رحلة في الإنسان

كيف تعزِّز الحياة في المدن طاقات الإبداع
إعداد: غريس فرح

منذ القدم، إحتلَّ الريف مكانة مميزة في الأذهان لالتصاقه بالطبيعة، والتي هي بحسب الأعراف السائدة، ملهمة المبدعين على مدى العصور.
لكن يبدو أن نتائج الدراسات الحديثة جاءت مناوئة لهذا المبدأ. لا لأنها تعارض نظرية تأثير الطبيعة الإيجابي على النفس البشرية، بل لأنها تأخذ بالاعتبار جميع المعطيات والدلائل التي ترجِّح كفَّة الحياة المدينية، ودورها على صعيد نمو وظائف سكانها الفكرية، وتحفيزها باتجاه الإنتاج والإبداع.
ماذا بحوزة الباحثين الاجتماعيين في هذا المجال، وكيف يفسِّرون التأثير الإيجابي للحياة في المدينة على وظائف العقل البشري؟

 

طبيعة الحياة المدينية
على الرغم من تقلُّص المسافات الجغرافية التي تفصل المدن عن الأرياف بفضل تطوُّر المواصلات ووسائل التواصل السريعة، وعلى الرغم من أن نسبة كبيرة من سكان الريف باتت تعمل في المدن، إلا أنّ الموهوبين منهم لم يتمكَّنوا - بحسب المؤشرات كافة- من تفعيل قدراتهم إلا بعد الانتقال للعيش في المدن والتفاعل اليومي مع أجوائها.
أثبتت جميع البراهين الملموسة، التي أفرزتها الوقائع التاريخية، أن المبدعين، وخصوصًا المخترعين والمكتشفين، ومشاهير الكتاب، لم يكشفوا عن طاقاتهم الكامنة إلا بعد الاستقرار في المدن. وهذا يعود، بحسب الباحثين، إلى طبيعة الحياة المدينية ولونها المميَّز. فهذه الحياة التي يصهرها غليان التفاعل البشري، كفيلة بتحفيز أدمغة من يعيشونها لأسباب في مقدمها: الاضطرار إلى خوض غمار التنافس على جميع الأصعدة بموازاة الاستجابة لمتطلبات الحياة المدينية المعقَّدة. وهذه العملية بالذات هي التي تجرِّد سكان المدن من بلادة الاكتفاء أو القناعة التي يتغنَّى بها سكان الأرياف، وتشدُّهم بالتالي إلى منابع الإنتاج والعطاء.
إذًا على الرغم من كل ما يقال عن مساوئ الحياة في المدن، وخصوصًا لجهة التلوث والضجيج، وتموضع الثقل التجاري والصناعي، يبقى لهذه الحياة نكهة خاصة مستمدة من فورة الدماء في عروقها. فورة محورها اليقظة الدائمة مهَّدت لنمو الكم الهائل من الأدمغة التي صنعت التطور الحالي.

 

مقوِّمات اليقظة المدينية
حسب الأبحاث الجارية، تنبع مقوِّمات هذه اليقظة من عوامل مختلفة في مقدمها، الكثافة السكانية، والتنوع الثقافي والحضاري، بالإضافة إلى الاستعداد الدائم لمواجهة المستجدَّات الحياتية.
فاللقاءات البشرية، وما ينجم عنها من تفاعل لغة الأجسام، وتعبير الوجوه، إضافة إلى المعطيات التي تتراكم في الذاكرة بفعل تتابع الأحداث اليومية، تبقى السبيل الأفضل لتعزيز الحوافز الإبداعية. ولا ننسى آلية التنافس الفطرية التي تنمو في المدن، كما سبق وأشرنا، بشكل لا يمكن للأرياف استيعابه، مهما بلغت نسبة التنمية في أرجائها.
ولا ينسى الباحثون العامل الأهم، وهو الاضطرار بحكم البيئة الاجتماعية في المدن، إلى التواصل مع أشخاص غرباء، الأمر الذي يحتّم التعامل معهم بحذر شديد، وهو ما يحفّز في العقول آلية التأهب التي تحث على العمل والإنتاج.
وحسب الباحث النفساني جوديت أوسلون، الذي أجرى دراسة في جامعة ميتشيغن الأميركية، فإن التقنيات الحديثة التي باتت توصل نخبة العلوم والمعارف إلى الأرياف النائية، لم تتمكَّن من الحلول مكان التلاحم البشري والتعددية الحضارية التي تؤمنها المدن.

 

أهمية التعددية الحضارية
من المعروف أن أكثرية المنتمين إلى ثقافات وحضارات وأعراف مختلفة يميلون بالفطرة إلى الاحتماء ببيئتهم الاجتماعية، الأمر الذي يسهل عليهم ممارسة عاداتهم وتقاليدهم بحرية أكبر.
لكن الحياة المدينية المتشابكة الأهداف والدوافع، تفرض على هؤلاء في معظم الأحيان، الاحتكاك بمن يخالفونهم الميول والمعتقدات. وهذا يحصل عمومًا لأسباب تخدم المصالح الخاصة والعامة.
هذا الاحتكاك، بحسب الخبراء الاجتماعيين، هو المنطلق الرئيس لشعلة الانصهار المديني. الانصهار الذي لا يجنِّب المجتمع نتائج التقوقع السلبية فحسب، بل يسهل إلى حد بعيد تبادل المعارف والثقافات، ويفعّل بالتالي التقدم على غير صعيد.

 

التوسع المديني والارتباط الفطري بالريف
إضافةً إلى كل ما تقدم، يمكن القول إن توسع رقعة المدن لتشمل الضواحي، وتدفق سكان الأرياف للإقامة والعمل فيها طمعًا بالكسب، لم يسقطا من الحساب موقع الريف في الأذهان، ودور سكانه في حفظ التوازن الديموغرافي.
إلى ذلك، فإن حرارة الحياة المدينية التي أسهبنا في وصفها، إضافة إلى النمط الإيقاعي الذي يسيّر خطواتها، لم يتمكَّنا كما يبدو، من إطفاء ميل أبنائها إلى الاتصال بجذورهم.
هذا يحتِّم عليهم العودة إلى الطبيعة من وقت إلى آخر ليستعيدوا من خلالها أنفاسهم، وليتصالحوا مع ذواتهم قبل استئناف حياتهم العملية.
الأمر سهل بالنسبة إلى الذين يملكون بيوتًا ريفية. لكن ماذا عن الذين يفتقرون إلى هذه الاستراحات؟
هؤلاء يحتاجون إلى الفسحات المدينية الخضراء، إلى الحدائق العامة المفتوحة التي تعتبرها الدول كافة من الأولويات الحضارية.
إنها الأمكنة الوحيدة التي تؤمن التواصل الإيجابي بين سكان المدن وجذورهم المتأصلة في الأرض، مع الإبقاء على دورة التطور الإنتاجي في عروقهم.