نظرة الى الداخل

كل شيء يبدأ من تفاعلات في الدماغ
إعداد: ريما سليم ضوميط

الحب
إكسير السعادة والنجاح

تبدأ الحكاية بخلطة كيميائية في الدماغ تسحر العقل و«تضعضع» الجسم، فتزيد خفقات القلب وتتشنّج المعدة وتتعرّق اليدان وتتضاءل القدرة على الحركة... إنّها أعراض الحب: هذا الشعور السحري الذي ينقلنا حينًا إلى أعلى قمّة في العالم، وفي لحظة أخرى يقذف بنا إلى هاوية الأحزان، فنحاول عبثًا لملمة أشلائنا المحطّمة.
الحب نعمة أم نقمة؟ كيف نترجم أعراضه الغريبة التي تجتاحنا ونشرّح التقلبات المفاجئة فيزيولوجيًا، بيولوجيًا، ونفسيًا؟


غذاء النفس
الحب خير غذاء للصحة النفسية والجسدية، هذا ما يؤكّده العلماء والباحثون. فالأشخاص الذين يعيشون مشاعر حب إيجابية يعيشون لمدة أطول، ويختبرون سعادة أكبر، كما يجنون أموالًا أكثر!
ويشير الباحثون إلى أن الأشخاص الذين يعيشون حياة عائلية مستقرة أو علاقة حب ناجحة، يحظون خلالها بدعم الشريك وتشجيعه، يتأثرون بنسبة أقل بضغوطات الحياة اليومية، ويصبحون أقل عرضة للتوتر والقلق، بينما يزداد في المقابل نشاطهم الجسدي وتتوقّد طاقاتهم الذهنية، كما يتحسّن مزاجهم فيصبحون أكثر تفاؤلًا ويرتفع معدّل ثقتهم بأنفسهم وبالآخرين. وتشكّل هذه العوامل مجتمعة حافزًا لهم للتقدّم بشكل أفضل في مختلف المجالات، فيزداد إنتاجهم في العمل ويؤدون المطلوب منهم بصورة أسرع، كما ينخرطون بإيجابية في المجتمع ويقبلون بشغف على الحياة معتمدين نمط حياة صحي وسليم، على عكس الأشخاص المحرومين من الحب والمعرّضين للإكتئاب والشعور بالوحدة.
للحب أيضًا فوائد أساسية على الصعيد الفيزيولوجي. فقد أظهرت دراسات حديثة من جامعة «يال» الآثار الإيجابية لمشاعر الحب على صحّة القلب والشرايين التاجية، حيث تبين أن مرضى القلب الذين يعيشون حياة عاطفية مستقرّة ويحظون بدعم الشريك، معرّضون بنسبة أقل لانسداد شرايينهم من أولئك المحرومين من الحب والرومانسية.
في الإطار نفسه، يقول أحد الباحثين: صحيح أن سلامة القلب ترتبط بنظام غذائي صحّي بعيد عن الإجهاد والتدخين، إلاّ أن لا شي من هذا يضاهي قدرة مشاعر الحب الإيجابية على تحفيز القلب وتأمين «قسطرة طبيعيّة» متواصلة.

 

