعود الى حقبتين مختلفتين، الأولى في التسعينات والأخرى في الثمانينات. وقد تأكدنا من هذه التواريخ من شكل الجثة وما لحق بها من تعفّن وتحلّل، وما بقي عليها من عوالق نسيجية، وتمت مقارنتها مع سجلات وزارة الدفاع لتأكيد صحة هذه التقارير.
وختم قائلاً: كنت طوال فترة عملي في هذه القضية أعاين وأدون ملاحظاتي والتقط صوراً فوتوغرافية لكل شاردة وواردة. وقد نزلت الى الحفرة مراراً لمعاينة الجثث في مواضعها، وكنت أعطي توجيهات للعسكريين العاملين، حول كيفية نقل الجثة من مكانها الى المنصة بالشكل الصحيح لئلا يضيع دليل أو يطرأ تغيير على الجثة.

 

مراسم تكريم الشهداء

أمام المستشفى العسكري المركزي في بدارو كان الصمت سيّد الموقف، حيث كان أهالي الشهداء العشرة متشحين بالسواد يقفون خاشعين أمام رهبة الموت، حاضنين صور شهدائهم لصيقة بقلوبهم.
بدأت مراسم التكريم بحضور وفد قيادة الجيش برئاسة نائب رئيس أركان الجيش للعديد العميد الركن حسين حجار ممثلاً العماد ميشال سليمان قائد الجيش، وأدت سرية من الجيش التحية تكريماً لأرواح الشهداء.
ثم عزفت ثلة من موسيقى الجيش نشيدي الشهداء والموتى، تقدمت على وقعها نعوش الشهداء العشرة وقد لفّها العلم اللبناني، وحملها عسكريون من الشرطة العسكرية، وتقدم كل منها حملة الأكاليل والأوسمة.
وفي أثناء مرور النعوش، أدّى الضباط التحية، فيما قدّمت سرية التشريفات السلاح تحية للشهداء، بينما كان الأهالي يلوّحون بالمناديل السوداء، وينثرون الأرز على النعوش. وعند انتهاء المراسم أنزلت النعوش، كل نعش في سيارة الموتى المخصصة لنقله الى مثواه الأخير في تراب قريته أو بلدته أو مدينته، وذلك وسط تصفيق الحشود المردّدة النشيد الوطني وشعارات «لبّيك لبنان» و«لمجد لبنان» وهتافات أخرى.
وفي قرى الشهداء وبلداتهم، كان بانتظار كل رفات فصيلة بامرة ضابط أدت مراسم التكريم عند إدخال النعش الى الكنيسة، ومن بعدها الى المدفن، كما ألقى ممثلو العماد قائد الجيش كلمات تأبين تناولت سيرة كل من الشهداء العشرة والاشادة بمناقبيتهم وعطاءاتهم ودورهم البطولي في الدفاع عن تراب الوطن وسيادته واستقلاله.
كما قدم لذوي كل شهيد درع باسم العماد قائد الجيش مع العلم اللبناني في علبة خاصة حملت شعار الجيش: شرف، تضحية، وفاء...

تصوير:
الرقيب اسكندر بيطار
الجندي بلال عرب
شربل طوبيا
شربل جرجس

 


كلمة ممثلي قائد الجيش في تأبين الشهداء

تعودون اليوم أيها الشهداء الأبطال إلى أحضان الأرض التي أنبتتكم، وقد افتديتم بأرواحكم الطاهرة وطنكم الحبيب لبنان، ليبقى سيداً مستقلاً، قوياً عزيزاً، متوثباً كطائر الفينيق المنتصر دائماً على الموت بقوة الحق وإرادة الحياة التي لا تنكسر.
التحقتم باكراً في ركب العطاء وأنتم في ربيع العمر، يحدوكم إيمان راسخ بقدسية رسالة الجندية، وشغف التضحية في سبيل الدفاع عن تراب الوطن، وعلى زغردات النفير ونداء الواجب، اندفعتم مع كوكبة من رفاقكم الأبرار إلى طريق الشهادة متسلحين بقسمٍ أكبر من الحياة، لتسطروا بدمائكم العطرة الزكية صفحات خالدة في سجل جيشكم الأبي وفي تاريخ شعبكم المشرق.
أي حسرة تستعر في قلوب الأهل ورفاق السلاح وكل من عرفكم في هذا اليوم الحزين، لكن فخرنا واعتزازنا في مآثركم البطولية وخصالكم النبيلة، وفي أفراد عائلاتكم الأصيلة التي استلهمتم منها مناهل الأخلاق والرجولة والتضحية، وحب الوطن الذي نما في قرارة أنفسكم، حتى غدا أرزة شامخة دائمة الاخضرار، عصيّة على صروف الزمن ورياح الأقدار.
باسم قائد الجيش العماد ميشال سليمان نتقدم بأحر التعازي إلى ذوي الشهداء ورفاقهم وأحبائهم، راجين من الله أن يتغمد أرواحهم الطاهرة بواسع رحمته ويسكنهم فسيح جناته، ودمتم أيها الشهداء حلماً يتجدد في قلوبنا وضمائرنا مع إشراقة كل صباح، ومشعلاً يتألق في مسيرة الشرف والتضحية والوفاء.