في ثكناتنا

كتموا أوجاعهم ونهضوا...
إعداد: ندين البلعة خيرالله

مؤلم هو استرجاع تلك اللحظة «الكارثة»، «الكابوس»، «الصدمة»... اختلفت التسميات ولكن الواقعة وقعت وتداعياتها أصابت لبنان في قلبه وأطرافه. ما أصاب المواطنين من خسائر في الأرواح والممتلكات، أصاب عدة مواقع عسكرية. فقد عاشت هذه المواقع صدمة انفجار المرفأ بكل ثقلها، إذ خسرت ثمانية شهداء وأصيب المئات من عسكرييها، كما تعرضت مبانيها لأضرار بالغة.

 

منذ اللحظة الأولى للانفجار تعالى الجيش على جراحه، عدّ عديده، أسعف مصابيه، وهبّ ليمدّ يد المساعدة لوطنٍ عصفت به المصائب وما رحمته. وقْع اللحظات الأولى للانفجار في ثكناتنا ومواقعنا المتمركزة في محيط المرفأ، الخسائر البشرية والأضرار المادية، وورشة لملمة الجراح ومعالجة الدمار في جولة لـ«الجيش».

بدأنا الجولة من ثكنة الكرنتينا حيث مكاتب مديرية التوجيه وفرع مخابرات بيروت وفوج موسيقى الجيش، وتوجهنا بعدها إلى فوج المدفعية الأول، ففوج التدخل الثالث والقاعدة البحرية في بيروت...

مزيج من الحياة والموت، العمار والدمار، الأمل والخيبة، وعبارات من نوع: «اعتقدنا أنّه اعتداء إسرائيلي»، «زمطنا»، «الله ستر»، «فَرَقِت على دقيقة». أما ما لاحظناه بوضوح، فهو الرغبة في الاستيقاظ من هذا الكابوس الذي خطف رفاقًا، وخلّف الجراح والأوجاع لدى آخرين، ودمّر ما بُني على مدى عشرات السنين.

لحظة وقوع الانفجار كانت الأولويات هي نفسها لدى الجميع: تعداد العسكريين وإسعاف المصابين، التأكد من عدم وجود مفقودين أو مُحتجزين تحت الركام، مساعدة المدنيين في المحيط، ومن ثم تقييم الخسائر، ليبدأ في اليوم التالي مباشرةً، العمل على إزالة الركام والدمار ومحاولة إعادة الوضع إلى ما كان عليه.

 

مكاتبنا في الكرنتينا

لحظات بعد الانفجار، لم يبقَ شيء كما كان في ثكنة الكرنتينا: لا زجاج، ولا أبواب، ولا خزائن... كارثة، كل شيء تحوّل إلى ركام. عشرات العناصر كانوا في الثكنة، والتعليق الأول على ما وقع: «الحمدلله لم يحدث الانفجار في الدوام الرسمي للعمل»!

في أقسام الإدارة والتخطيط والرصد والمطبوعات ٨ عناصر أصيب منهم ٣ إصابات طفيفة من جرّاء العصف وأُسعفوا فورًا بعد أن تمّ نقلهم إلى المستشفى. العمل في الثكنة بدأ على الفور ولم يتوقف. بدأ العناصر بإزالة الردم والزجاج المكسور عاملين بكل جهدٍ واندفاع لإعادة المركز إلى ما كان عليه، بمساعدة فوج الأشغال المستقل ومديرية الهندسة.

ورشة على عدّة جبهات بالتوازي، لا وقت للراحة، المشهد المحزن يجب أن يتبدد لتعود الحياة إلى مجراها. «أمام مصائب الآخرين تهون مصيبتنا»، يقول العسكريون، قلوبهم مع مواطنيهم ومدينتهم الرازحة تحت الدمار. سوف يعيد اللبنانيون بناء مدينتهم بسرعة برأي العسكريين، لكن كيف السبيل إلى معالجة ألم خسارة الأحباء؟

 

فوج الموسيقى: ٢٠ إصابة

في مباني موسيقى الجيش التي تهدّمت بشكلٍ جزئي، ورشة لا تقلّ حركة وإصرارًا عن تلك التي تشهدها مباني التوجيه... أُصيب ٢٠ من بين ٦٤ عنصرًا كانوا في الخدمة، بينهم ٣ حالات دقيقة، أُسعفوا جميعًا ونُقلوا إلى المستشفيات بالآليات مع أنّها تضررت أيضًا. قرب مباني الموسيقى تتمركز وحدة إيطالية تابعة لقوات اليونيفيل، أصيب عدد من عناصرها، فأسعفهم عناصر من الموسيقى ونقلوهم بآلياتهم إلى المستشفى.