للحب كيمياء خاصة به!
كيف يؤثر فينا الحب بهذا الشكل، وما الذي يؤدي الى تصاعد المشاعر الإيجابية (أو السلبية) في داخلنا؟
«للحب كيمياء خاصة به» يؤكد الباحثون، فعندما يحدث الانجذاب بين شخصين تترجم الأجساد المشاعر، والسبب أن الهورمونات والناقلات العصبية (neurotransmitters) الموجودة في الدماغ تقوم بتحفيز أعضاء معينة في الجسم للقيام بنشاط ما، أو تمنعها من نشاط آخر، فتؤثر على الوضع النفسي والجسدي للعاشق وتتحكم بتصرفاته. ويتربع على رأس هذه الخلطة الكيميائية العجيبة هورمون الأوكسيتوسين (oxytocin) أو هورمون الحب كما يسمّيه الخبراء.
يؤدي هذا الهرمون أيضًا دور الناقل العصبي في الدماغ، وهو المسؤول عن بث الرسائل التي تعزّز أواصر الإرتباط بين الحبيبين وتمنحهما الشعور بالثقة والأمان. وقد أظهرت التجارب أن ارتفاع نسبة هذا الهورمون في الدم يزيد من فرص الحوار والتفاهم بين الزوجين على مواضيع لطالما كانت شائكة ومسبّبة للجدال بينهما.
يرتبط إفراز الأوكسيتوسين بمشاعر الود والحنان، وهنا تبرز أهمية التواصل الجسدي في لعبة الحب. فالعناق، وتشابك الأيدي، أو مجرد التربيت الخفيف على الكتف، هي أدوية الحب السحرية التي تؤدي الى اطلاق هذه المادة، فتنخفض من جرائها نسبة الهورمونات المسؤولة عن الإجهاد وينخفض معدل ضغط الدم، ليتمتع الحبيبان بعامل الطمأنينة. كذلك يساهم انتشار الأوكسيتوسين بمضاعفة القدرة على تحمّل الآلام إضافة الى الشفاء السريع من الجروح العضوية.

 

كيف تتطوّر العلاقة بين حبيبين؟
إضافة الى هورمون الحب، تؤدي هورمونات أخرى دورها في خلق ردود الفعل الفيزيولوجية بين الحبيبين وذلك وفق تطور علاقتهما ومشاعرهما، وبحسب المرحلة العاطفية التي يعيشانها. في هذا الإطار، حددت الدكتورة والباحثة هيلين فيشير المتخصصة في علم الإنسان البيولوجي ثلاث مراحل للحب هي: الرغبة، فالإنجذاب العاطفي، ومن ثم الإرتباط.
في المرحلة الأولى تتحكم هورمونات التيستوستيرون والإستروجين بمشاعر العاشقين، وهو ما يؤدي الى الإنجذاب الجسدي بينهما، ويبرّر شعورهما بالقشعريرة عند حدوث أي تلامس عرضي.
 أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الوقوع في الحب والتعلق الشديد بالآخر، وهنا تؤدي ثلاث ناقلات عصبية هي الأدرينالين، والدوبامين، والسيريتونين، دورًا أساسيًا في التأثير على الوضع النفسي والجسدي للعشاق.
يعمل الأدرينالين على زيادة نبضات القلب وانقباض الأوعية الدموية، وهو المسؤول عن تحضير الجسم لحالة «الكر والفر» التي يعيشها المرء عند مواجهة أي وضع ضاغط كمثل إجراء مقابلة عمل. وهذا ما يدعو الى ارتفاع معدله في الدم في المراحل الأولى للحب من جراء حالات التوتر والقلق التي ترافق الحبيبين خلال هذه الفترة، الأمر الذي يفسّر التعرّق وازدياد نبضات القلب والجفاف في الحلق عند الإلتقاء بالحبيب.
الدوبامين هو المسؤول عن تحفيز الرغبة لدى العشاق الجدد، وله تأثير الكوكايين نفسه على الدماغ، وتظهر آثاره من خلال النشاط المتزايد، حيث يتمتع العاشق فجأة بطاقة غير اعتيادية ويصبح قادرًا على إنجاز أعماله بطريقة أسرع وأسهل، ويترافق ذلك مع شعور بعدم الحاجة الى النوم والطعام، مقابل تركيز الإهتمام على أدق التفاصيل في العلاقة الجديدة والشعور بفرح شديد تجاهها.
أما السيروتونين، فهو العامل الكيميائي الذي يدفع العاشق الى التفكير المتواصل بالحبيب.
وقد أظهرت الدراسات أن المستوى المنخفض للسيروتونيـن في الدم عند العشاق الجدد هو نفسه عند المصابين بمرض الوسواس القهري (obsessive compulsive disorder)، وهذا ما يفسّر تفقّد الهاتف النقال والبريد الإلكتروني بصورة مستمرة على أمل وجود رسالة من الحبيب، أو الإحتفاظ بأشياء لا قيمة لها (كبطاقة الدخول الى السينما) لمجرد أنها ترتبط بذكرى معينة بينهما.
المرحلة الثالثة من مشوار الحب هي مرحلة الإرتباط حين يرى الحبيبان أن علاقتهما فريدة من نوعها فيقرران البقاء معًا لبناء «عائلة سعيدة»! هنا يؤدي هورمون الحب الأوكسيتوسين دوره في تقوية رابط المحبة وتعزيز ثقة بعضهما بالبعض الآخر، يعاونه في ذلك هورمون فاسوبريسين (vasopressin) الذي يحد من عمل الدوبامين فينقل العلاقة من مستوى الإنجذاب الى مستوى الاستقرار والشراكة الحميمة.

