متاحف

كهف الفنون إبداعات فنان عشق جمال الجذور ورائحة الأرض
إعداد: جان دارك أبي ياغي
تصوير: المعاون الأول ربيع ضاهر

متحف طبيعي من نوع آخر يجمع بين الفن من جهة وما صنعته يد الخالق في الطبيعة من جهة ثانية، محوره الأشجار وما ترويه من حكايات بجذورها وجذوعها والأغصان...
متحف كهف الفنون في قرية الجاهلية - الشوف الذي يعود تاريخ بنائه الى العهد العثماني، حرص غاندي بو ذياب أن يجمع فيه كل ما يمتّ بصلة الى رائحة الأرض والطبيعة. وعلى مدى عدة سنوات عمل بوحي من حلم وفكرة، حتى امتلك ثروة من القطع الحرفية والأثرية النادرة تفترش اليوم الكهوف الثلاثة بعد ترميمها وتأهيلها.

 

الحلم الذي صار حقيقة
في عمر السنتين والنصف دخل غاندي بو ذياب الى المدرسة، يومها طلبت المعلمة رسماً حراً، فرسم مشهداً مطبوعاً في ذهنه: عامل ينقل النفايات على ظهر البغل.
المعلمة رأت في الصغير موهبة وتوقّعت له مستقبلاً فنياً، والأهل صقلوا الموهبة من خلال متابعتهم الدائمة.
الصغير أصبح يافعاً وباتت رسومه ترصد واقع القرية اللبنانية بكل تفاصيلها من خلال معايشته القرويين في بلدته الجاهلية (قضاء الشوف).
لفتت نظره جذوع الأشجار اليابسة وجذورها والأصداف المتحجرة، فراح يجـمــعـهــا ويحوّلهــــــا الى أشكـال فنية مميزة.
كان للإجتياح الإسرائيلي لبنان العام 1982 أثـره الفنـي في حياة غاندي بو ذياب، إذ اكتشـف الكهـوف القديمـة التي لجأ اليها أهـل القريـة للاحتماء من القصـف اليومي.
تلك الكهوف باتت بالنسبة اليه هاجساً وحلماً، وخطر له أن يحوّلـهـا مـن مخـابئ الى كهوف فنية تستقبل رواد الفن والأدب والشعر والرسم والنحت والطـلاب والبـاحثين عن جذور التراث العريق...
مواكبته النشاطات الثقافية والفنية والزيارات المتكررة للمعارض والمتاحف والقصور، إضافة الى نشأته في بيئة جبلية تعج بكل مفردات الحياة التقليدية وتراث الأجداد، عوامل ساهمت في بلورة شخصيته الفنية وفي تحويل الحلم الى حقيقة.

 

