- En
- Fr
- عربي
وجهة نظر
«العصا لمن عصا»
تبدّدت المواعيد، سقطت الأوهام، انقسم الشعب الكاتالوني، فتلاشت الأحلام الورديّة، وتهاوت الطموحات الجامحة نحو النزعة الانفصاليّة، وكل بيت ينقسم على نفسه يخرب. أمسكت حكومة مدريد بزمام المبادرة، علّقت العمل بالحكم الذاتي، رفضت الاستفتاء ونتائجه، وطالبت بحل البرلمان، وبإجراء انتخابات نيابيّة مبكرة، وحلّ الحكومة، وملاحقة المسؤولين «المشاغبين».
لقد أثبتت التجربة الانفصاليّة، إن في إقليم كردستان – العراق، أو في إقليم كاتالونيا – إسبانيا، أن لا مكان للصغار في لعبة الكبار، ولا دور للمشاغبين في الحديقة الخلفيّة للدول النافذة. والأوهام لا تصنع بطولات بقدر ما تصنع مبالغات، وهفوات. والتاريخ لا يعيد نفسه، وإن فعل في إسبانيا، فلكي يعيد الانفصاليين إلى بيت الطاعة عن طريق القوة المتدثّرة بمنطق الدستور والقانون... و«العصا لمن عصا».
الكلمة الآن، للمساعي الحميدة، للوساطات، للحوار ما بين مدريد وبرشلونة، لتفادي الطلاق بأقل الخسائر، والعودة إلى المساكنة، ولو القسريّة حتى لا ينهار الكيان، وتندثر الجمهوريّة.
الخلفيات التاريخيّة
يبدو أن الخلفيات التاريخيّة مؤثّرة. تقول الرواية: تزوجا، فأنجبا كاتالونيا – إسبانيا.
العريس: الملك فرناندو الثاني (10 آذار 1452 – 2 كانون الثاني 1516)، إبن الملك خوان الثاني، ملك أراغون.
العروس: إيزابيلّا أخت هنري الرابع ملك قشتالة، وقد ورثت المملكة من أخيها المتوفي سنة 1474، لتصبح الملكة إيزابيلّا الأولى ملكة قشتالة.
اعترضت الأميرة جوانا إبنة الملك هنري الرابع على الذي حصل، واعتبرت أنها الوريث الطبيعي لوالدها، فاندلعت حرب أهليّة بين الإبنة وعمّتها، اضطر الملك فرناندو إلى مؤازرة زوجته، فانتصرت إيزابيلّا، وحسمت الأمور لمصلحتها.
في العام 1474، ورث فرناندو عن أبيه خوان الثاني مملكة أراغون، وتفاهم مع زوجته على توحيد المملكتين (أراغون وقشتالة)، وجميع المقاطعات التابعة لهما بمسمى جديد هو إسبانيا. وكان ابنهما كارلوس الأول، أول من لقّب بملك إسبانيا.
إنه التاريخ يحفر عميقًا، ليحدث زلزالًا في أخدود الجغرافيا، ويضع إسبانيا على خط بركاني متفجّر يعيد نبش الماضي، وينفث في سماء المملكة حربًا أهليّة من جديد.
تفاعل الشعور بالهويّة الكاتالونيّة مع بداية القرن التاسع عشر، وبدأت المظاهرات تعمّ المدن الكبرى، مدعومة بحملات تأييد من النخب، ووسائل الإعلام، وجمهور المثقفين الذين ساهموا في «إحياء الشعور القومي الكاتالوني»، وبدأت تحرّكات شعبيّة مطالبة بالاستقلال والانفصال.
زفّت إسبانيا إلى الاستقلال في العام 1931، ومنحت كاتالونيا حكمًا ذاتيًا واسعًا، إلاّ أن النزعة الاستقلاليّة عند الإقليم لم تتوقف، وتبنتها أحزاب ناشئة، من بينها الحزب الجمهوري، فضاق الجنرال فرانكو ذرعًا، ودخل برشلونة بقوّة السلاح في العام 1939، وألغى الحكم الذاتي.
