قصة قصيرة

كأس واحدة ورصاصتان
إعداد: العميد الركن إميل منذر

حَكَت الجدّة السوداء لحفيدتها. قالت:
إستيقظ باكرًا كعادته، ونفّذ تمارين الرياضة الصباحية أمام جنوده، ثم دخل مكتبه، وبعد دقائق قليلة كان قد ارتدى بزّته العسكرية، وحمل فنجان قهوته، وتوجّه نحو النافذة ينظر إلى الخارج مسرّحًا ناظرَيه في ذلك السهل الواسع الذي خلع عليه فصل الجفاف حلّة صفراء. وسرعان ما استرعى انتباهَه كتلةٌ من دخان قاتمة اللون ترتفع ببطء من خلف الجبل البعيد؛ فوضع المنظار على عينيه للحظات، ثم رفعه وألقاه جانبًا، وراحت الأفكار المقلقة تأخذه بعيدًا وتعيده.
وإنه لكذلك، دخل عليه معاونه، وقال له: «سيّدي الملازم. أحمل أنباء سيّئة. لقد وقعت اضطرابات جديدة مسرحها هذه المرّة قرية صغيرة تبعد حوالى ثمانية أميال لجهة الشمال». ثم دفع إلى الضابط بوثيقة خطّية، قائلًا: «وصلتنا هذه البرقية للتوّ. ثمّة بضعة بيوت خشبية أُضرمت فيها النيران».
أخذ الملازم «بيتر» البرقية، ورفعها قبالة عينيه. وفيما كان يقرأ باهتمام، أخذ الغضب يتكدّس فوق قسمات وجهه وعقدة حاجبَيه. ثم قذف بالورقة إلى مكتبه، وقال: «وهذه المرّة أيضًا يريدوننا أن نعمل على تهدئة الحال من دون توقيف الجناة إلا إذا كانوا من السود طبعًا؛ فلْتَحْيَ العدالة».
- بمَ تأمر سيّدي؟ سأل المعاون.
- جهّزْ بضعة جنود في عربة، وانتظرْني.
- حاضر، قال، وأدّى التحية، وانصرف.
في هذه الأثناء رنّ جرس الهاتف في مكتب الملازم؛ فسارع إلى رفع السمّاعة، وكان النقيب آمر السريّة على الطرف الآخَر من الخطّ.
- آلو.
- صباح الخير ملازم بيتر. أتّصلُ لأتأكّد من أن الأوامر الخطية واضحة. فهل هي كذلك؟
- إنها واضحة. ولكن هذا لا يجوز يا سيّدي.
- ما هو الذي لا يجوز؟
- كيف تريدني أن أعمل على التهدئة من دون الاقتصاص من المعتدين، وهم من البيض بالتأكيد! هل أرسلتنا دولتنا، التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها، إلى هذه البلاد لنهْب ثرواتها فحسْب! أيّة رسالة نكون قد حملْنا إلى شعوب العالم إن لم نعلّمها مبادئ الحريّة والعدالة والمساواة بين البشر من دون النظر إلى اللون والعِرْق والدين!
- إسمعْ. هذه المسائل ليست من شأننا، نحن العسكريين. لنَدَعِ السياسة لأهلها. على أيّة حال أنا آمُرُك بما أُمرتُ به. نفّذ الأوامر، وارفعْ تقريرك في أسرع وقت.
- حاضر سيّدي النقيب.
وتابعت الجدّة تقول: «خرج الملازم، واستقلّ العربة، ومضى في طريق ترابيّ ضيّق محفوف من الجانبين بأشجار قضمت أكَلَةُ الأعشاب من الحيوانات أوراق أغصانها المنخفضة، ولم يسلم إلا ما كان في الأغصان العالية. وكان كلّما طوى من المسافة ميلًا، اتّضحت سحابة الدخان أكثر، وأصبح بإمكانه سماع أصداء أعيرة نارية عميقة، ذلك أن بضعة رجال بيض قَدِموا على الجياد من قريتهم إلى قريتنا هذه، وراحوا يطلقون النار في الهواء، ويضرمون النار في المنازل بحجّة أن ثلاثة من رعاتنا أوردوا ماشيتهم الماءَ إلى جانب ماشية رعاة بيض؛ فجاؤوا يعاقبون القرية على هذه «الخطيئة» التي لا تُغتفَر».
