موضوع الغلاف

كيف استطاع الجيش تأمين التغذية الصحية لعسكرييه بالرغم من الأزمة؟
إعداد: جان دارك أبي ياغي

اجتاحت الأزمة الاقتصادية الحادة مطابخ معظم اللبنانيين، ما اضطرهم إلى اتباع سياسة التقشف، والاستغناء عن الكثير من الأصناف واستبدالها بأخرى أقل كلفة. لكن ماذا عن الوضع في الجيش؟ كيف تسير الأمور في ظل الأزمة الخانقة؟ وكيف تستطيع مديرية القوامة المسؤولة عن تغذية العسكريين تأدية مهماتها رغم الشح في الموارد؟ وإلى أي حد استطاعت تأمين التغذية الصحية والمحتوية على السعرات الحرارية اللازمة في الوجبات التي تُقدم للعسكريين، خصوصًا أنّهم يؤدون مهمات صعبة ولا يمكن التهاون في تغذيتهم؟

 

يوضح مدير القوامة العميد الإداري جورج الخوري أنّ المديرية بصفتها المموّن الرئيس للمواد الغذائية في الجيش، عملت كخلية نحل لاجتياز المرحلة بأقل ما يمكن من الأضرار وهذا ما استطاعت تحقيقه. كان هاجسها الأساسي والوحيد الأمن الغذائي (الاحتياط اللازم من المواد الغذائية لفترة زمنية محددة) وتأمين سلامة الغذاء الصحي للعسكريين.

 

لائحة الطعام

كان التحدي كبيرًا على صعيد اعتماد لائحة طعام تحافظ على النوعية والجودة وتؤمن الوحدات الحرارية المطلوبة في كل وجبة ومراعاة ضرورات التقشف والتوفير في الوقت نفسه. حُلت هذه المشكلة بالاعتماد على خبرة الاختصاصيين في التغذية. فأدخلت إلى الوجبات مواد بديلة ذات قيمة عالية غذائيًا، وتم التنويع بالوجبات بالاعتماد على المنتجات الموسمية المحلية. كما أُعيدت دراسة الحصة الفردية لبعض المواد الغذائية بما يتناسب مع الحاجة اليومية للمتغذين من السعرات الحرارية المشبّعة بالبروتيين والفيتامينات والمعادن والألياف والنشويات الضرورية لغذاء العسكري وصحته.

من جهة أخرى، واجهت المديرية صعوبات كبيرة في موضوع تحقيق المواد الغذائية التي تُستورد من الخارج، خصوصًا وأنّ متعهدين كثرًا أحجموا عن تأمين هذه المواد بسبب الظروف الاقتصادية السائدة واستفحال جائحة كورونا والآلية غير السهلة التي اعتمدها مصرف لبنان لتأمين الدولار المدعوم لتحقيق المواد المحللة (أي المعلبات) والاحتياطية فقط، فقد تضمنت هذه الآلية عدة قيود وضوابط. ويوضح العميد الإداري الخوري أنّ المديرية توصلت إلى حل المشكلة من خلال دراسة معمقة للأسعار والتركيز على مبدأ المنافسة الشريفة والشفافية المطلقة بالتعاون مع عدد من المتعهدين رأوا أنّ من واجبهم دعم الجيش في هذه المرحلة ولو على حساب ربحهم، وذلك انطلاقًا من إدراكهم أنّ المؤسسة العسكرية هي العمود الفقري للبنان ولا بد من الوقوف إلى جانبها، لكن الأمر لم يكن سهلًا على أي حال.

في السياق عينه، كان لبعض الدول والجهات المانحة لهذا النوع من المواد دور إيجابي في إنجاح هذه العملية.

 

إدارة الموارد

سمحت الإدارة الجيدة للموارد بتجاوز الكثير من العقبات على صعيد تأمين التغذية المناسبة للعسكريين رغم الظروف الصعبة، فبحسن الإدارة تم الحفاظ على جودة الطعام والكمية اللازمة منه رغم التقشف. وهنا لا بد من الإشارة إلى تحقق وفر ملحوظ خلال العامين ٢٠٢٠ و٢٠٢١، ويعود ذلك إلى سببين: إدارة الموارد بحنكة من جهة، ونقص العديد الفعلي للمتغذين من جهة أخرى نتيجة للتدابير التي اعتمدتها القيادة (أسبوع في الخدمة وأسبوع مأذونية) لمواجهة وباء كورونا والحد من كلفة تنقّل العسكريين. ونتيجة لذلك انتقلت المديرية من العام ٢٠٢٠ إلى العام ٢٠٢١ مع ثلاثة أشهر من الاحتياط الإضافي، ما تطلّب إنشاء مخازن جديدة.