الكهف وإعادة تأهيله
يعود تاريخ بناء كهف الفنون الى العهد العثماني منذ ما يقارب الـ400 سنة، وهو عبارة عن ثلاثة أقبية من العقد متلاصقة تمتد على مساحة 1500م2 مع الحديقة التراثية المحيطة به. ميزته أنه يخبئ حرارة الصيف للشتاء وبرودة الشتاء للصيف بفضل بنائه على طريقة «الكلّين» بهندسته التي تشبه الى حد ما هندسة الخانات والمعابد والقصور.
كان الكهف ملكاً لرجل إقطاعي في قرية الجاهلية زمن المتصرفية، وقد شهد لقاءات واجتماعات بارزة بين المتصرفين العثمانيين ووجهاء الضيعة. عندما بدأ الفنان غاندي بو ذياب، ورشة إعادة تأهيل الكهف العام 1990، اكتشف كهفاً إضافياً على شكل مغارة ضيّقة عرض جدرانها متران بارتفاع المتر والنصف، فعمل على حفر الصخر على عمق متر ونصف المتر بطريقة فنية ساعدت في انشراح المكان، من دون المساس بأرضيته الصخرية الملتوية.
الكهوف مبنية على صخرة واحدة تقارب مساحتها 3كلم2 تمتد من تلال قرية الجاهلية حتى ضفاف النهر مروراً بالجسر الروماني والطاحونة القديمة، وكانت تربط قديماً الساحل بالجبل.
عوائق وصعوبات مادية ومعنوية واجهته في البداية، إلا أن الإرادة الصلبة كانت أقوى من أي عائق، إذ يؤكّد بو ذياب أن ترسيخ الوعي لدى الأجيال الشابة بضرورة التشبّث بالأرض والماضي، لا يتمّ من خلال كتب التاريخ فحسب، بل من خلال الرؤية المجردة، وهذا ما كان ينوي تحقيقه. اكتشافه الأقبية والمغاور والكهوف في باطن الأرض ووسط الجبال، عزّز ميله منذ الصغر، الى جمع كل ما يرمز الى رائحة الأرض والطبيعة، حتى تكوّنت لديه ثروة من القطع التراثية والحرفية والأثرية ومنحوتات من الشمع والأحجار والأغصان اليابسة، الى لوحات من الشعر والفسيفساء والرسوم الزيتية التي تحاكي التراث اللبناني، والخيل العربي الأصيل. هذه الثروة شكّلت مضمون المتحف وانتشرت في أقبيته التراثية، بكلفة تخطّت حتى الآن نصف مليون دولار وقد أمّنها من إيرادات عمله كمزيّن نسائي ومن بيع لوحاته الزيتية، فإذا بالكهوف تصبح متحفاً أدرجته وزارة السياحة على لائحة المتاحف السياحية في لبنان.

 

الجذور أجمل من أغصانها
كان يمكن للفنان غاندي بو ذياب أن يحصر اهتمامه بالرسم والنحت، لكن عشقه الطبيعة «المدهشة» فتح أمامه آفاقاً جديدة. معظم الجذور المطمورة اليابسة يبقى أجمل وأرهب من أغصانها الخضراء، يقول، وهذه الجذور هي التي أخذته الى آفاق جديدة. نراه يضع مجسّماً لطائر البط من نبات الصبّار (الصبير)، ويحوّل جذع الزيتون الى نسر، وجذع الدلب الى عقرب أو غيتار، وغصن اللوز الى غليون أو آلة ساكسفون. أما جذع السنديان المتجذّر لعشرات السنين في الأرض فحوّله الى لوحة وضعت الى جانب لوحات أخرى تتوزع أروقة الكهف التاريخي والتراثي.
أمام لوحاته يقول: «ما مررت مرة بحرج أو غابة إلا وسمعت الطبيعة تناديني، لأجد حجراً أو جذعاً أو غصناً يابساً ينتظر يد فنان تحوّله الى قطعة فنية، تضيف الى لمسات الطبيعة رونقاً وجمالاً». ويتابع: «أمتلك بفعل الطبيعة مجموعة خشبية فنية قيّمة تصلح لإنشاء جناح خاص داخل كهف الفنون، وهي من مخلّفات الجرافات الحديثة التي اقتلعت الأشجار في أثناء شق الطرق الزراعية، فأقدمتُ على انتشالها وعملتُ على صقلها وحمايتها ووضعها في الحديقة التراثية المحيطة بكهف الفنون».

 

حياة الضيعة
تعجّ أقبية «كهف الفنون» بمفردات حياة الضيعة البسيطة مثل «وجاق القاطرجي الحطبي»، الى جانب المكواة القديمة التي تعمل على الفحم، وقناديل الكاز، فيما تلفت السائح والزائر تلك الثريا التي نفّذها غاندي بو ذياب بواسطة أغصان وكروز الصنوبر، وايضاً ذلك الجدي الذي جسّده بالقطن بعد زراعته في حديقة الكهوف، فضلاً عن الآلات الموسيقية وأشكال الحيوانات والطيور التي استخرجها من الأشجار على هيئتها الأساسية مع بعض التعديلات الطفيفة في تفاصيلها، وعظام حيوانات تحوّلت الى أشكال لطيفة، وقفران النحل والدبابير فضلاً عن أزهار «عباد الشمس» التي نسّقت بطريقة مميزة.
«الجاروشة» تجاور محمصة البن العتيقة، وتفترشان بسطاً قديمة مصنوعة من الصوف السميك الى جانب المحدلة وجرن الكبة الحجري والمذياع القديم والفونوغراف وماكينة الخياطة القديمة و«بوابير» الكاز مع «دستات» وطناجر و«كركات» ماء الزهر والعرق. فيما تمتلئ الخوابي الطينية والجرار الفخارية بخيرات الضيعة، الى أدوات الزراعة القديمة كالمناجل والبلطـات والغربال والنير والمحراث الخشبي...
وقد خصصت خزانة لعرض الطرابيـش التقليـدية، بينمـا أبدعت «الشيخة أم غاندي» (والدة الفنان) بصنع تمثالين لشيخ معمّر وزوجته في دلالة على اللباس التقليدي في جبل لبنان وهما يفترشان المدخل ويرحّبان بالزوار.