- وما حدث بعد ذلك يا جدّتي؟
- سمعت ماندي، ابنة التسعة عشر ربيعًا، أصداء إطلاق النار؛ فخرجت تستطلع الخبر. ولما شاهدت سحبَ الدخان ترتفع من نوافذ البيوت المجاورة، دخلت مسرعة، والتقطت يد أخيها «راندو» الذي لم يكمل عامه الخامس عشر بعد، وهربت به إلى أجمة قريبة للاختباء عن أعيُن الرعاة الغزاة.
- آه يا أختاه! لقد نسينا أبي في الداخل، قال راندو هامسًا في أذن ماندي.
- يا للمصيبة! ما العمل؟ سألت، ووضعت يدها على شفتيها، وقد اتّسعت عيناها من شدّة الخوف.
- سأعود لإنقاذه.
- لا. سيقتلونك إن عُدت. أنت أحد الرعاة الذين لا شكّ يبحثون عنهم.
- أنا ذاهب. قال وأفلت من يدَي أخته، وركض، فيما راحت ماندي تحاول أن تتبيّن بيتها وهي متجمّعة على نفسها بين الأغصان المتشابكة، لكنها لم تستطع أن تبصر إلا الساحة الترابية أمام البيت. وما هي غير لحظات حتى سمعت صهيل خيل قريبًا جعل قلبها يهرب من بين ضلوعها، تبع ذلك سماع فرقعات القصب تأكله ألسنة النيران وتحوّله رمادًا، ودخانًا أسود يرتفع خلف الأشجار لناحية البيت. إذ ذاك راحت تبكي وتصلّي، وتنتظر أن ترى أخاها عائدًا.
- وهل رأته يا جدّتي؟
- لا. لم ترَ إلا عربة عسكرية تتوقّف في الساحة ليترجّل منها ضابط وبضعة جنود؛ فتشجّعت، وخرجت من مخبئها لترى بيتها تلتهمه النار؛ فاندفعت إلى الداخل تنادي أباها المقعَد وأخاها؛ فما سمعت إلا صوتًا يستغيث، وما رأت إلا رجُلًا ملقى على سريره لا قدرة له على الحراك. إنه أبوها. لقد لفحته النار وأعماه الدخان. سحبته بكلّ قواها، وجرّته إلى الخارج جرًّا.
- وأخوها؟ سألت الحفيدة. أين كان؟
- مسكين راندو.رأته مقيّد اليدين بحبل غليظ مربوط إلى سرج جواد يجرّه خلفه. فما كان منها إلا أن اندفعت في إثْره تناديه وتبكي، وتلتفت إلى الوراء بين الحين والآخَر تستحثّ الجنود على التدخّل لنصرتها.
لم يهمز راعي البقر جواده للتواري سريعًا عن أعيُن الجنود. كلّ ما قام به هو أنه استدار إلى الخلف، وأطلق عيارًا ناريًّا في الهواء فوق رأس ماندي؛ فتوقّفت الأخيرة في مكانها، ثم عادت مسرعة إلى حيث الجنود وسيّدهم واقفون غير مبالين بكلّ ما يحدث. عندئذٍ أمسكت بذراع الملازم تشدّ بها وتبكي: «أرجوك حضرة الضابط. إفعل شيئًا من أجلنا، أرجوك. هذا أخي يسوقونه إلى الموت أمام أعينكم، وهذا أبي المقعَد مطروح على الأرض أمامكم. ما من ذنب اقترفناه سوى أننا خُلقنا سودًا؛ فهل نستحقّ أن نقتَل بهذا الذنب يا سيّدي!». ولمّا لم يحرّك بيتر ساكنًا، ارتمت الفتاة على ركبتَيها أمامه: «إن كنت تريدني أن أقبّل قدميك، فها أنا فاعلة». هكذا قالت، وأناخت رأسها حتى لامس جبينها الحذاء الغليظ؛ فما كان من الضابط إلا أن تراجع خطوة، ثم استدار وولاّها ظهره. عندئذٍ نهضت ماندي، وتسلّحت بمخالب لبوءة جريحة، ووجّهت إلى الملازم صفعة قويّة جعلته يفتح عينيه واسعتين، ويستر خدّه بكفّه.
- إنه يستحقّها، بل يستحقّ أقوى منها، قالت الحفيدة.
- إذ ذاك هبّ الجنود هبّة رجل واحد، وأمسكوا بالفتاة، وقيّدوها، ودفعوها إلى صندوق العربة دفعًا والضابط ينظر إليهم من غير كلام. ثم انطلق الجميع في طريق العودة إلى المركز.
هناك تمّ احتجاز ماندي في السجن لساعات قبل أن يطلب بيتر أن يؤتى بها إليه. وعندما جيء بها، وقفت أمامه مرفوعة الجبين؛ فراح يتأمّلها جاهدًا في إيجاد كلام يقوله لها، لكنه لم يجد.
