مرافق ومؤسـسات

كازينو لبنان
إعداد: تريز منصور

كان يا ما كان أيام العزّ والإشعاع... أما اليوم فحديث آخر!

على أجمل موقع في خليج جونية، يمتدّ كازينو لبنان الذي يعتبر من أفخر الكازينوهات وأشهر المعالم السياحية في الشرق الأوسط وفي العالم. على أدراجه مدّ السجاد الأحمر لملوك ورؤساء الدول. ومن على مسرحه أطلّت أهم الفرق الفنية العالمية، كما نظّمت في جنباته الاحتفالات الضخمة التي شغلت الصحافة العالمية.
فخلافًا لمفهوم الكازينو العادي المتعارف عليه في كل أنحاء العالم، اضطلع كازينو لبنان بدور فريد إذ جمع بين الترفيه والسياحة والثقافة، وهو الجمع بين السياحي والثقافي في آن واحد. لكن كل ذلك كان...

 

منارة الخليج
شهد لبنان في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فترة من الرخاء والازدهار الاقتصادي، عززّتها الواردات السياحية المهمّة المتأتية من ألعاب الميسر التي كانت ناشطة في مراكز الاصطياف، وبعض فنادق العاصمة، وكانت هذه الألعاب ممنوعة في الدول العربية المجاورة. 
خلال عهد الرئيس الراحل كميل شمعون صدر في العام 1954 قانون قضى بحصر ألعاب الميسر في كازينو لبنان دون سواه، إذ أراد المشرّع إطلاق الاستفادة من لعب القمار كركيزة سياحية واقتصادية، فألغى «الأذونات» التي كان معمولاً بها في المناطق وحصر حق استثمار ألعاب الميسر في نادٍ واحد، بهدف حصر المداخيل والحدّ من انتشار هذه الألعاب في كل شارع في لبنان. رست المناقصة على فكتور موسى وألبير منسّى وإميل خرّاط، وصدر مرسوم بترخيص شركة «كازينو لبنان» في 29 تموز 1957. وبعد نحو ثلاث سنوات من صدور المرسوم، قام مبنى الكازينو الجميل في منطقة المعاملتين على تلة خلابة تطلّ على خليج جونية. بلغت مساحة الكازينو حوالى 34 كلم2 وتمّ تدشينه في عهد الرئيس فؤاد شهاب (17 كانون الأول من العام 1959) في احتفال شكّل حدثًا لا ينتسى.

المكانة الدولية
بعد الافتتاح، رسّخ الكازينو مكانته بسرعة كأول مركز ترفيهي في منطقة الشرق الأوسط. وشهد حقبة ذهبية، حيث استضاف أشهر الأسماء العالمية سواء في ما يتعلق بالفرق أو بالفنانين وجذب ملايين السيّاح من مختلف أنحاء العالم.
عمل المخطّطون للكازينو على جعله مجمّعًا سياحيًا راقيًا. فهو يضمّ إلى جانب صالات الألعاب، حدائق للاستقبال ومطاعم، وصالة سفراء للاستعراضات الكبرى، اعتبرت من أضخم صالات الاستعراض في العالم وأجملها. أما مسرح الكازينو أو «تياترو لبنان» فكان يضاهي مسرح الأوبرا في باريس من حيث اتساعه (1350 مشاهدًا)، وتجهيزاته المتطورة وخشبته وكواليسه.
في مطلع الستينيات زارت كازينو لبنان أكبر الفرق الاستعراضية العالمية وقدّمت أعمالها الرائعة في «صالة السفراء»، أو على خشبة التياترو. وتوالت الاستعراضات التي كانت تقدّم على مدار السنة، ووصل عددها في بعض الأعوام إلى الخمسين استعراضًا عالميًا في سنة واحدة.
من خلال هذه الاستعراضات جذب الكازينو أعدادًا كبيرة من متذوّقي الفنون في الدول المجاورة وفي العالم البعيد، فضلاً عن اللبنانيين الذين تعرّفوا إلى فرق عالمية وتفاعلوا مع ما قدّمته من أعمال فنية راقية.
في العام 1961 تمّ التعاقد مع المخرج العالمي تشارلز هانشز الذي راح يقدّم في صالة السفراء الاستعراضات الضخمة، وأحدها (Mais Oui) عرض 1158 مرة وعلى مدى ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، فشاهده 562788 متفرّجًا، واعتبر استعراض العصر. العزّ الذي شهدته صالة السفراء دفع الصحافة العالمية إلى الحديث عنها، وفي أحد الأيام صدرت الأهرام المصرية وعلى صدر صفحتها الأولى صور من استعراضات هذه الصالة، وطالبت الحكومة المصرية بإنشاء صالة مماثلة لجذب السياح.
في العام نفسه التقت مي موسى (زوجة فكتور موسى) بسفير الولايات المتحدة وأخبرته عن المشاركة الأوروبية الفعالة في نشاطات الكازينو متسائلة: لماذا لا يقوم الأميركيون بخطوات مماثلة؟ اقترح عليها السفير أن تكتب رسالة إلى الرئيس جون كينيدي، ففعلت. بعد عشرة أيام وصل الجواب: أرسل كينيدي طائرتين إلى لبنان، الأولى تحمل أهم فنانة استعراضية في برودواي (هيلين هايز) وفرقتها، والثانية تحمل ديكورات الفرقة وأزياءها... تلك قصة من قصص كثيرة من أيام العزّ التي شهدها كازينو لبنان الذي وقف على مسرحه أعظم الفنانين العالميين، فمن جيلبير بيكو إلى جاك بريل وخوليو إيغليسياس وأدامو وداليدا وجوني هوليداي وكثر سواهم.
فيروز والأخوان رحباني أطلّوا على مسرح كازينو بأوبريت «الليل والقنديل» (1964)، وعلى الخشبة نفسها قدّمت فرقة «الأنوار» الفولكلورية استعراضاتها، إلى استعراضات، تحية كاريوكا ونجوى فؤاد وسامية جمال، وحفلات فريد الأطرش وآخرين.

