ثقافة وفنون

كرم ملحم كرم
إعداد: وفيق غريزي

كرّس حياته للقلم والكتاب

عصامي فذّ أمضى حياته القصيرة رهين «المحبسين» قلمه والكتاب. فكرم ملحم كرم لم يكن لديه وقت لغير العمل وراء مكتبه صباح مساء وأحياناً حتى صياح الديك. قلمه سيّال غرف من بحر، فجاء غرفه على الغالب كأنه نحت من صخر. كان يكتب موضوعين أو ثلاثة في آن واحد. يكتب على ورقة الجزء الأول من موضوع ما ثم ينتقل الى ورقة ثانية ليكتب الموضوع الثاني، ثم الى الثالثة ليكتب الموضوع الأخير. يملأ القصاصة بعد القصاصة ويلقم بها المطبعة. وإذا سئل كيف يمكنه أن يقوم بكل ذلك وحده صاح: «أنا غب (رب) من كتب».

 

سيرته
ولد كرم ملحم كرم في الخامس من آذار 1903 في بلدة دير القمر - قضاء الشوف. والده ملحم شاهين أبو كرم من مزرعة الشوف، وبحكم علمه سكن في دير القمر. أمه سوسان يوسف الأسمر من دير القمر، والتي بعد ترمّلها تولّت أمر ولدها بحزم وحكمة. في هذه البلدة تلقى كرم دراسته الابتدائية في معهد الأخوة المريميين طوال تسع سنوات وتابع الدراسة في المعهد نفسه، في جونيه، ثم في المعهد الأنطوني في بعبدا، فتميّز بحدة الذكاء والتفوق في الأدبين العربي والفرنسي والفلسفة. ولما أغلق المعهد الأنطوني أبوابه تقرّب كرم ملحم كرم من نعّوم افرام البستاني صاحب جريدة «دير القمر»، وبدأ يكتب على صفحاتها معاوناً صاحبها في الكثير من أعماله، حتى أنه كان يتسلّم أمر تحرير الجريدة في غياب «المعلم نعّوم».

 

