مواسم وخيرات

كيف نتجنب آثار التقلبات المناخية السلبية على أشجارنا المثمرة؟
إعداد: د. حسين حمود
أستاذ محاضر في كلية الزراعة الجامعة اللبنانية

من الآثار السلبية للتقلُّبات المناخية، أو ما يعرف بالخلل المناخي، تدهور إنتاج بعض أصناف الأشجار المثمرة في لبنان، وهذه الظاهرة باتت ملحوظة بشكل واضح.
كيف يمكن التعامل مع هذا الواقع، أو ما هي أنواع الأشجار المثمرة التي يمكن أن يتجه المزارع اللبناني إلى الاعتماد عليها، وهل من حلول لتدارك التأثير السلبي لارتفاع معدلات الحرارة على الأصناف التي طالما تعوَّد اللبنانيون زراعتها؟

 

كيف تتأثّر الأشجار المثمرة بالخلل المناخي؟

 

معروف أن الأشجار المثمرة في لبنان تمرّ خلال العام بأربع دورات نمو، تأتي كل منها حصيلة التفاعل مع العوامل المناخية التي تسود في كل فصل من الفصول الأربعة. ففي الربيع ومع بدء ارتفاع حرارة الجو والتربة تتفتّح البراعم الورقية والزهريّة لتعطي طرودًا جديدة وأوراقًا وثمرًا، وهذا ما يسمّى بدورة النمو التي تحتاج الأشجار خلالها إلى الماء والحرارة كعنصرين أساسسيّن لاكتمال عمليّة التزهير وتكوين الثمار ونموّها. تستمر هذه الدورة حتى نضوج الثمار والقطاف خلال الصيف أو أواخره. مع حلول الخريف وما يرافقه من قصر النهار وتدنّي درجات الحرارة خلال الليل، يبدأ نمو الأشجار بالتباطؤ تدريجًا نتيجة اشتداد لزوجية العصارة النباتيّة وتصلُّبها، إلى أن تتجمّد كلّيًا بفعل الهبوط الكبير لدرجات الحرارة وتساقط الأوراق خلال فصل الشتاء. وبذلك تكون الأشجار المثمرة قد دخلت في طور السكون الشتوي أي دورة التوقُّف الكلّي عن النمو.
لكي تستيقظ من سباتها الطويل، تحتاج الأشجار المثمرة، وفق نوع كل منها وصنفه إلى عدد محدّد من ساعات الحرارة المنخفضة وذلك خلال فترة زمنيّة محدّدة أيضًا. هذان العاملان ضروريّان لكي تستطيع الأشجار المثمرة كسر طور السكون والإنطلاق في بداية الربيع إلى تفتّح البراعم والنمو. إن أصناف الفاكهة ذات الإحتياجات العالية من ساعات البرودة لا تنجح زراعتها في المناطق ذات الشتاء الدافىء حيث يسبّب الدفء تأخّر عملية تفتّح البراعم وعدم انتظامها، كما يسبّب قلّة عدد الأوراق على الأغصان وتساقط الأزهار وانخفاض الإنتاج أو حتّى تدهور، مع العلم أن البراعم الورقية تحتاج إلى عدد أكبر من ساعات البرودة لكي تتفتّح مقارنةً بالبراعم الزهريّة للصنف نفسه. إذا أردنا أن نستشهد بأمثلة حول هذا الأمر نجد أن أصناف الخوخ تتباين في إحتياجاتها من البرودة إلى حدّ كبير، فبينما يحتاج صنف فلورداغراند إلى أقل من 100 ساعة من الحرارة المتدنّية (أقل من 7 درجات مئويّة)، يتطلّب صنف ريدهافن أكثر من 950 ساعة من الحرارة المتدنّية، كذلك الأمر بالنسبة إلى التفاح حيث أن صنف غولدن الأصفر يحتاج إلى حوالى 200 ساعة من البرودة، في حين يتطلّب صنف غولدن الأحمر ما يقارب 800 ساعة من البرودة. هذه الإحتياجات تتفاوت أيضًا بين أنواع الفاكهة حيث أن اللوزيّات بشكل عام تحتاج إلى عدد أقل من ساعات البرودة مقارنة بالتفّاحيّات.
إنطلاقًا ممّا ورد أعلاه نرى أن الشرط الأساسي لخروج الشجرة المثمرة من طور السكون ودخولها إلى دورة النمو هو حصولها على العدد الضروري من ساعات الحرارة المنخفضة، والذي يتباين حسب النوع والصنف، أمّا إذا لم تحصل الشجرة على هذه الحاجة بسبب إرتفاع حرارة الجو والتربة فإن ذلك سيؤدّي إلى خلل في طبيعتها الفيزيولوجيّة، يتجلّى في عدم إنتظام تفتّح البراعم الورقيّة والزهريّة وامتداد فترة هذا التفتّح لعدّة أسابيع مع ما ينجم عن ذلك من تفاوت في عقد الثمار وحجمها وفترات نضوجها، إضافة إلى زيادة كلفة قطفها وتشوّه قسم منها.