دهاء وجمال... وسجاد أحمر
تمكّنت إدارة الكازينو من خطف مباريات انتخاب ملكة جمال أوروبا وتنظيمها في لبنان خمسة أعوام متتالية (1960-1965)، وكانت المرة الأولى التي تقام فيها هذه المباراة خارج أوروبا. والفضل بذلك يعود إلى الزوجين فكتور ومي موسى اللذين أقنعا رئيس لجنة الانتخاب الفرنسي بأهمية تنظيم هذا الحدث في لبنان، لأن الإلهة أوروبا هي ابنة ملك صور...
كانت خطة فكتور موسى ذكية وتتسم بالدهاء، إذ عرف أن 30 مرشّحة ستمثّل 30 دولة أوروبية، ولا بدّ من أن يرافق كل فتاة ما لا يقلّ عن عشرة صحافيين، أي ما يبلغ مجموعه 300 صحافي كانوا يزّودون صحفهم العالمية بتقارير يومية عن الكازينو، وبذلك استفاد من إعلانات مجانية أدرجت الكازينو ولبنان في الخريطة السياحية العالمية. وكانت لجنة الحكام تضمّ صحافيينّ وممثلين وكتّابًا، بينهم الكاتب جان بروس الذي اشتهر بمؤلفاته البوليسية، فألّف كتابًا تجري أحداثه في كازينو لبنان. وخلال تلك الأعوام الخمسة كتب مليون سطر عن لبنان في الصحافة العالمية. بعد ذلك نظّم الكازينو حفلات انتخاب ملكة جمال لبنان ثم ملكة جمال الكون في العام 1971.
إلى ذلك مدّ السجاد الأحمر على مداخل الكازينو ومن أبرز الشخصيات التي زارته الرئيس الأميركي ليندون جونسون، والعاهل الأردني الراحل الملك حسين، وشاه إيران محمد رضا بهلوي والأمير ألبير دو موناكوو والممثل عمر الشريف.
 

دور اقتصادي وإنمائي
أدّى الكازينو في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي دورًا، إنمائيًا واقتصاديًا لافتًا، وحقّق خلال هذه الفترة إيرادات مهمة كان للدولة جزء منها وللشركة جزء آخر.
وبفعل الإيرادات التي حققها، أمّن الكازينو فرص العمل، إضافة إلى تمويل العديد من المشاريع التي ساهمت بنهوض القطاع السياحي وازدهاره. وفي هذا الإطار تمّت إعادة تأهيل قصر الأمير أمين ومغارة جعيتا. وكذلك تمّ إنشاء مطعم في قلعة طرابلس، إضافة إلى افتتاح عشرات المكاتب السياحية في كل من باريس، لندن وروما. كما خصّصت نسبة 20 في المئة من عائدات الكازينو لمساعدة البلديات الصغرى في مشاريعها العمرانية والإنمائية، ونسبة مماثلة لوزارة الشؤون الاجتماعية بهدف دعم الجمعيات الخيرية...
تغيّرت الأحوال مع اندلاع الحرب في العام 1975، وولّت أيام العزّ. مع ذلك، ظلّ الكازينو يعمل بصورة متقطّعة وظلّ يحقّق الأرباح التي استفادت منها قوى الأمر الواقع. ووفق إحصاءات 1977 دخل 161 ألف شخص صالتي الألعاب في الكازينو وأنفقوا 31 مليون ونصف مليون ليرة. وقد تمكّنت الشركة خلال الفترة الممتدة بين العامين 1971 و1983، من شراء ربع أسهم كازينو مدريد.
بين 1989 و1990، عادت الحرب لتنهش ما تبقّى في الكازينو، فلحق به خراب هائل وتوقّف العمل في الصالات نهائيًا، بينما انتشرت الكازينوهات في بيروت وسواها من مناطق لبنانية.
 