شعر الموجودون داخل الثكنة بأنّ الجدران تهتزّ ورأوا قطع الحديد المتطايرة من المرفأ وصولًا إلى ساحة العلم. كان المدنيون في حالة هلع، يلجأون إلى مدخل الثكنة طلبًا للمساعدة والحماية، فتلقوا المساعدة اللازمة لكن لم يكن ممكنًا إدخالهم إلى الثكنة التي تصدّعت جدرانها وباتت تشكل خطرًا.

تتضمن ثكنة الكرنتينا منشآت مسبقة الصنع وأسقفًا مستعارة، وقد تدمّرت بشكلٍ كامل، وبات الهم الأساسي تأمين منامة للعسكريين قبل بدء فصل الشتاء. كذلك تضرّرت أماكن التدريب ومشغل الآليات وبيت الجندي، ناهيك عن تعطّل الشبكة الكهربائية التي عُمل فورًا على عزلها تجنّبًا لأي خطر إضافي. الشبكة المائية التي تغذّي الثكنة تعطلت بدورها.

أعاد فوج الموسيقى تنظيم الحياة في المركز منذ اليوم الأول الذي أعقب الكارثة، واستمر بتنفيذ مهماته التي تكاثرت في الآونة الأخيرة مع وصول العديد من الشخصيات الرسمية إلى لبنان على أثر الانفجار، وذلك على الرغم من الأضرار التي أصابت بعض الآلات الموسيقية والتي يُعمل على مساعفتها بالإمكانات المتوافرة.

هذا المشهد العام للدمار والفوضى والحزن الذي يخيّم في الأماكن، تمحوه حماسة عسكريين يعملون من دون توقّف لإعادة كل شيء أفضل ممّا كان عليه، ما يؤكّد قناعة أنّ «الجندي اللبناني لا يموت إلّا وقوفًا، مرفوع الرأس» كما يقول أحد ضباط فوج الموسيقى.

 

فوج المدفعية الأول: ٤ شهداء و٧٧ إصابة

أطلع النقيب الشهيد أيمن نور الدين (الذي كان ضابط دوام في سرية المدفعية التابعة لحرس المرفأ) قائد فوج المدفعية الأول على الحريق الذي كان يشتعل على مقربة من مركزه، فاستُنفِر العناصر في الثكنتَين (في الكرنتينا والمرفأ)، والذين بلغ عددهم ٦٥٪ من عديد الفوج، وأُمروا باتخاذ تدابير الحماية. ولكن فجأةً، سُمع صفير قوي هائل، وخلال أجزاء من الثانيـة هبّـت ريـح ساخنـة وعصـف الانفجـار.

تمّ نقل الإصابات وبينها قائد الفوج، إلى المستشفيات، ولم يكن الأمر سهلًا إذ اقتضى جولة على عدة مستشفيات قبل توافر أماكن لمصابي الفوج الذي وصل عدد شهدائه إلى ٤ وعدد مصابيه إلى ٧٧.

عملت قيادة الفوج وفروعه على التأكد من عدم وجود مفقودين، ومعرفة الأماكن التي نُقل إليها المصابون. ثم بدأ العمل على تقييم الأضرار ومعالجة تلك التي تشكّل خطرًا (مخازن الذخيرة ومحطة المحروقات).

أعطى قائد الجيش الأفضلية في إصلاح الأضرار للقطع الأكثر تضرّرًا ومنها فوج المدفعية الأول، فباشر الجميع العمل بالجهود الخاصة وبمساعدة فوج الأشغال المستقل واللواء اللوجستي. بدأ التصليح وفق الأولويات: ذخيرة ومواد ملتهبة، مخازن أسلحة ومنامة العسكريين.

 

ليلة الكارثة: دوريات لمنع السرقة

رفع الفوج نسبة الجهوزية للموازنة بين تنفيذ المهمات وورشة إعادة الإعمار القائمة في المراكز. القيادة أخذت بعين الاعتبار وضع الفوج وخفّفت عنه أعباء المهمات، ولكنّ وحداته جاهزة متى تطلّب الأمر التدخل. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الفوج تَواصل ليلة الكارثة مع مديرية العمليات وسيّر الدوريات في شوارع الكرنتينا لمنع أعمال السرقة على الرغم من نكبته! وهو اليوم يهتم بتنظيم حركة الجمعيات الأهلية والمتطوعين الذين يمدّون يد المساعدة لأهالي المنطقة.

من هذا المركز خرجنا بخلاصة: قدر العسكري ألّا يفكر بمصيبته أو بنفسه، بل بمن حوله، فهو يدرك أنّ الجيش هو للأوقات الصعبة.

 

فوج التدخل الثالث: الاجتماع المسائي أنقذ العسكريين

في سرية القيادة والخدمة التابعة لفوج التدخل الثالث والمتمركزة في الكرنتينا، «الله ستر»! فكان الاجتماع المسائي الاعتيادي للعسكريين هو منقذهم، ولم يُصب إلّا من تأخر أو بقي لسبب ما في غرفته. تدمّرت المباني، وقعت الجدران، وأُصيب ضابط الدوام و١٦ عسكريًا من أصل ٧٢ كانوا موجودين في الثكنة.