بعد أن ترجّل فرانكو عن صهوة جواده، عاد الإقليم يجدّ السير على طريق الانفصال، وقام الكاتالونيّون بمحاولات عدّة، منها على سبيل الذكر لا الحصر:
- استفتاء شعبي في 25 تشرين الأول 1979، على قانون الحكم الذاتي الجديد الذي يعترف باللغتين الكاتالونيّة والإسبانيّة كلغتين رسميتين، ويسمح للسلطات المحليّة بتولّي مسؤوليات المقاطعة، بعد أن كانت الحرب الأهليّة التي نشبت في العام 1939 قد ألغت المؤسسات.
- انتخابات تشرين الثاني 2012، والمدعومة من الحزبين الانفصالييّن الرئيسيين.
- استفتاء غير ملزم على الاستقلال في العام 2014، وصوّت يومها 80 بالمئة بنعم، فيما اعتبرت الحكومة الإسبانيّة أنه ليس من حق كاتالونيا دستوريًا الانفصال.
«بروفا» حرب أهليّة
تعبر قافلة الزمن بسرعة، نحن على أبواب الأول من تشرين الأول 2017، عندما شهدت شوارع برشلونة «بروفا» حرب أهليّة، بين شرطة مدريد التي جاءت تقمع الكاتالونيّين عند صناديق الاقتراع، وتمنعهم من التصويت لمصلحة الانفصال، والاستقلال. وخرجت إحدى الصحف الكاتالونيّة في اليوم التالي بعنوان عريض: «وداعًا ديموقراطية إسبانيا»... «فوق إسبانيا تحوم أشباح الحرب الأهليّة».
وكان رئيس الإقليم كارليس بوتشيمون قد قال في خطاب ألقاه أمام برلمان كاتالونيا في 10 تشرين الأول: «أقبل تفويض الشعب لكي تصبح كاتالونيا جمهوريّة مستقلّة... لكنّني أطلب تعليق إعلان الاستقلال من أجل بدء الحوار في الأسابيع المقبلة».
وعلى الرغم من أنّ خطوة بوتشيمون انطوت على مبادرة تصالحيّة مع مدريد، إلاّ أنّ الحكومة الإسبانيّة رفضت ما اعتبرته إعلان استقلال «ضمني» من قبل رئيس كاتالونيا، على اعتبار أنّه ترك الباب مفتوحًا أمام الانفصال من دون إعلانه بشكل صريح...
في المحصلة، تبدو زوّادة التاريخ الكاتالوني مكتنزة بالخيارات الصعبة، على مدار أكثر من 500 عام. ويبقى الباب مفتوحًا على كل الاحتمالات...
الأسباب.. والدوافع
لماذا الآن؟... لماذا في الأمس القريب والبعيد، هذا التوق إلى الانفصال، والاستقلال؟...
هناك أسباب ثلاثة على الأقل، قد شكّلت الدوافع والمنطلقات:
• الأول: إنّ الإقليم زراعي، صناعي، تجاري، سياحي بامتياز. إمكاناته الاقتصاديّة هائلة، مساحته 32106 كيلومترات مربّعة، عدد سكانه 7.5 مليون نسمة، تخترقه سبعة أنهر تضفي الخضرة والنضرة، والشكل الحسن. يقع في شمال شرق إسبانيا، ويأتي في الترتيب السابع بين 17 إقليمًا تتمتع بحكم ذاتي في البلاد. عاصمته برشلونة، ويضمّ أربع مقاطعات: برشلونة، جرندة، لاردة، وطراغونة. تحدّه من الشمال فرنسا وأندورا، ومن الجنوب منطقة بلنسية، ومن الشرق البحر المتوسّط، ومن الغرب منطقة أراغون.
• الثاني: عقدة التميّز، والتشاوف، والنزعة التاريخيّة لدى سكان الإقليم القائمة على اعتبار أنهم «قلب» إسبانيا النابض بالحيويّة، وسط جسم شبه مترهّل؟!
• الثالث: النزعة الفئويّة، والجنوح المتأصّل دومًا نحو الطلاق، والانفصال... فالكاتالونيّون يمتلكون علمًا خاصًا بهم، ونشيدًا وطنيًّا لإقليمهم، ولهم لغة خاصة إلى جانب الإسبانيّة، إلاّ أنّ مطالب المواطنين تتخطّى هذه الحدود ليصبحوا مواطني «دولة كاتالونيا المستقلّة». يرفضون وصفهم بأنّهم مواطنون إسبان، الغالبية ترفض التعامل باللغة الإسبانية مطلقًا. ويرفع معظم المواطنين علم كاتالونيا ذا الشارة الزرقاء على سطوح المنازل وفوق الشرفات، ويعتبرون أنّ إسبانيا احتلّت إقليمهم بعد صلح «البرانس» الذي وقّعته مع فرنسا في أعقاب حربهما التي ما بين 1635 و1659.
