أماكن وذكريات

كفرشيما بلدة الفنانين والأدباء والشعراء تكرّم أبناءها
إعداد: جان دارك أبي ياغي

هنا ولدوا وعاشوا ونمت بذور إبداعهم

 

ارتبط اسمها بأسماء كبار خرجوا من رحمها ونثروا فكرهم وأدبهم وشِعرهم وفنهم وموسيقاهم في أرجاء الوطن وفي العالم كله. هي بلدة كفرشيما التي ما زالت تحافظ على مظهر القرية اللبنانية الغنية ببيوتها التراثية القديمة. بيوت احتضنت كبارًا أثرَوا الحركة الأدبية والصحافية والفنية في لبنان. في هذا التحقيق نسلّط الضوء على المشروع الثقافي لبلدية كفرشيما، الذي أضاء بيوتها وشوارعها وأعاد الحياة إلى أعلامها.

 

المشروع فرض نفسه
المشروع التراثي والثقافي «هنا عاش» الذي نفّذته البلدية، أخذنا إلى كفرشيما حيث تعرّفنا إلى أماكن ترعرع فيها رعيل من المبدعين والفنانين وأعلام الصحافة، الذين أعادت البلدية إضاءة بيوتهم ووضعت إشارات تدلّ إليها.
فكرة المشروع هي التي فرضت نفسها على البلدة، يقول رئيس بلديتها المحامي وسيم الرجّي، نظرًا إلى الكمّ الهائل من المفكّرين والأدباء والشعراء والفنانين والموسيقيين من أبناء كفرشيما، وكأنّ هواء هذه البلدة يتولّى نقل «عدوى الإبداع» إلى من ترعرعوا فيها. من هنا كان سعي البلدية إلى إنشاء متحف ومركز ثقافي يضمّ إرث أعلام كفرشيما. بدأ العمل على إنجاز الخطوة الأولى من هذا المشروع والتي تقضي بتكليف فريق عمل لجمع أرشيف أعلام البلدة. وقد توصّل فريق العمل لغاية اليوم إلى إحصاء حوالى 105 شخصيات من كفرشيما لمعوا في زمنهم، وأدّوا أدوارًا بارزة في مجالات عملهم وإنتاجهم. غالبية هذه الأسماء عُرفت محليًّا وعربيًّا وإن تفاوتت شهرة كلٍ منهم بحسب مجاله وظروفه.
خصّصت البلدية مكتبة لجمع أرشيف هؤلاء وأعمالهم من كتب ومؤلفات تمهيدًا لنقلها إلى المتحف المنوي إنشاؤه في المبنى الأثري في البلدة بعد امتلاكه (المفاوضات جارية) والذي يعود إلى الحقبة الشهابية. قبل الحرب اللبنانية، شغل هذا المبنى نادي الأدب والرياضة الذي تأسس في العام 1947، وافتتحه يومها الرئيس بشاره الخوري. ومع انطلاق الحرب في العام 1975، أقفل النادي وأهمل المبنى.

