إعرف عدوك

كيف زيّفت الصهيونيةُ الدينَ اليهودي؟ (1)
إعداد: النقيب حسين غدار

أسطورة أرض الميعاد

 

«تريد الصهيونية إظهار الشعب اليهودي حول العالم على أنه قومية موحّدة، وفي ذلك هرطقة فاضحة».
الحاخام الألماني موشيه هيرش أحد أبرز الباحثين الدينيين اليهود في القرن التاسع عشر (1)

 

تميّز الخطاب الصهيوني منذ نشأة الصهيونية على يد تيودور هرتزل بالمراوغة وبتسخير بعض الادعاءات الدينية والأساطير التاريخية.
يعود اعتماد هذا الخطاب المراوغ إلى تعدُّد الجهات التي يتوجّه إليها وهي:
1. العديد من الدول الغربية الراعية للكيان الإسرائيلي والتي أسهمت في إنشائه.
2. الرأي العام غير اليهودي، بهدف تجميل صورة الكيان الغاصب وإخفاء تاريخه الدموي.
3. الجماعات اليهودية في العالم التي تنتمي إلى تشكيلات ثقافية وحضارية واجتماعية متنوعة، بهدف اقتلاعها من بيئتها وجذبها إلى الكيان الإسرائيلي.
كان على الدولة الصهيونية أن تقدّم نفسها كدولة ديمقراطية ليبيرالية تنتمي إلى الحضارة الغربية العقلانية، وتقوم في الوقت نفسه بقتل الفلسطينيين وطردهم وهدم قراهم وديارهم؛ وكان على الدولة الصهيونية أن تقدّم نفسها باعتبارها دولة علمانية، ولكنّها في الوقت نفسه دولة دينية متطرّفة في تديُّنها.
ولإنجاز ذلك، ولتحقيق هدفها في اغتصاب فلسطين وطرد أهلها وتجنيد يهود العالم لدعم مشروعها ومَدِّه بالعنصر البشري المطلوب، راحت الحركة الصهيونية تُسخّر بعض الادعاءات الدينية والأساطير التاريخية بغية ضمان تأييد الدول الكبرى في تطلّعاتها من جهة، وابتعاث الحمية الدينية لدى عامة اليهود من جهة أخرى. لقد تحوّلت النصوص والأسفار المقدسة وأحداث التاريخ المزيف إلى معينٍ لا ينضب تعوّل عليه الحركة الصهيونية وتستمد منه تأثيرها وفاعليتها بين عامة اليهود في أصقاع الأرض ولا سيّما المتدينين منهم.

 

تتمحور الادّعاءات الدينية حول أفكار ثلاث هي:
1. فكرة «الوعد الإلهي» الذي قطعه «إله بني إسرائيل» لهم بتملّك «الأرض المقدسة»، «أرض الميعاد».
2. فكرة أنّ اليهود هم «شعب الله المختار».
3. فكرة «المسيح المخلص».
هذا المقال هو جزء أول من سلسلة مقالات نعمد فيها إلى تفنيد تلك الادعاءات الصهيونية، وإظهار بطلانها وزيفها، متوخّين الاختصار والتركيز على العناوين الرئيسة، مع الإشارة دائمًا إلى وجوب الاطلاع على المراجع والمؤلفات الكاملة التي لا غنى عنها(2).
 