كان في عينَي ماندي الواسعتَين غضب وحزن ودموع. لكن كلّ هذا لم يستطع أن يحجب تلك النظرة البريئة التي تعكس طيبة قلبها ونقاء روحها. وجهها النحاسيّ المستدير كان جميل الملامح. الشفتان ممتلئتان، والأسنان ناصعة البياض برّاقة كاللؤلؤ. أما الشعر الضارب إلى الصفرة، فخُصَلٌ رفيعة مجدولة بعناية. وأما البنية الهيفاء المتينة، فكأنها مقدودة من غصن خيزران على ضفّة الغدير.
- إجلسي، قال بيتر؛ فنظرت الفتاة إلى الكرسيّ ولم تجلس.
- إجلسي، كرّر الضابط.
- لا يا سيّدي. أنا فتاة سوداء فقيرة، ولا يصحّ أن أجلس في مكتب ضابط... أبيض.
- إجلسي أرجوكِ، ولا تدَعيني أعاني أكثر.
جلست ماندي، وخفضت رأسها؛ فضغط بيتر على زرّ كهربائيّ إلى جانبه، وللحال دخل أحد الحجّاب، ورفع يده بالتحيّة: «مُرْ يا سيّدي».
- نادِ المعاون.
- حاضر.
إنصرف الحاجب. وبعد لحظات دخل المعاون. وإذ رأى الفتاة جالسة، امتعض، ووقف أمام الضابط يسأله عمّا استدعاه من أجله.
- أعيدوا الفتاة إلى بيتها... أقصد إلى حيث كان بيتها، بعربة عسكرية. وانصبوا لها خيمة تأويها وعائلتها الصغيرة.
- لكنّ هذا مخالف للتعليمات يا سيّدي.
- بِئْسَتِ التعليمات كلّها، صرخ الضابط وهو يضرب كفّه على الطاولة ويقف. نفّذْ ما أمرتك به، وأنا المسؤول عن مخالفة التعليمات اللعينة.
- حاضر سيّدي.
- ولا تنسوا أن تعطوها بعض الخبز ممّا نرميه للكلاب والخنازير فيما الناس يموتون جوعًا.
- حاضر.
وقاد المعاون الفتاة باتّجاه الباب. لكنها، قبل أن تخرج، وقفت، وأدارت رأسها إلى الخلف، ونظرت إلى الضابط بعينَين دامعتَين، ولم تقُل شيئًا، وخرجت.
أوَت ماندي وأباها إلى الخيمة التي نصبها المعاون ورجاله. وراحا ينتظران عودة راندو، ويسألان عنه الرائح والغادي. لكنهما عبثًا انتظرا وسألا؛ فحزنا كثيرًا، وسال دمعهما في ليالي السُهْد غزيرًا، وراندو لم يعُد.
* * *
مضت أيّام خمسة. وفي صبيحة السادس طرق الحاجب باب الملازم، ثم دخل، وقال: «ثمّة مَن يريد مقابلتك، سيّديّ».
- مَن؟
- الفتاة السوداء.
- دعها تدخل.
ودخلت ماندي، واستقرّت أمام الضابط صامتة مطأطأة الرأس.
- ماذا تريدين؟ سألها.
- جئتُ أرى إن كنتُ أستطيع أن أخدمك في عمل تحتاج إليه، حضرة الضابط. قالت وهي ما زالت تنظر إلى الأرض؛ فلبث بيتر يتأمّل وجهها الجميل الذي يفيض نضارة وحياء، ويتمنّى لو يستطيع أن يحتجز في مسمعَيه بحّتها العذبة وهي تلفظ كلماتها الإنكليزية بلكنة محبّبة. وقبل أن يجيب بكلمة، تابعت ماندي تقول: «أستطيع أن أمسح مكتبك، وأرتّب ملابسك، وأُعدّ طعامك إن شئت».
- لا، شكرًا. لديّ جنود يستطيعون أن يقوموا بخدمتي على أفضل وجه.
- أخدمك من دون أجر يا سيّدي. فقط... لقاء طعامي وأبي، أو حتى طعام شخص واحد؛ فما يُشبع واحدًا يكفي اثنَين. قالت، وأضافت دامعة العينَين: «لقد خسرنا كلّ ما كان لنا من حطام الدنيا. ونفد ما جُدْتَ به علينا؛ فما عدنا نملك لقمة عيشنا».
- أستطيع أن أزوّدكم ببعض الخبز والمؤونة من وقت لآخر.
