بلى فلسفة

كذّاااااب
إعداد: العقيد أسعد مخول

اشتهـر في ضيعتي نبع ماء ناداه الناس “نبع الحور”, كان موكب خيراته يتهادى بين الحقول والوهاد حاملاً هو الآخر اسم “ساقية الحور”, وذلك لانتشار تلك الأشجار المحبوبة حول النّبع وحول السّاقية, ترتوي من الأوّل على مدى الأيّام, وتظلّـل الثانية في ساعات الهجير. ودرج الشّاعر هناك على التغنّي بالنّبع وجاراته الحسان, وكان من نبوغه أدب جميـل جاوزت قيمتـه حدود الحـور علوّاً في الفضاء, كما أنّـه كاد يتفوّق, شفافية وإغراء وحلاوة, على البحتري وصّاف الجمال الطبيعي حين قال:

 

أتاك الرّبيع الطلق يختال ضاحكاً
                                  على الحسن حتى كاد أن يتكلّما

 

وكان الشّاعر ذاك يسلّم الرايّة الى شاعر آخر... وهكذا دواليكم, لأنّ في الأمر رسالة جمال يجب أن تدوم ما دام الدفق في النّبع, وما دام التّصفيق الحلو الرشيق في الورق الأخضر, خصوصاً في هدأة الليل حين يطيب الغناء, وحين لا ضوء إلاّ ضوء القمر, ولا خير إلاّ في الشّتول الهانئة تحت القطرات الصغيرة.
لكنّ النّبع جفّ عندنا, ليس بسحر ساحر إنّما بفعل فاعل, ورجعت أشجار الحور الى الأعماق خائبة منطوية على جذورها, مخلّفة بعض الجذوع اليابسة وقد سُلخت جلودها وشوّهت قاماتها. وضرب الحطّابون فؤوسهم في تلك الضحايا, ثم أعرضوا عنها لقساوتها, وربّما لمرارة طعمها في النّيران, فهذه غالباً ما تميل الى الكيانات الخضراء طلباً لفداحة الحدث وقساوة الإجراء.
وبتّ أرى طيوراً تحاول أن تلقي بخفّة أرواحها فوق الغصون مصفّقة بأجنحتها وكأنّها على أهبة أن تحطّ وتستريح وتشدو, لكنها كانت تعود خائبة مصدومة حائرة, وتمضي الى أماكن بعيدة لا يزال للجمال بين ربوعها مقام.
النّسيم هو الآخر, النّسيم الذي كانت له حكاياته همساً ولمساً مع النباتات الملوّنة, فلكم استمهلته واستوقفته فهدأ وأقام وأطال, وخالف تعاليم أهل الرّيح التي أنشأته على العصف والقصف وجنون الهبوب, فغيّر طبعه وصار يهبّ هادئاً لطيفاً حفيفاً... النّسيم, ذاك المدغدغ المشهور, وقع ضحيّة الفراغ والمجهول, فبدأ يعبر مسرعاً قلقاً لا يطيب له مقام ولا تحلو منزلة. فلا زهرة حمراء تلقاه, ولا نبتة ناشئة, ولا غصن باسق, ولا ورق نضر أخضر...
كل ذلك الجدب والنّهب والسّلب, والشاعر ماضٍ في وصف النّبع وفي التغنّي بالساقية, وفي دعوة النّاس الى أعياد الحور الراقص, فكأنّ الخير ما زال يفيض, وكأن الجمال ما زال يخلع رداءه على التّلال.
يتغنّى ويطنب في الكلام ويوغل في الخيال والمحال. يحكي عن البستان والوزّال والطيور المغرّدة, ويصف لقاء العاشقين في ظلّ الصفصاف والسنديان, وقد تركوا جرارهم الحمراء عند صدر النّبع تكرّ فيها الماء, تملأها, وتستمر هادرة فيها بدون حساب.
أما رأى الشّاعر جذوعاً مقطوعة وصخوراً مهشّمة يا ترى؟
ألم تحطّم أعصابه الدروب الغارقة في الظلمة, والتي لم تعد تعبرها قدم, أو تصدح عند منعطفاتها حنجرة؟ هل تثير غناءه “المستغرب والمستهجن” سنابل أو زنابق أو أطياب؟
لن أسألك عن البلبل يا شاعر البلاد... لقد هجرنا البلبل واختفى, لكنّني اكتفي بالسّؤال عن أيّ ذي جناح... عن البومة نفسها, البومة البومة... هل تجد البومة في جنائنك المزعومة غصناً تشكو فوقه همّاً, أو تطلق نعيباً, أو تُمضي ليلاً طويلاً؟ لن أسألك أين يشدو البلبل, يا شاعر البلاد, أسألك أين تشكو البومة على الأقل. ولتكن هذه السوداء القاتمة الوجه الآخر للبلبل, ألا تذكّرنا البومة بأنه ما زال للطيور أثر, وأنّ في ضيعتنا غصناً لم يقطعه قاطع؟
وأسألك, هل يسهل لديك إنكار الحقيقة الى هذا الحدّ, فتتجاهل وتتناسى أنّ في الأرض بوراً, وأنّ في الكروم عناقيد يابسة, وأنّ في الخوابي خواءً خبيثاً ينتظر الأعاجيب؟
... صُوَر متلاحقة في الذاكرة, متوقّفة جامدة في العين وبين أصابع اليدين, لكأنّ “أعذب الشعر أكذبه” أحجيـة كافـية لتبرير ما يحصل... حناجر ترفع الصوت بالكذب, تبني السعد بالوعد, تسدّ الرمـق بالكؤوس الفارغة. الشاعر في ضيعتي كاذب كاذب, لا بل كذّاب. ولكي أحرّر الحرف من الشَّدّة والمماطلة أدعوه وأسمّيه: “كذ... ذاب”!