العوافي يا وطن

كما عهدناهم دائمًا
إعداد: د. إلهام نصر تابت

لطالما أغرتني رائحة الحطب المشتعل. رائحة تُعيدني إلى صاج أمي وخبزها. تُعيدني إلى موقدة جدتي وفوقها قدر كبير تغلي فيه المربى. وتُعيدني إلى دفء الصوبيا في ليالي الشتاء الطويلة.
كان ليل ٢٠-٢١ كانون الثاني الماضي قاسيًا وطويلًا، استعنّا بأكثر من وسيلة لنشعر بالدفء في بيتنا الساحلي من دون أن نشعر به حقًا. رائحة الحطب المشتعل تتسرب إلينا بلطف من بيت أحد الجيران فنحسد من يجلسون حول الصوبيا. ربما كانوا يلقون على سطحها شرائح البطاطا أو حبات الكستناء أو البلوط! للبرد ولائمه اللذيذة في البيوت العتيقة، والدفء وليمة الشتاء الأهم والأطيب.
في سهرة الليل القاسي تلك، كانت صور الثلج تصلني من مراكز جيشنا في مختلف المناطق اللبنانية، من الأرز وعيون السيمان والضنية، ومن المراكز الحدودية في أقاصي الجرود الشرقية والشمالية... في مركز عش النسر - جرد نحلة (جرود عرسال) كانت درجة الحرارة تُشير إلى ما يقارب - ١٦! شعرت أنّ عظامي تتجمد وأنا أنظر إلى الصور، وكأنّ الثلج يقفز منها ويلفّني فيمنعني من الحركة. كان الجنود في غمرة الأبيض اللامتناهي، هذا الأبيض المبهج الذي نقصده للترفيه، ليس بالضرورة مبهجًا لمن يقيمون في الجرود الصمّاء. هناك يتجمد كل شيء، كل شيء، الماء والمازوت والشجر والحجر، وحتى الهواء والمراكز...
تأملت هاماتهم الثابتة في وجه العاصفة، والثلج عندهم يقيم طويلًا. تساءلت كيف يصمدون؟ كيف ينفّذون مهماتهم؟ كيف يحتملون كل هذه المشقات؟ كانت آلياتهم تفتح الطرقات التي أغلقها الثلج وتمضي في مهمة. رفوشهم تزيل الثلج من أمام سيارات عالقة، زنودهم تُنقذ شبانًا فُقدوا في العاصفة.
كان ليلنا نارًا ودفئًا، وكان ليلهم كما نهارهم وكل أيامهم سهر وحراسة ومهمات كثيرة. هل فكّروا في تلك الليلة بعدد أرغفة الخبز في بيوتهم؟ هل فكّروا بأولادهم يحاولون الاحتماء من البرد بعد أن أصبح الدفء ترفًا؟
نعم، هم يفكّرون بعائلاتهم، يحملون من الهموم ما لا يُحتمل. فهذا الوطن الذي وهبوه أعمارهم، أنهكهم، صادر راحة بالهم، حرمهم أبسط مقومات الحياة. مع ذلك، مع كل ذلك، نراهم ثابتين في إيمانهم، أقوياء في صبرهم، لا يتأخرون في تنفيذ مهمة، ولا يترددون في القيام بواجب. هم يدركون أن لا أزمة إلا وبعدها فرج، وأنّ قيادتهم لن توفّر طريقة لمساعدتهم.
في عز العاصفة جاءهم الخبر، مساعدة مالية سوف يتقاضاها كل منهم بالعملة الخضراء. خبر مُفرح خفف ثقل الهموم، شكروا الله وقيادتهم، وتابع كل منهم القيام بواجبه. هم دائمًا كما عهدناهم، رجال يعوّل عليهم الوطن، يتكئ إلى زنودهم الصلبة في أيامه القاسية، يستمد منهم القدرة على الصمود.
بوركت عزائمكم الصلبة يا رجال جيشنا، بوركت الهمم التي لا يبردها صقيع الجليد، بوركت تضحياتكم التي لا قيامة للوطن من دونها.
العوافي يا جيشنا.
العوافي يا وطن.