عسكريًا، كان الهم الأساس الاطمئنان على حال المصابين الذين نُقلوا إلى المستشفيات، ومن ثم التأكد من وضع الآليات (تضرّرت ٥٤ آلية من أصل ٨٩)، تفقّد مخازن الأسلحة والذخيرة ومعالجة الأضرار فيها... وقد تضرّرت المشاغل في السرية التي تتولى جميع أعمال الصيانة للفوج.

وضعت أمرة السرية هدفًا أساسيًا نصب عينَيها ألا وهو التخلّص من كل آثار الضربة بالقدرات الخاصة، والتأكد من جهوز غرف العسكريين في أسرع وقت ممكن. وها هي بعد ١٣ يومًا من وقوع الكارثة، تنفّذ المهمات على أكمل وجه، ترسل فصيلة يوميًا إلى المرفأ، وتستقبل فرقًا أجنبية قادمة للمساعدة، وتقدّم التنسيق اللوجستي للمستشفى الميداني المغربي...

وبعد... كل مصيبة تجعلنا أقوى وأكثر إصرارًا ومثابرة، نعمل يدًا واحدة وكل ما نقوم به يبقى لفتة وفاء لشهدائنا!

 

القوات البحرية: في قلب الكارثة

هنا «فرقت على دقيقة» مع معظم العسكريين، وشكّلت إهراءات القمح جدارًا خفّف من قوة عصف الانفجار على القاعدة البحرية، التي اعتقد عناصرها للوهلة الأولى أنّهم يتعرّضون لاعتداء. خسرت القاعدة البحرية عنصرَين من عناصر الارتباط على المرفأ، الذين يتواصلون مع المراكب الأجنبية، وبالإضافة إلى الشهيدين، أُصيب ٨ ضباط و٦٠ رتيبًا وفردًا إصابات راوحت بين المتوسطة والخفيفة.

كان عناصر القوات البحرية أول الواصلين إلى نقطة الانفجار على المرفأ، فقد أُغلقت الطرقات ولم يكن الوصول ممكنًا إلّا بحرًا. وصلت زوارق البحرية وبدأت إخلاء الجرحى الذين كانوا مازالوا على قيد الحياة... مشاهدات مروّعة، أصوات استغاثة تصدر من المباني المجاورة. حاول الضباط مع عسكرييهم السيطرة على الوضع وتقديم المساعدة. وتوزّعت فرق عملت داخل الثكنة بحسب الأولويات، بينما كانت فرق أخرى تتولى العمل على الطريق وفي محيط القاعدة، مقدّمةً المساعدة والدعم.

بعض المراكب رفعها عصف المياه إلى الرصيف، الأضرار في معظمها قابلة للمعالجة، لكن ثمة مركب واحد طوله ١٤ مترًا بات للتنفية. الأضرار الأخرى أيضًا جسيمة، فهذه القاعدة التي تُعتبر من أحدث المراكز العسكرية وأكثرها ترتيبًا، تعاني اليوم دمارًا مخيفًا: توقّف المطبخ الذي يغذّي حوالى ٢٥٠٠ عسكري (في القاعدة والوحدات المنتشرة في القطاع)، أضرار كبيرة في ٣ مشاغل، وفي المنشآت المسبقة التصنيع الخاصة بكتيبة المراقبة والإنذار، فضلًا عن الأسقف والشبابيك والأبواب والكمبيوترات...

على الرغم من هول الأضرار، كان الوضع قد تحسن بنسبة ٩٠ في المئة بعد أيام من الكارثة. عملت كل سرية على لملمة مصابها. فلا وقت للتململ أو التلكّؤ... الألم الذي سببه فقدان الشهداء وما أصاب العاصمة كبير، لكن الواجب يحتم النهوض بسرعة وإعادة بناء ما دمّره الانفجار. «باختصار، ليس أمامنا سوى أن نبقى أقوياء ونلتزم واجباتنا» يقول أحد العسكريين الذي كان في عداد المصابين وقد عاد إلى عمله.

في المراكز والثكنات التي زرناها (كما في سواها) رجال مندفعون، يكتمون وجعهم ويهبّون للمساعدة... لا يرفضون نداءً ولا يؤخّرهم حزن. تزيدهم الكارثة حماسةً وإصرارًا، يفرحون مع كل جدار يعيدون بناءه ، وكل غرفة ينظّفونها، وكل آلة يصلحونها... ما قصّروا يومًا، ولن يقصّروا، وسيبقى الجيش ملاذ اللبنانيين، على أمل أن «تنذكر وما تنعاد»...