رافعة اقتصاديّة مهمّة
على الرغم من أنّ الإقليم يمثّل 6 في المئة فقط من مساحة إسبانيا، إلاّ أنّ ما يقارب 20 في المئة من الناتج القومي الإجمالي يأتي منه، وهذا واحد من أسباب الخلاف، حيث تحوّل حكومة برشلونة مبالغ ماليّة إلى الحكومة المركزيّة الإسبانيّة تفوق الـ20 مليار يورو سنويًا، مقابل خدمات متواضعة جدّا.
ويشير تقرير لوكالة الصحافة الفرنسيّة إلى أنّ إقليم كاتالونيا ساهم بـ19 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي الإسباني في العام 2016، إلى جانب جذبه نحو 14 بالمئة من الاستثمارات الأجنبيّة في العام 2015، وبفارقٍ كبير عن باقي المناطق الإسبانيّة، باستثناء العاصمة مدريد.
ويحتلّ إقليم كاتالونيا صدارة الأقاليم الإسبانية في مجال التصدير، وبفارقٍ شاسع عنها، حيث صدّر ربع ما ينتجه إلى الخارج في العام 2016، والربع الأول من 2017، كما أنّه يستحوذ على نصف المنتجات الكيميائيّة في إسبانيا، فضلًا عن ميزات أخرى في قطاعي الصناعة والأبحاث.
إلى ذلك، تعدّ كاتالونيا من أكثر مناطق إسبانيا استقطابًا للسياح الأجانب، زارها ما يفوق 18 مليون سائح في العام 2016، أي ما يعادل ربع الأجانب الذين دخلوا إسبانيا. ويعتبر مطار كاتالونيا ثاني أكبر المطارات الإسبانية بعد مطار مدريد، كما أنّ مرفأ برشلونة يعدّ ثالث أكبر مرافىء البلاد لجهة حركة البضائع، وأحد أكبر الموانىء الأوروبيّة لسفن الرحلات.
ويعتقد مؤيدو الانفصال بأنّ كاتالونيا قادرة على إنشاء دولة ذات اقتصاد قوي يقترب من اقتصاد دول شمال أوروبا، لما يزخر به الإقليم من إمكانات كبيرة.
أين الاتحاد الأوروبي مما يجري؟
لم تهضم دول الاتحاد الأوروبي النزق الكاتالوني الانفصالي، وقفت بقوة في موقع الضد، أبدت خشية على مصير الحزمة الاقتصاديّة التي اقترحتها بروكسيل على مدريد، لتفادي سيناريو اليونان، ولكي تتمكّن من معالجة الكثير من متاعبها المالية والتزاماتها الاقتصاديّة - الإنمائيّة. ولذلك تنظر بروكسيل بعين الاهتمام إلى مدى قدرة حكومة مدريد على ضبط النزاع بأسرع وقت ممكن، لأسباب منها:
- وفاء إسبانيا بتعهّداتها والتزماتها المالية تجاه الاتحاد.
- عدم انتقال العدوى إلى الدول الأخرى، خصوصًا بعد أن صوّت الإقليمان الغنيّان في شمال إيطاليا، لومبارديا، والبندقيّة بالغالبية الساحقة لمصلحة تعزيز الحكم الذاتي، وفق ما أظهرت نتائج الاستفتاء. وقد حصل التصويت في خضم سجالٍ طويل بين الشمال الغني، والجنوب الفقير، حول توزيع الثروة. وأيضًا ثمة تخوّف من انتقال العدوى إلى فرنسا مع بعض الإمارات الملحقة بها، وإلى إيسلندا التي تطالب منذ زمن بالاستقلال عن بريطانيا... لذلك هبّ الاتحاد دفاعًا عن وحدة التراب الإسباني حتى لا يصبح البيت الأوروبي بمنازل كثيرة.
- حثّ مدريد على التواضع بعض الشيء، والقبول بالحوار لإنقاذ المصالح المشتركة.