 

الفاكهة الإستوائيّة وجدت أرضًا خصبة في لبنان
حتى قبل عشر سنوات كانت فكرة أن نزرع فاكهةً إستوائيّةً في لبنان من شبه المستحيل، إلاّ أن التغيّرات المناخية، وخصوصًا إرتفاع المعدّل العام لحرارة الجو، غيّرت كل الموازين ولم تجعل زراعة أشجار الفاكهة الإستوائيّة أمرًا ممكنًا فحسب، بل تجارةً مربحةً لبعض المغامرين الذين أراد بعضهم أن يجرّب حظّه بينما كان الآخر مدفوعًا برغبة تظلّل أغصان شجرة فريدة من نوعها من حيث الشكل.
لم يكن يحلم أحد من هؤلاء بأن أشجار الجوّافة والأفوكادو والكيوي... ستزهّر وتنتج ثمارًا تضاهي بحجمها ونكهتها تلك المزروعة في مناطقها الإستوائيّة الأم.
فقبل سنتين بدأ يلاحظ بعض مزارعي هذه الفاكهة في قرى عاليه والمتن الأعلى وبلداتهما الواقعة على إرتفاع 800 – 900 متر عن سطح البحر أن الأزهار لم تعد تتساقط بفعل البرد، وأن الثمار بدأت تعقد، لا بل راحت تنمو وتنضج. بالمقابل، كان مزارعو التفّاح، الفاكهة التقليديّة لهذه المنطقة، قد كابدوا قبل سنتين خسائر في مردود هذه الفاكهة بالذات بفعل التغيّرات المناخيّة، وبشكل خاص بسبب إنحباس الأمطار وشحّ المياه والجفاف وإتساع دائرة الأمراض والحشرات، الناجمة عن إرتفاع حرارة الجو. هؤلاء تمكّنوا من خلال تسويق ثمار الكيوي من تعويض خسائرهم من زراعة التفّاح.

 

هذا ما حصل معنا...
نجاح زراعة الجوّافة قصّة يرويها المواطن سمير زين الدين من الهلاليّة قائلاً: «كانت شجرة الجوّافة مجرّد شجرة للزينة تتصدَّر مدخل منزلنا، وقد طلبت من الوالد قطعها قبل عدّة سنوات، لكنّه رفض وبدل ذلك قام بتشحيلها، ولم يكن حجم ثمار هذه الشجرة حتّى ذلك الحين يتعدّى حجم حبّة الكرز، ولكنّها بدأت منذ العام 2007 تعطي ثمارًا كبيرة الحجم تنضج وذات مذاق أطيب بكثير من الجوّافة المستوردة وحتّى تلك التي تنمو على الساحل، وقد تفاجأنا كثيرًا عندما وجدنا أن الثمار قد بلغت في السنة التالية حجمًا أكبر إلى جانب وفرة الإنتاج».
سوزان أبو سعيد من بلدة شويت غامرت بزراعة الأفوكادو تقول: «إن زراعة أشجار الأفوكادو كانت في البداية محاولة لا أكثر وهواية لم نتأمّل منها كثيرًا، إلاّ أنّنا فوجئنا بالإنتاج الوفير والنوعيّة الجيدة»، مضيفة أنّها زرعت أيضًا أغراسًا من القشطة والزعرور الإيطالي.
ويؤكد المواطن سمير نصر من بلدة القرية الواقعة على إرتفاع 1050 مترًا عن سطح البحر، أن والده زرع شجرة برتقال قبل عشرين سنة ولم تعطِ خلال هذه الفترة الطويلة أي شيء آخر سوى الرائحة الزكيّة التي تفوح من أوراقها، لكن هذه الشجرة أزهرت لأول مرة قبل ثلاث سنوات وعقدت ثمارها، وعندها عرفنا أنّها من نوع أبو صفير، معلّلاً ذلك بعدم تساقط الثلوج بوفرة كما كان يحصل في الماضي.