القاص والصحافي
برزت موهبة كرم ملحم كرم القصصية منذ حداثته. كان، وهو في عقده الأول، يجمع أترابه في حوش المدرسة ويروي لهم حكاية خيالية ينسبها الى أمه أو الى جدته لكي يحملهم على سماعها. ولما ضاق بدير القمر وآفاقها، راح يراسل الصحف في بيروت التي كانت نشرت مقالاته الأولى فاغتبط وتشجّع، وزاده اغتباطاً أن صحف القاهرة في ذلك الحين نقلت قصة كتبها هو لجريدة «دير القمر» تحت عنوان «عاد الامبراطور غليوم»، ونشرت في ذلك الحين مصوّرة. ولكن مقالاته ما كانت لتدرّ عليه مالاً يقيه العوز فعمل في محل خاله للصياغة من دون أن يتوقف عن الكتابة أو المطالعة. أعجب الأخطل الصغير - بشارة الخوري - بمقدرة كرم الصحافية فدعاه العام 1923 الى العمل في صحيفته «البرق». وهكذا تحقّق حلمه في الأدب فانتقل الى بيروت للعمل في «البرق»، ثم في مجلة «الإصلاح» الأسبوعية التي أصدرها يوسف غنّام ثابت.
زاول كرم ملحم كرم الصحافة في عدة جرائد منها: لسان الحال، الأحرار، الأحوال، الراية، الراصد، والمعرض، وراسل صحفاً لبنانية في مصر ونيويورك.
تولى تحرير ثلاث صحف يومية في آن واحد، وكان يكتب ثلاث مقالات: المقال الرئيس، التعليق اليومي المحلي، والتعليق في السياسة الخارجية. وكان من الصحافيين الأوّلين الذين وضعوا المانشيت الكبرى في الصحف وأنمى فن الكاريكاتور الذي كان يرسمه له السيد عزت خورشيد مدير المراسم في ما بعد. كما كان أول صحافي يدخل التبويب الحديث على الصحف، وأول من فتح باب السياسة العالمية وأطل على الحوادث بعين ترى وراء الأبعاد. وعرف في الصحافة بشدة بطشه فلم تسلم معه جريدة من التعطيل.
العام 1928 أنشأ كرم ملحم كرم مجلة أسبوعية قصصية أسماها «ألف ليلة وليلة» كانت الأولى من نوعها في لغة الضاد، وقد ظل يصدرها ستة وعشرين عاماً حتى بلغ ما كتبه فيها ألف قصة وقصتين متحدياً بذلك بطلة «ألف ليلة وليلة» شهرزاد، ومن كلماته آنذاك: اليوم انتصرنا على شهرزاد.
العام 1929 تزوّج من نسيبته اميلي ابنة خال خليل يوسف الأسمر، وأنجبا ابنين هما المحامي عصام، نقيب المحامين في بيروت سابقاً، وملحم نقيب المحررين وابنتين هما سوزان ومها. والعام 1930 أنشأ مجلة «العاصفة» الأسبوعية السياسية وعاونه في تحريرها الشاعر الياس أبو شبكة، بطرس البستاني، مراد أبي نادر، ونجيب الريّس. وقد عاشت سنتين لا أكثر لأن التعطيل الإداري لاحقها كمثل الخطيئة؛ سنتان قال خلالهما كل ما يقوله ذوو الأنفة في المنتَدَبين، في مصادري السلطة من أهل البلد.
العام 1932 أصدر مجلة «الأسرار» التي تناول فيها خفايا الأحداث التاريخية. ولكن اهتمامه الصحافي حال دون اهتمامه برفع شأن الأدب والأدباء عن طريق توحيد كلمتهم وجمع شملهم في رابطة. دعا العام 1933 في «العاصفة» الى إنشاء «الجامعة الأدبية في لبنان» وقام باتصالات شتى بهذا الصدد، واستطاع النجاح بعصبة من أهل الإبداع. بعد توقف العاصفة شرع يكتب في مجلة «المعرض»، وكان من أنصار «عصبة العشرة» التي تولّت الحقل الثقافي فيها.
رشّح نفسه للانتخابات النيابية عن دائرة الشوف، ولما رأى أن رياح السياسة لا تؤاتيه إنسحب قبل بدء المعركة الإنتخابية. في نهاية العام 1953 قرّر إيقاف «ألف ليلة وليلة» والانصراف الى طبع رواياته المخطوطة. ولكن الحنين الى الصحافة عاوده فاشترى العام 1956 مجلة «المجالس» ليصدرها مع ولديه عصام وملحم.
العام 1959 سقط في بلدة رشميا مصيفه ذلك العام، من علو يناهز المترين ونصف المتر على سطح خزان للمياه تحت الطريق، فأصيب بنزيف داخلي في رأسه، وغاب عن الوعي ثم ما لبث أن فارق الحياة في 3 أيلول 1959.

 