 

«بيروت والسلام العالمي»
«بيروت والسلام العالمي» تحفة فنية من الفسيفساء يروي الفنان قصتها: «الفكرة بدأت العام 1998 بأسلوب هندسي وفق رقعة شطرنج، مع ارتفاعات مختلفة ومستويات متناقضة تشبه الى حد ما مدينة بيروت محاطة بأسوار وأبراج عالية لإبراز موقعها الجغرافي والإستراتيجي، وثمانية عشر لوناً حجرياً تشبه طوائف لبنان متعايشة متضامنة، إضافة الى خريطة لبنان المزنّرة بالأصفر الذي يدل على إنجاز التحرير وترسيم الحدود، كما تظهر قناة جرّ المياه بداخلها لتدل على الحياة الخيّرة في لبنان مع إضاءة ترمز الى المستقبل المنشود».
ويتابع: «في الفسيفساء بعض التخريب والتكسير الذي طال المدينة إثر الإعتداءات الإسرائيلية المدمّرة والحوادث التي عصفت بلبنان. الأحجار البيضاء الملتفة حول بيروت تشير الى السلام العالمي غير المكتمل، أما الأحجار البركانية الصوانية والزجاج المكسّر المضاء، فقد تكون الشاهد على السلام المنتظر».
المجسّم هذا ثلاثي الأبعاد سوريالي المشهد متجانس من حيث اللون والشكل والرؤية، يبلغ طوله نحو 290 سنتمتراً وعرضه نحو 175 سنتمتراً، بارتفاع 85 سم ويزن 2.5 طن.
متحف كهف الفنون مَعْلَم سياحي تراثي يستحق الزيارة للتمتع بإبداعات الطبيعة ويد فنان عشق جمالاتها.

 

جمعية ونشاطات ثقافية مختلفة
يشهد المتحف خلال فترات من السنة نشاطات ثقافية وفنية وبيئية وتراثية، لهذه الغاية تمّ تأسيس «جمعية كهف الفنون» التي تهدف الى إنشاء خلايا سكنية بيئية تراثية متعددة، وإقامة دورات فنية ورياضية لتعلّم الرسم، والنحت، والموزاييك، وإقامة ندوات وأمسيات شعرية وتوقيع كتب، الى احتضان معارض فنية ومنتوجات قروية ومهرجانات تراثية وغيرها... والتواصل الثقافي والفني والبيئي مع جمعيات وهيئات ومنظمات عربية وعالمية...

 

بريشة الفنان
من المحطات التي يحب غاندي بو ذياب التوقّف عندها، رسمه فخامة  رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، يوم كان قائداً للجيش، في لوحة زيتية، ومن ثم رسمه زيتية أخرى للعماد جان قهوجي أخذت موضعها في ردهة الشرف في المدرسة الحربية، الى جانب لوحات لباقي قادة الجيش السابقين. وهو يحب أن يتذكّر يوم تبلّغ من جامعة شرق لندن حصوله على دبلوم فخري عال في الفنون لإنجازه «كهف الفنون»، ويوم كُرّم بعضوية فخرية من ولاية لوس أنجلوس بمبادرة من نقابة الصحفيين العرب الأميركيين...