- لا. أريد أن نستحقّ طعامنا. حتى الكلاب تستحقّ طعامها، أكثيرٌ علينا أن نكون مثلها!
- هل... من خبر... عن أخيك؟ سأل بتردّد وبصوت كاد ألا يكون مسموعًا.
- لا يا سيّدي. بحثنا في كلّ مكان. في الحقول والسهول والأودية بحثنا. والطير والشجر والنسمات سألنا. لكن ما من مُجيب. مسكين أبي. لكأنّ الدهر كان يجد في قلبه بقيّة فرح بعد، فأراد أن يحرمه إيّاها... كلما رأيته متقوقعًا في سريره، انسحق قلبي شفقة عليه. وكلما رأيت دمعته تنزلق بصمت بين تجاعيد وجهه، نزل في قلبي ألف سهم وسهم.
عندئذٍ دمعت عينا بيتر لشعوره بأنه المسؤول الأوّل عمّا أصاب هذه الأسرة البائسة؛ فاستدار كي لا تبصر الفتاة بريق الدمع في عينيه. لكنّ ماندي ظنّت أنه أعرضَ عنها؛ فمشت نحو الباب وئيدة الخطوة مهزومة النفس. ولمّا سمع بيتر صرير الباب يُفتَح، استدار وناداها: «لا تذهبي». ثم مشى نحوها، واستقرّ على مسافة خطوة منها، وقال: «بإمكانك أن تبدأي عملك في مكتبي ساعة تشائين».
- شكرًا لك يا سيّدي، شكرًا لك.
في تلك اللحظة تمنّى بيتر لو يستطيع أن يضمّ ماندي إلى صدره، ويطبع قبلة على جبينها، ويغرز أصابعه بين خُصَل شعرها، ويريح رأسها المثقَل بالهمّ فوق كتفه. وتمنّى أيضًا لو كان باستطاعته أن يقول لها: «سامحيني أيتها الظبية الوديعة لأنني لم أردع الذئاب عنك. سامحيني لأنني تركتهم يحرقون بيتك، ويحرقون قلبك على أخيك. ها أنا سأقف من اليوم إلى جانبك، وأشدّ على يدك، ولْيذهبوا وتعليماتهم وأوامرهم إلى الجحيم. صحيح أنني بعتُهم تعبي وعرَقي وسهري ودمي، لكنني أرفض أن أبيع شرفي وإنسانيّتي». إلا أنّ ما لم يفعله بيتر، أحسّت ماندي به وهو يقف أمامها وينظر إليها بعين حزينة. وما لم يقله بشفتَيه، سمعتْه مدوّيًا في صمته المقهور.
لذلك غادرت وفي قلبها شعوران متنافران يتنازعانه ويشدّان به كلٌّ باتّجاه، حتى أحسّت بأنه يتمزّق بينهما. الأوّل هو شعور بالامتنان نحو رجل يتعرّض، من دون شكّ، للملامة والمضايقات من قبَل قيادته لعطفه على أُناس سود، وتقديمه العون لهم. أجل، هي لم تنسَ بعد عبارة «هذا مخالف للتعليمات» التي قالها المعاون للضابط على مسمع منها. ولم تنسَ، أيضًا، ثورة الضابط إذ صرخ: «نفّذْ ما أمرتك به، وأنا المسؤول عن مخالفة التعليمات اللعينة». أما الشعور الثاني، فهو الكراهية تجاه ضابط صاحب سلطة وقدرة وقف وجنوده مكتوفي الأيدي يتفرّجون على كلّ ما يجري من غير مبالاة كأنهم يشاهدون فيلمًا سينمائيًّا من أفلام «الأكْشِن». لذلك لم تعُد تعرف إن كان عليها أن تكره الضابط وتتمنّى له الموت، أو تسامحه، فتستمرّ في المجيء إليه وخدمته. «يا ألله»، قالت. «أليس كثيرًا أن أحمل كلّ هذا العذاب الذي تنوء به الجبال!».
إلا أنّ ما كانت ماندي تعانيه، كان بيتر يعاني أشدّ منه وأدهى. تبكيت الضمير بات نديمه وسميره. إذا مشى، مشى معه. وإن جلس، جلس إلى جانبه. وإن أوى إلى سريره، رآه يقاسمه وسادته.
أكثر من مرّة انفرد في مكتبه، وأغلق بابه، وحدّث نفسه قائلًا: «أنا جنديّ أتلقّى الأوامر وأنفّذها، وقد نفّذت ما أمروني به. فعلامَ أحمّل نفسي مسؤولية لا تعنيني!». حتى إذا ما ارتاح إلى هذه الحقيقة، عاد فسمع صوتًا يصرخ في أعماق نفسه ويضجّ في أذنيه: «لا. أنت إنسان قبل أن تكون جنديًّا. وما فعلتَه هناك لا يمتّ إلى الإنسانية بصِلة».