مشروع «هنا عاش» كناية عن لوحة تحمل إسم الشخص المكرّم بأحرفٍ ذهبية مع الإشارة إلى الفترة التي عاش فيها وإلى المجال الذي عمل فيه، وحفرت على مدخل منزله. إلّا أنّ المشروع لم يشمل الأسماء الـ105 التي تضمّنها الإحصاء، بل فقط حوالى 40 إسمًا من الذين ما زالت منازلهم التي سكنوها في الماضي قائمة وإن لم تعد اليوم ملكًا لورثتهم.
أهل البلدة رحّبوا بالمبادرة وأثنوا عليها، معتبرين أنّها تعيد إحياء تراث مبدعين تفتخر بهم كفرشيما، وتجعل ذكراهم حاضرة. فالجيل الجديد من أبناء كفرشيما يجهل روّادها، ومعظمهم لا يعرفون مثلًا مَنْ هو اليازجي أو الشميّل أو حليم الرومي وغيرهم...
يتحدّث رئيس البلدية عن بعض الصعوبات لناحية جمع المعلومات والمواد العائدة لهؤلاء الكبار من مصادرها، ويقول: من الصعب أحيانًا إقناع ذويهم بضرورة تزويدنا نسخة عن الأرشيف الذي بحوزتهم، لكن فريق العمل يعمل ما بوسعه لتخطّي هذه الصعوبة من خلال الحوار مع المعنيين بالإضافة إلى التواصل مع الجامعات والبحث في أرشيف الصحف القديمة.
وختم قائلًا: كان من الضروري القيام بهذه الخطوة، فنحن نرتكب جريمة بحق تاريخنا الثقافي والفني والأدبي إذا أهملنا الإضاءة على روّاده. وقريبًا، سوف تشهد البلدة إقامة نصب تذكارية لمبدعي كفرشيما، وأول الغيث تمثال لشيخ الملحّنين فيلمون وهبه في الشارع الذي يحمل اسمه، وآخر للموسيقار ملحم بركات.

 

في منزل شيخ الملحّنين
في منزل شيخ الملحّنين فيلمون وهبه، استقبلنا نجله عماد الذي رحّب بالمشروع ونوّه بجهود رئيس البلدية وفريق العمل، ومن بينهم الناشط ثقافيًّا الجندي أمير هليّل الذي يستهويه التراث وتوثيقه، وعضو البلدية الأستاذ طوني سليمان. وأبدى عماد باسم ورثة فيلمون وهبه الاستعداد الكامل لتقديم أرشيف والده إلى متحف البلدية حيث يحفظ ويكون بمتناول أهل كفرشيما، ومرجعًا لكل طالبي العلم الذين يتناولون فيلمون وهبه في أطروحاتهم.
في أثناء تجوالنا في البلدة، نلتقي أحد أبنائها المغتربين سمير وهبه الذي هاجر في العام 1975 إلى البرازيل، ومن ثم انتقل في العام 1994 إلى الولايات المتحدة الأميركية، يبدو سعيدًا في كفرشيما، ويستغرق في سرد ذكرياته مع فيلمون وهبه.

 

مبدعون أثرَوا التراث كلمة وفنونًا
حملت كفرشيما بيرق النبوغ وجادت على الفن بأبناء مبدعين من ملحنين ومطربين وشعراء أغنوا الأغنية اللبنانية والعربية لحنًا ونغمًا وأداءً، من هؤلاء:
 

• حليم الرومي:
بدأ حليم الرومي حياته الفنّية كهاوٍ في العام 1935، فشارك في بعض الحفلات الخاصة، وحفلات المسارح والمهرجانات في حيفا. في العام 1950، جاء حليم الرومي إلى لبنان لقضاء شهر العسل، فعرض عليه العمل في الإذاعة اللبنانية حيث تولّى إعادة تأسيس القسم الموسيقي فيها وتنظيمه. لكنّ الأقدار استبقته في الإذاعة اللبنانية ثلاثين عامًا (من العام 1950 ولغاية 1979)، عمل خلالها جاهدًا في رفع مستوى الأغنية اللبنانية وبناء شخصيتها، وفي إطلاق عددٍ كبير من المطربين والفنانين.
أنتج الكثير من الألحان الموسيقية والغنائية المنوّعة (حوالى 550 لحنًا للإذاعة اللبنانية وحدها). تميّزت أعماله في مجملها بالعمق والأصالة الفنية، وتناولت الألوان الغنائية والموسيقية المعروفة في الغناء العربي خصوصًا القصائد والموشحات والأوبرات، وقد غنّت فيروز في بداياتها العديد من ألحانه.
 