 

الحب والخيبة
في قصص الحب غالبًا ما تجمع الحبيبين نهاية سعيدة، ولكن الأمر يختلف على أرض الواقع، فما الذي يحدث حين تتصدع جدران الحب ويهجر أحد العاشقين حبيبه الى غير عودة؟
من الطبيعي أن يختبر الحبيب المهجور مرحلة «حداد» يعيش خلالها مشاعر الحزن والإحباط وذرف الدموع، ومن المألوف أن يشعر بالوهن وانعدام الشهية إضافة الى عدم الرغبة في ممارسة أي نشاط، إلّا أن ما يخشاه الأطباء هو أن تسوء الأمور أكثر من ذلك بحيث تشكّل هذه المرحلة خطرًا على الحياة. فقد أظهرت الدراسات الحديثة أن الضغط العاطفي الناتج عن «تحطم الفؤاد» يمكن أن يكون سببًا رئيسًا للأزمات القلبية وقد يؤدي في بعض الأحيان الى الوفاة.
هذا ما تبين بالفعل خلال دراسة نشرت العام 1996 وتناولت مليونًا ونصف مليون أرمل وأرملة تراوح أعمارهم ما بين الـ35 والـ84 عامًا، حيث تبين أن خطر الوفاة من جراء أزمة قلبية ارتفع بنسبة 20 الى 35 في المئة خلال الأشهر الستة التي أعقبت وفاة الشريك. كذلك تبين أن خطر الموت من جراء حادث سير أو حوادث ناتجة عن الإفراط في تناول الكحول ارتفع بنسبة 100% بين الأرامل الذكور. وقد أوضح علماء النفس أن فقدان الشريك أو الزوج يؤدي الى خسارة سند أساسي، مما يرفع معدل الضغط النفسي الى أقصاه، ويؤدي بالتالي الى أضرار نفسية وصحية مختلفة أبرزها الأمراض الناتجة عن النقص في المناعة. ويحصل هذا النقص وفق التسلسل الآتي: يسجّل الدماغ أولًا التغيرات النفسية والإجتماعية الناتجة عن فقدان الشريك (بسبب موت أو هجر)، ويستجيب لها عن طريق الجهاز العصبي المركزي، فيصدر التعليمات بإفراز هورمونات معينة، حيث يؤدي هذا التفاعل في كيمياء الجسم الى تقلبات صحية ونفسية، من الممكن أن تنتهي بسلسلة من الأمراض.

 

ويبقى الحب هو الحل...
في شرح لفوائد الحب وأضراره يقول أحد الاطباء النفسيين: قد لا ندرك تمامًا كيف يتطور الحب بين البشر أو لماذا نختار هذا دون ذاك لنغرم به، ولكننا ندرك على الأقل أهمية أن نمنح من نحب كل ما أمكن من العاطفة والحنان والدعم، لأنه في الحب يستفيد كل من «الواهب» و«المتلقي» بالقدر نفسه!