- أتعرفين يا جدّتي؟ لقد بتّ أشفق على بيتر.
- في الحقيقة لم يكن صراخ الضمير فقط ما راح يحرم عينَي بيتر النوم. لقد حرمهما النوم أيضًا وجه ماندي، وعيناها، وبحّة صوتها، ورصانتها، وثباتها في مواجهة مأساتها. لقد رفضفي بادئ الأمرالإقرار بحقيقة شعوره تجاهها، حتى بات ينتظر مجيئها كلّ صباح على أحرّ من الجمر، ويخفق قلبه بشدّة كلّما قرعت الباب قرعًا خفيفًا أصبح يميّزه ويعرفه. ماندي الآن هي كلّ ما أصبح يشغل فكره ويملأ قلبه. «هل أُحبُّها أم أُشفق عليها؟»، سأل نفسه مرّات ومرّات. وفي كلّ مرّة كان يأتيه الجواب من أنشودة الجدول، إذا خرج يتنزّه، ومن تغريد العصفور كلّما حطّ صباحًا على غصن الشجرة قبالة شبّاكه. إنه الحبّ الذي، إن وجد توأمه، حوّل الحزن فرحًا، وقلبَ العذاب عذوبة. وإن تاه وحيدًا، جعل الأناشيد نحيبًا، وردّ الرياض هشيمًا.
هذه الخواطر دأب بيتر على تدوينها في دفتر خاصّ. كلّ ما لم يكن يستطيع البوح به بشفتَيه، قاله بقلمه على صفحات دفتره. لقد كان يعرف أنهم يستطيعون منعه من الكلام والتصرّف، لكنهم لا يقدرون على منعه من التفكير، والكتابة، و... الحبّ. كلّ ما كتبه كان لنفسه. كتب وكتب، علّه يتمكّن من تحميل الورق بعض ما أصبح ثقيلًا عليه. ومع الوقت راحت الأوراق المحبّرة تكثر، لكنّ حمله ما كان ليخفّ.
* * *
عاد الملازم من تمرين الرياضة الصباحية. وما كاد يخلع خُفّه المطّاطيّ ليدخل الحمّام ويغتسل، حتى جاءت ماندي كعادتها في كلّ صباح، وألقت التحية عليه.
- ماذا تريدني أن أعدّ لك من طعام، يا سيّدي؟
- هل أستطيع أن أطلب منك أمرًا تفعلينه إكرامًا لي يا ماندي؟
- أنت تأمر، حضرة الضابط.
- أريدكِ ألا تناديني بعد اليوم بـ «سيّدي» و»حضرة الضابط».
- بمَ أناديك إذًا!
- ناديني بيتر كلّما كنّا وحدنا. هل تفعلين ذلك من أجلي؟
- لا يا سيّدي. أرجوك، لا أستطيع.
هكذا قالت وهي تتمنّى لو تستطيع أن تلفظ اسمه، أو أن تدنو منه وتمسك يده، وترفعها إلى شفتيها فتلثمها، وتلثم عينيه الزرقاوَين، وتلمّ بأهدابها قطرات العرق العالقة برؤوس خُصَل شعره الأشقر. ولأنها تعرف أن ذلك أبعد عليها من الشمس، هبطت بتمنّياتها إلى أرض الواقع، وعادت تسأل الضابط من جديد عمّا يرغب فيه من طعام؛ فأجاب مبتسمًا: «ما تعدّه يداكِ سيكون لذيذًا». ثم دخل الحمّام، وخرج بعد دقائق مرتديًا زيّه العسكريّ. وإذ همَّ بانتعال حذائه، رأى ماندي مُكِبّة عليه تمسحه بالصباغ الأسود؛ فاندفع نحوها: «لا يا ماندي. إلاّ هذا. يكفي أنك تعدّين طعامي، وترتّبين خزانتي، وتكوين ملابسي. أما الحذاء، فلا». ولمّا حاول خطف الحذاء منها، اعترضت يده وأمسكت بها لتمنعه وهي ما زالت جاثية على ركبتَيها؛ فأحسّ بتيّار كهربائيّ يسري منها إليه. وشعر بقلبه يضرب جنبات صدره لشدّة خفقانه؛ فأمسكها من ذراعيها وأنهضها، ولم يرفع يديه عنها. إنها المرّة الأولى التي يلمسها فيها. إحساس جميل اجتاح جسده من رأسه حتى أخمص قدمَيه؛ فتمنّى في تلك اللحظة أن تكفّ عقارب الساعة عن الدوران ويتوقّف الزمن حتى لا يكون بعد هذا القُرب بُعد، ولا بعد هذا اللقاء فراق. لكنّ العقارب ظلّت تدور لتذكّره أنّ عليه الخروج بعد قليل للاشتراك بفصيلته في تمرين قتاليّ بالذخيرة الحيّة ضمن السريّة. لذلك حمل مسدّسه، وهمَّ خارجًا قبل أن تستوقفه ماندي بقولها: «أتعلّمني الرماية بالمسدّس يا سيّدي؟».
