نافذة

كورونا مصابة بكورونا
إعداد: روني ألفا

وشددتها من شعرها المجعّد السّميك. لم أعهد خلال حياتي المسالمة عدوانيّةً تجاه أحد. انفلات غرائزي تجاهها غير قابل للسيطرة. جررتها خارج بيتي وهي تصرخ بأصواتٍ قويّةٍ تشبه شخير ألف سيارةٍ مثقوبة عوادم أصواتها، وصلتُ بها خارج مدخل البناية وأشبعتها رفسًا. في أطراف حذائي علق شوك كانت تزيّن به جبينها. حدّقت بي. رمقتني بنظرة تحدٍّ. لن تفلح في تدميري، سمعتها تقول. أنا الأقوى. افعل بي ما شئت. سأخرج إليك من شبابيك بيتك. من صبابير المياه ومن هواء الشّرفات. ستجدني في نعلة حذائك. في ثياب نومك وربطة العنق. أنا الجرثومة بـ«أل التّعريف». الهواء الأصفر والطّاعون والحمّى الإسبانيّة والبرص تلامذتي وأتباعي. اركب أعلى ما في خيلك.
يمكنك أن تهرب من كلّ المخاطر تقريبًا. الملاجئ الآمنة توفّر لك الحماية من القنبلة الذريّة. السترات الواقية من الرّصاص تحميك من إطلاق النار. ليس هناك ملجأ آمن يحميك من كورونا. تخيّل أنّك يمكن أن تقتل ابنك أو ابنتك بمجرّد قبلة أو مصافحة والعكس صحيح. يوضاس لن يضاهيك في فعلتك. عندما طبع يوضاس قبلةً على خدّ سيّده تعرّف اليهود على الضحيّة. كان أمام يسوع خيارات متعدّدة: المواجهة أو الهرب أو الاستسلام. اختار يسوع تسليم نفسه طوعًا لليهود. القبلة فتحت مجالًا لقرارٍ إراديٍّ أراده المسيح عن سابق تصوّرٍ وتصميم. مع كورونا قبلتك تقضي على أي قرارٍ إرادي. أنت بكلّ بساطة ستصاب أو تصيب بالعدوى. قرار موتك أو حياتك ليس في يدك.
غريب. تبيّن بعد البحث والتّدقيق في مآثر الجائحة ومخلّفاتها التّدميريّة علينا، أنّ غيريّتنا أقوى من ضرورات عزلتنا. أن نكون غيريّين هو أن نتواصل مع الغير. أن نخرج من الأنا المنطوي على أحشائه. نحن حيوانات ناطقة على ما يعرّف بنا أنتروبولوجيًا بحسب علوم الإنسان. أوّل صرخة ولادةٍ ليست سوى محاولة غير مقروءة لمناداة أحدهم أو إحداهنّ يطلقها الجنين الخارج لتوّه من الغشاء اللّزج. على الأرجح صرخة موجّهة للأم. يخرجها ربّما لتوجيه لوم رضيعٍ على قذفه عنوةً من رحمها نحو عالمٍ خارجي يشعره بالغربة. كورونا تريد بصلابةٍ أن تغتال هذه الغيريّة فينا. هذا الميل الغريزي للتواصل مع الخارج. حتّى مع دنّو خطر الموت ترانا نريد، وبكل ما أوتينا من ذكاءٍ ودهاء، الالتفاف على قرارات حجرنا.
بين موتنا الوشيك والأكثر من محتمل وبين غيريّتنا التي تجنّبنا عذاب العزلة نختار غيريّتنا. نخرج إلى الآخر ونركب خطر الاقتراب. نقبّل ونقبّل. قبلة لا علاقة لها البتّة بالمعنى اللاهوتي لقبلة خيانة يوضاس. القبلة في زمن كورونا تأخذ شكل ضمّة للحياة. قبلة إنتحاريّة بالطّبع إنّما تؤكّد أنّ حبّ الحياة في الإنسان أقوى من موتٍ وشيكٍ تلوّح به جرثومة. نحن نعيش على أمل ألا نصاب. نعرف بأنّنا لم نلتزم تمامًا تعليمات الحجر والكمامة ومطهّر اليدين والتباعد الإجتماعي. في العلوم العسكريّة ينطبق علينا توصيف الإنغماسيين. نموت إنما نميت معنا كورونا. عليّ وعلى الجرثومة يا ربّ على طراز الكاميكاز.
هذا ما تعلّمناه حتى الآن من كورونا. لعبة غمّيضة مع الموت. رفاتنا مكدّس في أكفّ أيدينا قبل أن نصبح رفاة. مع الجرثومة نموت ونحن على قيد الحياة ونعيش ونحن على قيد الوفاة. لم يحدث في تاريخ العالم أن عانت البشريّة من هذا الرّعب. سرعة وصول المعلومات والصّور تجعل من كورونا هتلر القرن الواحد والعشرين. خطّته تدمير شامل ومحو لآثار عدوّه. في مواجهته لن نقوى على إلحاق الهزيمة به في وقتٍ قريب. سيلازمنا. سيعمد العديد منّا إلى استدراج كورونا إلى مدخل البناية مثلي. سيعلق شوكها في أطراف أحذيتكم. ستدخل إليكم من شبابيك بيوتكم وصبابير المياه وهواء شرفاتكم. كمّامة وتباعد
ومطهّر وتخيّلوا متفائلين أنّ هذه الشقيّة ستموت بالذّبحة القلبيّة أو بكورونا. كورونا مصابة بكورونا ولتمت اختناقًا.