بعد أن اضطر الجيش في العام ٢٠٢٠ إلى الاستغناء عن اللحوم في لائحة غذاء العسكريين بسبب الأوضاع القائمة، تبدّلت الأمور بفعل الاستفادة من الوفر الذي تحقق في العام ٢٠٢١ في عملية شراء المواد الغذائية الاحتياطية والمحللة. فقد استثمر هذا الوفر في العام الحالي لشراء ١٣٠ طنًا من اللحوم المجلدة (مستوردة من البرازيل) بدلًا من اللحوم الطازجة بعد ارتفاع أسعارها بشكل جنوني، كما تسلمت المديرية خمسة مستوعبات من اللحوم المجلّدة (وزن كل منها بين ٢٤ و٢٦ طنًا) ذات منشأ إيطالي كهبة من رجل أعمال لبناني، ما يؤمن تغطية حاجة الجيش من اللحوم حتى نهاية العام الحالي. يُضاف إلى ذلك كمية من الدجاج تكفي لمدة ثمانية أشهر، وتحقيق حوالى ٣٤٣ طنًا من الحبوب للمناطق. لكن مدير القوامة يشير هنا إلى وجود مشكلة على صعيد تمويل تغذية المناطق فالمبلغ المرصود لها من وزارة المالية بقي على حاله على الرغم من الارتفاع الجنوني في الأسعار، ونحن نعمل على حل هذه المشكلة وإن كان ذلك «باللحم الحي».

 

المساعي مستمرة

شهدت أسعار المواد الغذائية في العام الماضي ارتفاعًا جنونيًا وصل إلى ما يفوق ٤٠٠٪. ولتحديد حجم المشكلة، نأخذ مثالًا على ذلك مادة الخبز العربي التي كان تحقيقها يشكّل نسبة ٨,٥٪ من اعتماد التغذية، ومع ارتفاع سعرها بشكل تصاعدي منذ العام ٢٠٢٠ ولغاية اليوم، أصبحت هذه النسبة ما بين ٦٥ و٨٢٪ من اعتماد التغذية، وهذه مشكلة استجدت مؤخرًا لا سيما مع اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، ما دفع مديرية القوامة إلى اجتراح عدة حلول انطلاقًا من مبدأي المرونة والاستجابة. يُذكر منها السعي لدى الدول المانحة إلى الاستحصال على مادة الدقيق المستعمل في صناعة الخبز عن طريق الهبات أو من خلال إعداد دراسة لتبيان الجدوى الاقتصادية من تحقيقه من الخارج بالدولار المدعوم من مصرف لبنان المركزي، ومن خلال تخفيض الحصة الفردية لمادة الخبز والتعويض عنها ببدائل مناسبة. وقد بدأ اعتماد الحل الأخير كتدبير أولي مع تسلّم الجيش كمية من الأرزّ البرازيلي كهبة، فتم تخفيض حصة الفرد من الخبز بنسبة صغيرة، وازدادت في المقابل حصة الأرز. وهذا الحل يُشكل مثالًا للمرونة في كيفية التأقلم والتعامل مع الواقع المستجد من دون أن يكون ذلك على حساب التغذية الصحية للعسكريين.

أخيرًا، من الأمور البديهية لسلامة الغذاء، تفعيل التفتيشات على المطابخ ولجان التغذية ومعالجة الملاحظات بوتيرة سريعة لضمان حسن سير العمل، والسيطرة على حالات التسمم الغذائي، وهذا ما واظبت المديرية على القيام به على الرغم من نقص العديد بسبب التدابير التي سبق ذكرها. ولا بد من التنويه بأنّه لم تُسجّل أي حالة تسمم غذائي تُذكر في الجيش، فعلى الرغم من كل الظروف نجحت الخطط والآليات المعتمدة في تسيير الأمور بنجاح.

ويبقى أن نشير إلى أنّ نجاح مديرية القوامة في مواكبة هذه الظروف الصعبة والتغلّب على المشاكل والعقبات، كان نتيجة جهود جبارة وإيمان بأنّ الإرادة الصلبة قادرة على تحقيق ما يشبه المعجزات، وهنا يكمن سر صمود جيشنا في هذه المرحلة الصعبة.