- ألم نتّفق على مناداتي «بيتر»؟
- أتعلّمني يا سيّدي «بيتر»؟
إذ ذاك ضحك الملازم؛ فضحكت الفتاة لضحكه؛ فإذا أسنانها أنصع بياضًا من الثلج الذي ما زال يكلّل هامة الجبل البعيد، وإذا ضحكتها أشجى من تغريد طيور القرميد.
- لماذا تريدين أن تتعلّمي الرماية!؟ سأل بيتر، وأضاف حانيًا رأسه فوق كتفه، شاقلًا حاجبيه، مبتسمًا: «ألتقتليني؟».
- ربما.
- أتعتقدين بأنكِ لم تقتليني بعد!... تعالي؛ فلن يكون رصاص المسدّس أشدّ فتكًا من سهام هاتين العينين الجميلتين.
هكذا قال بيتر، وأخذ يعلّم ماندي كيف تمسك بالمسدّس، وتقف، وتلقّم. ولمّا جرّبت ذلك، بسطت المسدّس على كفّها، وقالت: «هذا لا يشبه مسدّسات رعاة البقر... إنه أطول»؛ فقال الضابط: «يصبح مثلها عندما نفصل كاتِم الصوت عنه».
- وما دوره؟
- يتيح لكِ أن تطلقي النار عليّ من دون أن يسمع أحد.
- علّمني إذًا كيف أفعل ذلك، قالت وهي تبتسم.
- ترفعين المسدّس باتّجاه الهدف وتصوّبين، قال وهو يقف وراءها، ويقبض على معصمها، فيما صدره يكاد يلامس ظهرها، وخدُّه خدَّها. «ثم تحبسين الهواء في رئتيك، وتضغطين تدريجيًّا على الزناد... وبعد ذلك تحتفلين بموتي»، قال بدعابة؛ فضحكت، واستدارت لتبصر على وجهه، بدل الفرح، أمارات حزن عميق. لقد كان يعرف أن زهرة حبّه العطرة لن يكتَب لها أن تعيش طويلًا في أرض جفّ ترابها، وهجر السحاب سماءها.
* * *
- وما حدث بعد ذلك يا جدّتي؟
- لم تكن القيادة بغافلة عن تصرّفات بيتر. حركاته وسكناته كانت كلّها مراقَبة ومرصودة. وكان هو يعرف أن القيادة تعرف، ويتوقّع أن تستدعيه في أيّ وقت للمساءلة. ومع ذلك لم يتراجع ليكون إنسانًا آليًّا لا قلب له ليرحم ولا عينٌ لتدمع، أو بالأحرى، لم يعُد يستطيع أن يتراجع عن طريق شقّتها له الأقدار ودلّته عليها.
وصحّت توقّعات الضابط وصدقت ظنونه. فلم يمضِ طويل وقت حتى طُلب للمثول أمام العميد قائد اللواء؛ فامتثل ومَثَلَ على الفور.
- هل مدركٌ أنت لعواقب ما تفعله يا ابني؟ سأل العميد وهو ينظر في عينَي الملازم ويسحق عقب سيجارة في المنفضة.
- أجل يا سيّدي.
- عظيم. ما دمت مدركًا، اختَرْ عاقبة من اثنتَين لا ثالث لهما أمامك.
- تعني الاستقالة أو المحكمة العسكرية، أليس كذلك؟
- لم أُخطئ إذ راهنتُ على ذكائك.
- إني أختار الاستقالة.
- إفعلْ إذًا قبل فوات الأوان.
- سمعًا وطاعة.
هكذا قال بيتر، وخرج، وعاد إلى مكتبه، ونصّ طلب استقالته بيده، وجعله في مغلّف مقفل، ودفع به إلى ساعي البريد، وراح ينتظر.