 • فيلمون وهبه:
إذا قلنا كفرشيما، لمع فورًا في ذاكرتنا إسم شيخ الملحّنين و«سبع الأغنية» فيلمون سعيد وهبه (1916 - 1985)، الذي بدأ العمل في إذاعة القدس، ملحنًا ومغنيًا، وهو فتى. كان يظهر في معظم مسرحيات الأخوين رحباني بدور «سبع». اعتبر «شيخ» الملحّنين اللبنانيين، فهو ملحّن بالفطرة ولم يكن يعرف النوتة. أعطى السيدة فيروز أجمل الألحان (30 لحنًا)، فدوّخنا الدوران مع «يا دارة دوري فينا»، وعدنا صغارًا معه على «سطح الجيران»، وانتظرنا «مرسال المراسيل»، وقصدنا «كرم العلالي»... وغنّت له الشحرورة صباح 250 لحنًا منها: «دخل عيونك حاكينا» و«يا أمي دولبني الهوى» و«عَ البساطة» و«عَ الضيعة يمّا عَ الضيعة». كما لحّن لوديع الصافي، ونصري شمس الدين، وسميرة توفيق، وملحم بركات، وورده الجزائرية... فضلًا عن الأغاني التي سجّلها بصوته، والاسكتشات والمونولوجات الظريفة التي أدّاها.
 

• عصام رجّي:
بدأ عصام رجّي الغناء في الستينيات (1944 - 2001). عمل مع الأخوين رحباني في مسرحيات عدّة، وكذلك مع الفنان روميو لحود وصباح. ربما كانت «هزّي يا نواعم» التي لحّنها له الموسيقار فريد الأطرش من أوسع أغانيه انتشارًا في العالم العربي. ومن أغانيه التي اشتهرت: «لاقيتك والدني ليل»، «يا سمرة يا تمر هندي»، «يومين شهرين»، «فوق الخيل»، و«يا صلاة الزين». في آخر مسيرته الفنية قدّم للجيش أغنية جميلة يقول مطلعها: ما تسألني كيف، ما تسألني ليش، حياتي كلّا بقدمها للجيش. عاجله الموت باكرًا، فترجّل وهو في عزّ عطائه (8/4/2001) تاركًا للأجيال إرثًا فنيًا غنيًا.
 

• ماجدة الرومي:
نجمة في عالم الموسيقى والغناء، نشأت في بيت يعيش الفن في جميع نواحيه، فهي إبنة الموسيقار حليم الرومي. تأثّرت ماجدة الرومي منذ الطفولة بكبار المطربين والموسيقيين العرب أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وأسمهان. قدمت في العام 1975 أغنيتها الأولى «عم بحلمك يا حلم يا لبنان»، وغنّت ماجدة للعديد من كبار الشعراء والملحّنين وفي الكثير من المهرجانات الكبرى في لبنان وفي العالم العربي.
 

• الموسيقار ملحم بركات:
رحل الموسيقار ملحم بركات (1942- 2016 ) في الأمس القريب، وهو الذي زفّته كفرشيما على وقع أغنياته ومنها، «ومشيت بطريقي»، و«موعدنا أرضك يا بلدنا» كما أوصى قبل رحيله. ظهرت موهبته مذ كان في المدرسة. إلتحق بأحد البرامج المشهورة للأصوات الجديدة، واختبره رواد الفن اللبناني الكبار وقالوا عنه إنّه موهبة لا مثيل لها لما يمتلكه من طبقات صوتٍ عالية، نقية وصافية وقوية... أما انطلاقته الكبيرة فبدأت مع المدرسة الرحبانية. طبع الأغنية العربية المعاصرة بأسلوبه اللّحني الإبداعي وأدائه الذي يجمع بين الطرب الأصيل والغناء المتجدد.
لحّن لعددٍ كبير من المطربين، منهم: وديع الصافي، صباح، سميرة توفيق، ماجدة الرومي، وليد توفيق، بسكال صقر، ربيع الخولي، أحمد دوغان، وميشلين خليفة...
أطلق عليه المرحوم الأستاذ جورج ابراهيم الخوري، لقب «الموسيقار». عايش إبن بلدته فيلمون وهبه، ورافقه لأربع سنوات متتالية، وكان ينصحه دائمًا «أن لا يتفلسف في التلحين».