أولًا: تعريف أرض الميعاد
إسرائيل الكبرى، أو أرض الميعاد، أو الأرض الموعودة، وفقًا للرؤية الصهيونية؛ ويظهر حدّها الشرقي عند نهر الفرات وحدّها الغربي عند نهر النيل.
تزعم الصهيونية أنّ الله تعاقد مع النبي إبراهيم عليه السلام على أن يعطي سلالته، أي اليهود وفق المزاعم الصهيونية، أراضي شعوب عديدة؛ وهذه الأرض، أي أرض الميعاد، هي تارة فلسطين وتارة أخرى الأرض الممتدة من النيل إلى الفرات.
ويتبنّى الخطاب الصهيوني تفسيرات خاصة به لتأويل النصوص التوراتية، ومنها ما جاء في سفر التكوين: «في ذلكَ اليَوْمِ قَطَعَ الربُّ مَعَ أبْرامَ ميثاقًا قائلًا: لِنَسْلِكَ أُعْطي هَذِهِ الأرْضَ مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إلى النَّهْرِ الكَبِيرِ نَهْرِ الفُراتِ»(3) وكذلك حين خاطب الربُّ أبرام (إبراهيم) في السفر نفسه: «إرْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مِنَ المَوْضِعِ الذي أنْتَ فيهِ شمالًا وجَنوبًا وَشَرْقًا وغَرْبًا*فَهَذِهِ الأرْضُ كُلُّها أهَبُها لَكَ وَلِنَسْلِكَ إلى الأبدِ»(4).
إنّ فكرة العودة إلى الأرض الموعودة تلك ليست فكرة جديدة على التراث اليهودي، فقد آمن بها عامة اليهود على مر العصور بهدف إقامة «مملكة إسرائيل» وذلك تحت قيادة «المسيح المنتظر»(5).
غير أنّ الجديد لدى دعاة الصهيونية هو توجيه تلك العقيدة الدينية نحو هدف سياسي هو إقامة «دولة اليهود» في فلسطين، عاصمتها القدس، بوسائل سياسية تتمثّل في الاعتماد على العمل اليهودي الذاتي لطرد الفلسطينيين وتملّك الأرض بالقوة وليس انتظار المسيح المنتظر. ويصنّف الباحثون هذا المنحى الفكري الذي عملت الصهيونية على إحيائه بـ«الصهيونية الدينية» التي ترتد أصولها إلى أوائل القرن الثالث عشر مع الحاخام موشيه بن نحمان (الملقّب رامبان والذي سُمي باسمه مستشفى رامبان المعروف في الكيان الإسرائيلي). ولئن كان هذا الاتجاه الفكري غير دخيل على الاجتهادات الدينية اليهودية، فقد كان هامشيًّا إذا ما قورن بالخط الديني العام لليهود الذي يرفض العودة إلى فلسطين بالقهر والاغتصاب، إلى أن أتت الصهيونية بخطابها الذي جعل من الصهيونية الدينية منحًى فكريًّا طاغيًا لدى أتباع الديانة اليهودية(6).

 

ثانيًا: تفنيد المزاعم الصهيونية
- الوعد الذي قطعه الرب لإبراهيم:
تكذّب التوراة نفسها التي استندت إليها الصهيونية في أسطورة أرض الميعاد/الوعد الإلهي تلك الأسطورة؛ فإذا كان الرب قد أصدر وعده لنسل إبراهيم كما أسلفنا، فإن ذلك النسل لا يقتصر على اليهود الذين يزعمون أنهم أبناء اسحق (ابن إبراهيم من زوجته سارة)، فلإبراهيم نسل من زوجتَين أخرَيَيْن هما هاجر (والدة إسماعيل) وقطورة. ولذا فإن الوعد كان موجّهًا إلى الذين وُلدوا من ذرية إبراهيم، بما فيهم العرب الذين سكنوا المنطقة، وفلسطين تحديدًا، منذ أكثر من ستة آلاف عام(7).

 