صبيحة اليوم التالي كانت ماندي قد اجتازت نصف الطريق إلى مقرّ الضابط، عندما اعترضها شابّ من القرية، ورفع إلى وجهها عينَين ملؤهما الحزن والغضب، ولبث صامتًا لا يتكلّم.
- ما الأمر!؟ سألت ماندي.
- أتريدين أن تكملي دربك إلى سيّدك الأبيض، أم تعودي معي إلى القرية... لندفن أخاك؟
- ماذا!!!
- لقد عثر أحد الرعاة على جثّته فجر هذا اليوم في الوادي.
وعادت ماندي مع الشابّ من حيث أتت تروي تراب الطريق بدموعها، وتفتّت قلب الصخر الأصمّ برثائها ونحيبها. وهناك أقام أهل القرية محرقة التهمت ألسنتها الجثّة على قرع الطبول، والتهمت معها قلب ماندي وقلب العجوز.
قبل أن تغيب شمس ذلك اليوم أرسل شيخ القرية في طلب ماندي إلى بيته؛ فجاءت، وحنت له رأسها تحيّةً واحترامًا.
- إسمعي يا ابنتي، قال الشيخ. القرية كلّها مستاءة جدًّا من تصرّفاتك الرعناء.
- تصرّفاتي الرعناء!!
- أجل، صرخ الشيخ وهو يضرب بكفّه طاولة أمامه ويقف. «أنتِ تخونيننا يا بنت. نحن في حرب مع البيض عمرها مئات السنين. وأنتِ، كالحمقاء، تذهبين كلّ يوم إلى سيّدك الأبيض سيرًا على القدمَين لأكثر من ساعتين من أجل القيام بخدمته. ألا تخجلين من نفسك! ألا تبصرين ثياب العار التي لبسناها كلّنا بسببك!».
وإذ خفضت الفتاة رأسها ولاذت بالصمت، تابع الشيخ يقول: «لتعرفي أنْ ليس الرعاة وحدهم مَن قتل أخاك. الضابط وجنوده شاركوا أيضًا في قتله. مَن يغضّ النظر عن المجرم فهو شريك في الجريمة. هذا قانوننا، وقانون كلّ عدالة على وجه الأرض... واللهِ لم أكن إخالُ قَطّ أني أعيش إلى يوم أرى نفسي فيه ذليلًا، حتى عشت ورأيت».
- ماذا تريدني أن أفعل؟ سألت ماندي بشفتَين مرتجفتين، فيما الدموع أخذت تخضِّلُ وجنتيها.
- لا أقول لكِ ما عليكِ أن تفعلي. إستيقظي. فكّري. تصرّفي؛ فإنكِ تستطيعين الكثير. رماد أخيكِ لم يبرد بعد. حرّرينا من هذا العار الذي لحق بنا. هل تفهمين ما أقول؟
هزّت ماندي رأسها أنْ «نَعَم». ثم استدارت، وخرجت بخطى رشيقة، واتّجهت إلى أحد الحوانيت الذي تعرف أنّ حاجتها التي تريدها، موجودة فيه؛ فابتاعت حاجتها، وحثّت خُطاها باتّجاه مقرّ الضابط الذي بلغته، هذه المرّة، في أقلّ من ساعتين. وعندما دخلت، وقفت في الباب تنظر إلى لاشيء بعينين أعمتهما الدموع.
- أين أنتِ يا ماندي! أين اختفيتِ أمسِ يا حلوتي! لقد افتقدتكِ، وقلقتُ عليكِ.
- كما قلقتَ على أخي يوم أخذوه على مرأى منك؟
- لماذا تقولين مثل هذا الكلام الآن!؟
- لديك حقّ. ما نفْع الكلام بعد؟... على أيّة حال، لقد جئت لأودّعك.
- ماذا!!! تودّعينني!
- أجل. ماذا تريدني أن أعدّ لك قبل أن أرحل؟
- ترحلين! إلى أين؟
- إلى حيث لا أراك بعد اليوم ولا تراني.
- يا لهذا الكلام الذي أسمعه! جيئيني بكوب ماء أرجوكِ. لقد جعلتِ حلقي يجفّ.
- سمعًا وطاعةً، أيها السيّد.
هكذا قالت، وخرجت. وبعد قليل دخلت بصينيّة عليها كأسان من الماء وضعتها جانبًا، وأعطت الضابط إحدى الكأسَين. وعندما تناولها من يدها ورفعها إلى شفتيه، صرخت ماندي: «لا يا بيتر. لا تفعلْ يا حبيبي». لكنّ الملازم كان قد جرع الكأس حتى الثمالة. عندئذٍ سقطت ماندي على ركبتيها، وضمّت ساقه بذراعَيها، وجعلت تبكي كما لم تفعل حتى عندما أُنبئت بمقتل أخيها.