ثقافته ونقده
تميّز كرم ملحم كرم بثقافته الواسعة، فقد وجد في الكتاب والقلم صديقيه الوفيين. إطلع على الأدب العربي القديم والجديد. أقبل بشغف على قراءة القرآن الكريم والإنجيل المقدّس وكليلة ودمنة والجاحظ والمتنبي وإبن خلدون والبساتنة واليازجيين والشدياق والأدب المهجري. كما اطلع على روائع الأدب العالمي وخصوصاً الفرنسي وأعجب ببلزاك وغي ده موباسان وباسكال وڤولتير واندريه موروا وهنري ده مونترلان واندريه جيد ومارسيل بروست فضلاً عن الأدب القصصي الروسي.
هذا وقد مارس كرم ملحم كرم النقد الأدبي بأسلوب علمي، إنطلق من عرض الكتاب المنقود وتحليله الى تقويمه من دون محاباة متوقفاً في نقده عند المبنى بنوع خاص. ولم يتبع بنقده مدرسة نقدية معيّنة بل ذائقته الفنية. ساعدته ثقافته في الآداب العالمية على المقارنة بين النقد العربي والنقد في الأدب الغربي، إضافة الى النقد في الأدب القديم والأدب الحديث.
لغة كرم الروائية مصنوعة بمهارة لا تتخلى لحظة عن فصاحتها المشرقة وبلاغتها المرنة ولا عن المحسنات البديعية والبيانية، لكنه يجنح أحياناً الى استعمال ألفاظ مستغربة تحتاج الى قواميس.
استطاع كرم ملحم كرم أن يشهد على أبرز التحولات التي عرفها الصف الأول من القرن العشرين كنهاية الحكم العثماني والحربين العالميتين والانتدابين الفرنسي والبريطاني والإستقلال. وكان له دور في معركة الاستقلال ضد الانتداب الفرنسي وخوضه معركة الدستور ورفضه مبدأ خدمة العلم تحت راية الانتداب، وقد دخل السجن عدة مرات لجرأته في محاربة السلطات.
نذر كرم ملحم كرم حياته للقلم والكتاب. كان يعمل ست عشرة ساعة في اليوم، لا يخرج من منزله أو من مكتبه إلا في مناسبات ملحّة قليلة، ولكنه كرّس يوم الأحد لعائلته. لم يصادق أحداً لمصلحة، بل لمحبة وتقدير، ولا وارب في قول الحق ولا ساوم على مبدأ ولا انحنى أمام مستبد، ولا احتقر من هو أدنى منزلة منه. «أن تكون القدوة» كان شعاره.
في رثائه قال سعيد عقل:
«يا كرم إن آلهات البحر على شواطئنا ستفتش طويلاً عن الريشة التي من أجلهن ولوصفهن بُريت، فيعدن كاسفات البال نائحات.
بلى، من أدوات السحر في لبنان ضاعت واحدة».


مؤلفات كرم ملحم كرم


• أم البنين.
• صقر قريش.
• دمعة يزيد.
• إنتقام الخيزران.
• وامعتصماه.
• قهقهة الجزار.
• أشباح القرية.
• أطياف من لبنان.
• المصدور.
• صرخة الألم.
• المجنون.
• لبنى ذات الطيوب.
• قطاف العناقيد.
• بونا أنطون.
• عفراء.
• أبو جعفر المنصور.
• يسرى شمعون.
• جفاف الزيزفون.
• الشيخ قرير العين.
• الضفاف الحمر.

بالإضافة الى غيرها الكثير، والمخطوطات المنتظرة كلها النشر وإعادة النشر ليعود الى لغة الضاد رونقها.

 

كرم ملحم كرم والمعجم
يروي نقيب المحامين السابق عصام كرم عن والده قصته مع المعجم فيقول: «مرة، وكنا صغاراً بعدُ، دخل علينا في غرفة نومنا أنا وملحم. فقال: ماذا تعملان؟ قلنا: نقرأ كما ترى. فقال:«تقرآن بدون معجم؟ هذا يدلّ على شيئين ليس كلاهما في مصلحتكما. إما أنكما تعرفان المعجم حتى لتستغنيا عنه، وهذا غير صحيح. وإما أنكما تجانبان المعجم، وهذا لا يجوز». وقال: أنا لا أقرأ ولا أكتب إلا والمعجم خديني. لذلك أتجنّب، ما استطعتُ، السقوط في المتاهات.


قصة كرم ملحم كرم مع حرف الراء
كان حرف «الراء» معضلة حرمت كرم ملحم كرم متعة الحوار والحديث. فكان يتجنّب لفظه عندما يُسأل عن إسمه وشهرته، فيغيّر مسار الحوار كي لا يضطر الى القول «كغم ملحم كغم». كان في محاضراته يتحاشى هذا الحرف فإذا كان كلام على «مصر» قال «وادي النيل»، وإذا كان كلام على «السيّارة» قال «ذات الدواليب». وقد اضطر ذات يوم الى حذف كل العبارات التي تضمّنت حرف الراء في خطاب كان يستعد لإلقائه أمام جمهور. وعندما عجز أمام إسمي جان جاك روسو وڤيكتور هوغو عمّ التصفيق أرجاء القاعة. وقال غابي اسكندر حداد يومذاك مازحاً: «لقد تمكّن الأديبان من غلب كرم ملحم كرم، فهنيئاً لهما».