- مشاريع استيطانية خارج فلسطين:
من الجدير بالذكر أنّ هرتزل في كتاب «دولة اليهود» لم يتقيّد ببقعة معينة لإقامة الدولة المقترَحة؛ ويظهر في يومياته أنّه لم يكن متحمسًا في أواخر حياته لفكرة الدولة اليهودية في فلسطين، خشية أن يثير هذا المكان المشحون بالدلالات الدينية والتاريخية، رغبة لدى المستوطنين في العودة إلى صور الحياة اليهودية التقليدية التي كانت موضع ازدراء من جانب هرتزل، إذ اعتبر أنها تُبعد اليهود عن أساليب الحياة العلمانية الحديثة(8).
ولعل أكثر ما يبيّن النفاق الصهيوني هو الإصرار المستمر على مكانة القدس وأرض فلسطين وقيمتهما الروحية والدينية في التراث اليهودي، في حين أنّه قبل إنشاء الكيان المحتل، ولدى تثبيت إرهاصات مشروع الدولة اليهودية المزعومة اعتبارًا من أواخر القرن الثامن عشر، كان المنظّرون الصهاينة يدرسون مشاريع لتوطين اليهود في عدة مواضع من العالم، ما يعني أنّهم كانوا على استعداد كامل لتوطين اليهود في أماكن أخرى مثل هولندا وروسيا وحتى أفريقيا، قبل أن تتفق مصالحهم مع مصالح بعض الدول الغربية على اغتصاب أرض فلسطين. وفي ما يأتي أبرز تلك المشاريع:
• في العام 1625: الشروع بتوطين اليهود في سورينام (دولة في أميركا الجنوبية) حيث نجحوا في تكوين جيب استيطاني شبه مستقل قبل أن يقضي عليه الثوار من السكان المحليين.
• في العام 1815: مشروع لتوطين اليهود في جيب استيطاني في آسيا الصغرى (منطقة تضم اليوم تركيا وجوارها) لم يُكتب له النجاح.
• في العام 1931: مشروع استيطاني في أنغولا لم يكتب له النجاح.
تظهر كينيا بالأخضر وتحدّها أوغندا من الغرب.
• في العام 1903: مشروع شرق أفريقيا المعروف أيضًا باسم مشروع أوغندا الذي اقترحته الحكومة البريطانية لتُنشئ مقاطعة صهيونية تشكّل قاعدة موالية للمملكة البريطانية في شرق أفريقيا التي كانت تحت الاستعمار البريطاني (في كينيا الآن وليس أوغندا كما هو شائع). وقد عرض البريطانيون شرق أفريقيا لا فلسطين، لأنّ الدولة العثمانية كانت حليفة لبريطانيا التي قررت الحفاظ على وحدة الدولة الحليفة لتقف ضد الزحف الروسي، أي أنّ تقسيم الدولة العثمانية لم يكن قد تقرر بعد. وكان من المفترض أن تكون المنطقة خاضعة للتاج البريطاني يحكمها حاكم يهودي، وكانت ستُسمّى «فلسطين الجديدة»، وكان هرتزل من بين الموافقين على المشروع.
وقد سحبت الحكومة البريطانية اقتراحها في العام نفسه بسبب معارضة المستوطنين البريطانيين في شرق أفريقيا الذين احتجّوا، إلى جانب السكان المحليين، بأنّ إدخال اليهود الأجانب سيكون له الأثر السيىء من الناحية الأخلاقية والسياسية على القبائل الأفريقية!(9)

 

- الرفض اليهودي للصهيونية-منظمة ناطوري كارتا (أو نواطير المدينة):
تثبت هذه المنظمة اليهودية الملتزمة ونظيراتها أنّ الدين اليهودي الحقيقي بعيد عن أساليب المراوغة والدجل والإجرام والاحتلال التي تنادي بها الصهيونية باسم اليهود جميعًا؛ وما حدث هو أنّ العقيدة اليهودية تمّت «صَهْيَنَتُها» من الداخل، بينما ظلّ أعضاء جماعة نواطير المدينة متمسّكين بمبادئهم الدينية.
يرى أعضاء منظمة كارتا أنّ الصهيونية لا تمثّل استمرارًا للتراث الديني اليهودي أو تنفيذًا للتعاليم اليهودية إنما رفضًا لها وانسلاخًا عن اليهودية الحقيقية، بل إنّ الصهيونية من منظور المنظّمة هي أخطر المؤامرات الشيطانية ضد اليهود. وتؤمِن المنظمة بوجوب تحاشي سفك الدماء بأيّ ثمن وترفض حمل السلاح إلا للدفاع عن النفس، وتدعو اليهود للاندماج في البلدان التي وُلدوا ونشأوا فيها لأنّها موطنهم الحقيقي، مع الحفاظ على الخصوصية الدينية اليهودية.
ويلخّص الحاخام موشيه هيرش أمين سر المنظمة للشؤون الخارجية وأحد أبرز الباحثين في التراث اليهودي موقفَ الحركة من الصهيونية بقوله: «إنّ الصهيونية تتعارض تعارضًا كاملًا مع اليهودية، فقد تلقّى اليهود الرسالة من الرب، لا ليفرضوا عودتهم إلى الأرض المقدسة ضد إرادة سكانها، فإنْ فعلوا ذلك فإنهم يتحمّلون نتائج فعلتهم، وإنّ المذبحة الكبرى ستكون نتيجة من نتائج الصهيونية»(10).