- لماذا تبكين يا حبيبتي!
- أقلتَ حبيبتي! أقلتَ حبيبتي يا بيتر! هل تعني حقًّا ما تقول؟
- أنظري الدفتر هناك، قال مشيرًا بإصبعه وهو ما زال جالسًا على كرسيّه. إفتحيه واقرأي.
ونهضت ماندي، وأخذت الدفتر، وفي آخِر صفحة منه قرأت: «يوم أمروني بالمجيء إلى هذه البلاد، لم أكن أعرف أنني سأحبّها، وأحبّ مَن فيها لأجلك. كنت أظنّ أنّ ما أشعر به تجاهك، ليس إلا شفقة على فتاة فقيرة خسرت بيتها وأخاها. لكنني اكتشفت أنّ هذا أنا مَن كان فقيرًا إلى الإحساس ببهجة الحياة حتى رآك. وهذا أنا مَن سيخسر الدنيا إذا لم يربح قلبك».
«في بلادي حسناوات كثيرات. لكنّ واحدة منهن لم تسحرني عيناها مثل عينيكِ، وتسطو عليّ لِحاظُها كما لِحاظك...أنا أحبّك يا ماندي، وسأحبّك إلى الأبد يا حبيبتي».
- لماذا لم تقُل لي هذا الكلام من قبل، لماذا، لماذا!!! قالت، فيما بدت وجنتاها تحت سيل دموعها كروضة تستقبل المطر بعد عطششديد.
- هذا هو اليوم الذي كنتُ أنوي فيه أن أستجمع شجاعتي، وأعترف لك بحبّي، وأسألك الذهابَ معي إلى بلادي زوجةً أحبّها وأُخلص لها. ومن أجل هذا اليوم تقدّمتُ من قيادتي بطلب استقالتي. لكنكِ جئتِ لتقولي إنكِ راحلة ولن تعودي. وها قلبي اليوم سيفعل مثلك. سيذهب ولن يعود، لأنه سيكون معك... آخ يا ماندي. إنّ أحشائي تتمزّق ألمًا؛ فما كان في الكأس يا حبيبتي!؟
- إنه السمّ. لقد دَسَسْتُ لك الكثير منه لأقتلك؛ فيا لحماقتي، ويا لخسارتي! بالأمس فقدتُ أخي، واليوم أفقد حبيبي، وأفقد... نفسي.
- لا تدّعي جريمة لم ترتكبيها يا حبيبتي. أنتِ لم تقتليني؛ فأنا ميت منذ اليوم الذي سمحتُ لهم فيه بأخذ أخيك. لكنني يومذاك لم ألقَ مَن يحملني إلى القبر ويهيل فوقي التراب.
- آه يا حبيبي! لن أدعك تموت وحدك. سأموت إلى جانبك فلا أحيا في العذاب من بعدك. لذلك أعددتُ كأسًا ثانية لي، وها إني سأتجرّعها لأذهب معك.
هكذا قالت ماندي، واندفعت تريد الكأس. لكن بيتر كان أسرع منها يدًا؛ إذ رفع مسدّسه، وأطلق منه رصاصة على الكأس فحطّمها. ثم ارتخت يده، وسقط المسدّس على الأرض؛ فأخذته ماندي على عجَل، وجعلت فوهته في صدرها، وضغطت على الزناد كما علّمها بيتر؛ فانطلقت رصاصة منعَ صداها كاتمُ الصوت، ثم ضغطت مرّة ثانية، وهبطت إلى الأرض مخضّبة الثوب بالدم. ثم دبّت على ركبتَيها صوب بيتر، وطوّقت ساقَيه بذراعَيها، وأراحت خدّها على ركبتيه؛ فجمع كلّ ما بقي له من قوّة، وحضن رأسها، وقبّله مثلما كان يحلم ويتمنّى. وعندما دخل المعاون بعد وقت قصير ليخبره أنّ له بريدًا خاصًّا من القيادة، وجده منطرحًا على الأرض، وعلى صدره الذي سكن فيه نبض الحياة، يرتاح رأس ماندي وقد استحالت جثّة باردة لا حياة فيها.
وفيما أخذت الدموع تسيل على وجنتي الحفيدة حزنًا على الحبيبَين، ختمت الجدّة بقولها: «وحكاية بيتر وماندي ما زال أهل قريتنا يحفظونها ويسردونها لتبقى ذكراهما حيّةً لا تُنسى».