تراقب دول الاتحاد الأوروبي الوضع المتفاقم، والمفتوح على كل الاحتمالات، بما فيها الحرب الأهليّة، بحذر كبير، نظرًا للضغوط، والتداعيات الكثيرة، ومنها:
- تداعيات «البريكست»، وبدء ابتعاد بريطانيا عن المشروع الأوروبي.
- صعود اليمين المتطرّف في الانتخابات، في العديد من دول القارة، وما يحدثه التشدّد القومي من انغلاق، وتمزّق.
- وجود رئيس في البيت الأبيض، يسعى إلى إبعاد واشنطن عن شركائها الأوروبييّن، وهذه الشراكة تاريخيّة...
- الإرهاب، الهجرة، أزمة النزوح، أزمة الديون، والتحدّيات الكبرى داخل البيت الأوروبي.
الحوار ثمّ الحوار
وسط هذه التحدّيات، حثّ رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك حكومة مدريد على معالجة الأمور بـ«حنكمة وحكمة»، وتجنّب اتخاذ أي تدابير من شأنها أن تجعل «الحوار مستحيلًا». في حين خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن صمته: «لا نريد أن نصنع من الأزمة بركانًا متفجرًا، يغرق بانبعاثاته المحرقة، من حوله!».
في غضون ذلك، بدأت تبعات المواجهة تظهر، إذ ألقت الأزمة بثقلها على الأعمال التجارية في أحد أغنى أقاليم رابع أكبر إقتصاد في منطقة اليورو، ونقلت عدّة شركات مقّارها القانونية من كاتالونيا إلى أجزاء أخرى في البلاد.
معارضو الانفصال.. وحججهم
يضاف إلى ما تقدّم، أنّ الكاتالونيين المناهضين للانفصال، يؤكّدون أنّ المقوّمات غير متوافرة لتأييد الاستقلال، ذلك أن الحكومة الكاتالونيّة ستكون مضطرّة إلى التفاوض مع مدريد في كل الأحوال من أجل إتمام استقلالها. الطريق سيكون طويلًا أمامها قبل ترسيخ نفسها مؤسساتيًا، وستكون بحاجة إلى إنشاء مصرفها المركزي الخاص، وإدارتها للنقل الجوّي، وقواتها الدفاعيّة الخاصّة، إضافة إلى الكهرباء، وتوزيع الغاز، وغيرها من القطاعات التي لا تزال ضمن الدائرة الحكوميّة الإسبانية. كذلك فإنّ شبكات الهاتف تديرها الشركات الإسبانيّة والأجنبيّة الكبرى، فيما تملك الدولة الإسبانيّة 51 في المئة من مطارات كاتالونيا، وسككها الحديديّة، وتتولّى تشغيل الأسهم المتداولة أيضًا.
أما خارج الاتحاد الأوروبي، فسيكون على كاتالونيا أن تنشىء مراقبة الحدود، وخدمة الجمارك الخاصة بها، فحدودها مع إسبانيا وفرنسا ستصبح خارج إطار الاتحاد، ومنطقــة الـ«شينغــن». ولــن يخســر الكاتالونيّــون جنسيّــة الاتحــاد الأوروبــي فقــط، بــل الجنسيّــة الإسبانيّــة أيضًــا.
... التداعيات على بروكسيل
تدرك بروكسيل جيدًا بأنً حكومة كاتالونيا قد أبدت مرونة في التفاوض على حصيلة الاستفتاء الذي أجرته في الأول من تشرين الأول الفائت حول الانفصال، إلاّ أنّ السلطة في مدريد تشبثت بموقفها في رفض الاستفتاء، ورفض الحوار. وأضيف إلى هذا الموقف الصارم، الخطاب المتشدّد الذي وجّهه الملك إلى الأمة، وبدا فيه أكثر حزمًا من حكومته في خيار الرفض، والتلويح باستخدام القوة ضدّ قادة الإقليم، وكانت النتيجة أنّ التوتر قد تضاعف، وارتفع منسوب القلق والغضب، واضطر الرئيس الانفصالي كارليس بوتشيمون إلى الهرب مع عدد من وزرائه بحثًا عن لجوء سياسي في بروكسيل، الأمر الذي سبب بداية أزمة دبلوماسيّة بين إسبانيا، وبروكسيل، لن يكون الاتحاد الأوروبي معزولًا عن تردّداتها.