 

ثالثًا: الاستنتاج
لقد اتخذت الحركة الصهيونية من الدين ركيزة أساسية في المطالبة بدولة قومية خاصة باليهود في فلسطين، فوجدت في الدين أنجع وسيلة لتحقيق أهدافها وتوحيد صفوف الجماعات اليهودية للهجرة نحو فلسطين.
وقد تم ذلك عبر ادعاءات دينية كاذبة، بعد أن فشلت عدة مشاريع لتوطين اليهود في أماكن أخرى من العالم مثل شرق أفريقيا وآسيا الصغرى وغيرها.
وعلى الرغـم مما تمتلكـه الصهـيـونـيـة من دعمٍ مـــادي وإمـكـانات إعلاميـة وسطـوة عسكرية، فإنّ جزءًا مـن اليهــود لم يزل متمسّكًا بالقيــم اليهودية الحقّة، غيـر منجرّ وراء التدليسات التي أسّسها هرتزل.
وسنأتي في مقالات لاحقة على تفنيد مزاعم صهيونية أخرى تتصل بفكرتَي «شعب الله المختار» و«المسيح المخلص».

 

هرتزل
تيودور هرتزل (1904-1860): محامٍ وصحفي مجري-نمساوي؛ مؤسس الحركة الصهيونية؛ كان في مظهره وحياته وثقافته غربيًّا بامتياز، ولم يملك من اليهودية سوى قشرة سطحية، فلم يكن يعرف من العبرية سوى كلمات قليلة؛ إلا أن مَكْرَهُ الذي طبع خطابه الصهيوني جعله قادرًا على التوجّه إلى الغربيين كغربي لينال ثقتهم ودعمهم، وإلى اليهود كيهودي ليَنْفذ إلى صميم عقيدتهم ويستغلّها لمصلحة المشروع الصهيوني.

 

الهوامش:
1- Washington Post 10/3/1978
2- يمكن في مجال بحثنا الاطلاع على مرجعين قيّمين هما:
• موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لعبد الوهاب المسيري، الجزء السادس.
• الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية (Founding Myths of Israeli Politics) لروجيه غارودي.
والمرجعان متوافران على شبكة الإنترنت.
3- سفر التكوين، الإصحاح 15، الآية 18.
4- سفر التكوين، الإصحاح 12، الآيتان 14-15.
5- عابد توفيق الهاشمي، عقيدة اليهود في تملّك فلسطين، مكتبة أم القرى، القاهرة، الطبعة الأولى 1990، ص29.
6- عبد الفتاح ماضي، الدين والسياسة في إسرائيل، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى 1999، ص218.
7- راجع في نسل إبراهيم سفر التكوين الإصحاح 11 الآيات 29-31 والإصحاح 17 الآيات 15-22 وسفر أخبار الأيام الأول الإصحاح 1 الآية 32؛ وفي تاريخ العرب كتاب «المصور في التاريخ»، شفيق جحا وآخرون، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية 1954، الجزء 9.
8- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1999، ص227.
9- المرجع نفسه، ص 304.
10- يمكن الاطّلاع على فكر المنظمة والتناقض بين التعاليم اليهودية الأرثوذكسية الحقيقة وبين الصهيونية عبر موقع المنظمة على الإنترنت:
http://www.nkusa.org