30 مليون استرليني لمحو آثار الحرب
في العام 1995 وقّعت إدارة الكازينو اتفاقية جديدة مع الدولة اللبنانية (ممثلة بوزارتي المالية والسياحة)، يُسمح بموجبها للكازينو الاستثمار الحصري لألعاب الميسر على جميع الأراضي اللبنانية، لمدة 30 سنة، على أن تحصل الدولة على حصة تصاعدية من العائدات. ولا يزال كازينو لبنان شركة مساهمة لبنانية صاحبة امتياز حتى اليوم، رأس مالها 32 مليارًا و40 مليون ليرة لبنانية، ويملكها مساهمون تتوزّع نسب مساهمتهم كالآتي: شركة أنترا للاستثمار تملك 51 في المئة، علمًا أن الدولة اللبنانية تملك 48 في المئة من أسهم انترا (وزارة المال ومصرف لبنان)، وبالتالي تكون حصّة الدولة في الكازينو نحو 23 في المئة، وشركة أبيلا 15 في المئة، ومساهمون آخرون 34 في المئة.
وبناء على الاتفاقية المذكورة، أعيد افتتاح الكازينو في عهد الرئيس الراحل إلياس الهرواي (4 كانون الأول 1996)، وكتبت الصحافة العالمية والمحلية عن هذا الحدث الذي خصّصت له صحيفة إنكليزية أربعة أعمدة في صفحتها الأولى، وقالت «إن رمز العصر الذهبي للبنان أعاد فتح أبوابه، وإن محو آثار 15 عامًا من الحرب الأهلية كلّف 30مليون جنيه استرليني». 
بعد إعادة ترميمه وإنشاء أقسام جديدة فيه بما يتناسب مع ما كان عليه من عزّ وبما يضاهي مواصفات أبرز الكازينوهات في أوروبا، بدا الكازينو في حلّته الجديدة منارة ساطعة.
وإلى النشاط الذي عادت تشهده صالات الألعاب المتعدّدة المجهّزة بتقنيات متطورة، والمطاعم الفخمة، عادت العروض العالمية والمحلية إلى المسرح وصالة السفراء.
في العام 2004 احتلّ الكازينو المرتبة الثامنة عشرة في لائحة الكازينوهات المئة الأكثر نجاحًا ودينامية في العالم. وحسب الاتحاد العالمي للكازينوهات فقد حقّق الكازينو العديد من الإنجازات أبرزها ارتفاع نسبة أرباحه واستقبال أهم الفرق الاستعراضية العالمية.
 

لماذا؟
تستفيد خزينة الدولة اللبنانية اليوم من ضريبة 40 في المئة من عائدات الكازينو، يضاف إليها 15 في المئة من أرباحه. ووفق مصادر كازينو لبنان بلغت المداخيل 205 ملايين دولار في العام 2014، علمًا أنها سجلّت في العام 2010، 285 مليون دولار، كانت حصة الدولة منها 155 مليون دولار. ووفق المصادر نفسها، تدنّت مداخيل الكازينو كثيرًا في السنوات الثلاث الأخيرة.
لماذا؟ لسنا في موضع الإجابة عن هذا السؤال، خصوصًا أن الأسباب عديدة وتفنيدها بموضوعية يقتضي بحثًا مطوّلاً وفتح العديد من الملفات، حسبنا أننا ذكّرنا، ببعض ما كان عليه هذا المرفق الحيوي والمهم. فالكازينو الذي كانت صالات الألعاب فيه شاهدة على مآسي كثيرين غامروا فيها بكل ما يملكون، كانت جنباته الأخرى ساحة ثقافة وإشعاع وفن أبهرت العالم. واليوم يبدو بعيدًا من أيام عزّه بل إنه أقرب إلى زمن الفاقة...