 

الحركة الأدبية والصحافية
كفرشيما عريقة أيضًا بأسماء كبار ممّن أثرَوا الحركة الأدبية والصحافية. بعضهم لامسوا الشهرة، وآخرون لم يكونوا محظوظين بالقدر الكافي، . ومن هؤلاء الذين خلّد ذكراهم مشروع «هنا عاش»:
 

• الشاعر ناصيف اليازجي (1800- 1871): حورانيّ الأصل وصاحب مؤلفات متعدّدة شملت الصرف والنحو والبيان واللغة والمنطق والطبّ والتاريخ، كما ترك ديوانًا شعريًا متنوّع الموضوعات، ومراسلات شعرية ونثرية. عرف من أبنائه ابراهيم اليازجي (1847-1906) الذي أنشأ في مصر مجلّة «البيان»، وبرزت أيضًا في الشعر ابنته الشيخة وردة ناصيف اليازجي (1838-1924).
 

• سليم وبشاره تقلا: سليم (1849-1892) وبشارة (1852-1902)، وهما شقيقان وقد أسّسا في العام 1875 جريدة الأهرام أشهر جريدة مصرية لتاريخه.
 

• الشاعر وديع سليمان (1900-1987): شاعر المناسبات الكبيرة، وأمير من أمراء المنابر. ترأس «نادي الأدب والرياضة» لسنوات عديدة، عاش خلالها النادي أجمل سني عمره وازدهاره. له ديوان مطبوع في العام 1981 بعنوان «ديوان وديع سليمان».
 

• الشاعر ميشال قهوجي (1912-2011): أسّس فرقة «زغلول كفرشيما» في العام 1932، ثم أسّس مع أخيه إبراهيم في العام 1948مجلة «الأدب الشعبي».
 

• آل الشميل: لمع من عائلة الشميل ستة أبناء، وفي طليعتهم الدكتور شبلي الشميل (1850- 1917)، وهو طبيب ومفكّر حرّ، ثائر على الجمود والتقليد، كاتب جدلي وخطيب وشاعر، من آثاره: «فلسفة النشوء والارتقاء»، «مباحث علمية واجتماعية»، «حوادث وخواطر»، و«كتابات سياسية وإصلاحية».
 

• الشاعر مارون نصر (1923-2005): من كبار شعراء الأغنية اللبنانية. غنّى له كبار المطربين والمطربات وأبرزهم السيدة فيروز في بداياتها. له مئات الأغاني التي تصدح بها الإذاعـات اللبنانيـة والعربيـة.
 

• فايق الرجّي (1930- 2013): جمع بين الصحافة والمحاماة. كانت مسؤولًا عن قسم القضايا في وزارة الإعلام في أثناء الحرب اللبنانية. أذاع عبر «إذاعة لبنان» بعضًا من وجدانياته، وأعدّ برامج إذاعية أبرزها: «في رحاب الفكر». وفي الأدب والنقد كان له صولات وجولات، من مؤلّفاته: «كلمات من القلب»، «ورق الورد»، «ذكريات»، و«أصوات لا تغيب».
 

• المؤرخ الموسيقي روبير الصفدي (1934-2012): زاوج بين عمله ومحبته الكبيرة للموسيقى، فبدأ بجمع الأعمال الفنية للموسيقيين والمغنيّن اللبنانيين والعرب منذ أكثر من نصف قرن، أرشفها وأرّخ لها، حتى صار صاحب أكبر مكتبة موسيقية في الشرق، ومرجعًا لكل طالب معرفة في عالم التأريخ الموسيقي، له ثلاثة كتب: «أسماء خالدة»، «أعلام الأغنية اللبنانية»، و«تاريخ الموسيقى العربية».

 

في الختام، تبقى كفرشيما بلدة الثقافة والفن التي أنجبت كبارًا حملوا التراث اللبناني إلى المقيمن والمغتربين والبلدية الشابة ستكمل المسيرة مع الأجيال الطالعة على الرغم من صعوبة الدرب.