 

الأشجار المثمرة التي تتلاءم مع التغيّرات المناخيّة
إن أشجار الفاكهة القادرة على التكيّف مع المتغيّرات المناخية الجديدة، الناجمة عن الإحتباس الحراري، هي تلك التي تتميّز بالخصائص الآتي ذكرها:
- أن تكون ذات إحتياجات متدنّية من البرودة.
- أن تكون ذات مجموع جذري وتدي قوي ومتعمّق في التربة بحيث تؤمّن عن طريقه الوصول إلى الرطوبة الضروريّة.
- أن تتحمّل درجات الحرارة العالية والجفاف.
- أن تتمتّع بالقدرة على تنظيم توازن مائي عن طريق إسقاط جزء من الأوراق في أثناء فترات الحر الشديد.
هناك عدد كبير من الأشجار المثمرة التي تمتلك هذه الخصائص وتعيش وتنمو وتثمر في ظروف الزراعة البعليّة في لبنان ومنطقة حوض المتوسط المعتدلة المناخ، نذكر منها: التين، الزيتون، العنب، الرمّان، اللوز، كرز الطير وكرز المحلب، الكستناء، التوت، الفستق الحلبي، السفرجل، النخيل وغيرها. هذه الأشجار، المقاومة للجفاف هي بتكوينها البيولوجي أكثر صلابة وقدرة على مواجهة الأحوال الجوّية المتطرّفة والآفات والأمراض الزراعيّة. فالفستق الحلبي مثلاً ذو جذر وتدي يصل إلى عمق 7 أمتار في التربة وجذور عرضيّة تصل إلى ما بين 5 و10 أمتار بعيدًا عن الساق. شجرة النخيل بدورها ذات جذور وتديّة عميقة وتتحمّل العطش وملوحة التربة، وكذلك الرمّان الذي يتحمّل الجفاف بشكل جيّد، وأشعّة الشمس اللافحة، وإنخفاض الحرارة في الشتاء إلى ما بين 13 و15 درجة مئويّة تحت الصفر، ولا يتطلّب أنواعًا محدّدة من التربة بل ينجح في كثير من أنواع الأراضي ويتميّز بمجموع جذري قوي، متنوّع، كثيف ويتعمّق في التربة عدّة أمتار. اللوز أيضًا من الأشجار التي تنمو بالحرارة وتعيش بالبرودة، فهذه الشجرة قادرة على مقاومة الحرارة المنخفضة بحيث تتحمّل حتى 27 درجة تحت الصفر، كما هي قادرة على تحمّل الحرارة المرتفعة والجفاف حيث إحتياجاتها للماء قليلة ويمكن أن تزرع في مناطق بعليّة قليلة الرطوبة، وهي تمتاز بالمقدرة على تنظيم التوازن المائي من خلال إسقاط جزء من الأوراق في ظروف الجفاف الشديد.
شجرة الزيتون معروفة كإحدى الأشجار الأكثر مقاومة للجفاف نظرًا إلى جذورها المتعمّقة في التربة، وخير دليل على قوّتها وصلابتها وجود أشجار زيتون معمّرة، يصل عمر بعضها إلى 2000 عام (في القدس) وحتى 3000 عام (في إيطاليا). كذلك التين الذي يعيش بعلاً في معظم المناطق اللبنانيّة وفي مختلف أنواع التربة، وهو يصنّف بين أكثر الأشجار المثمرة تحمّلاً للجفاف. أمّا شجرة التوت فهي قادرة على تحمّل الجفاف والحرارة العالية (بين 35 و44 درجة مئويّة) ولكنّها تفضّل التربة الصفراء الخفيفة. الخصائص نفسها من جهة مقاومة الجفاف تتميّز بها أيضًا أشجار الكستناء والسفرجل والعنب وكرز الطير وكرز المحلب.
هذه الأنواع من الأشجار المثمرة تستطيع أن تحلّ جزءًا من المشكلة بحيث تحلّ محل الأنواع التي تتطلّب عددًا كبيرًا من ساعات البرودة كبعض أصناف التفّاح والإجاص والخوخ وغيرها، أمّا الجزء الآخر من المشكلة فيمكن حلّه باستخدام بعض المواد الكيميائيّة التي تستعمل لكسر طور السكون الشتوي لدى بعض الأشجار ومن بينها التفاح والإجاص.
أخيراً في لبنان مساحات واسعة مزروعة بالأشجار المثمرة التي تنتمي بمعظمها إلى أنواع التفّاحيّات واللوزيّات والجوزيّات والتي تتطلّب عددًا كبيرًا من ساعات البرودة. هذه الأنواع من الضروري المحافظة عليها لكن لا بد من إجراء البحوث والدراسات والتجارب التي ترمي إلى إستنباط أصناف أكثر مقاومة لدرجات الحرارة المرتفعة والجفاف.
إن مواجهة تداعيات الإحتباس الحراري وارتفاع حرارة الجو والخلل المناخي على صعيد الأمن الغذائي تتطلّب من الدولة اللبنانيّة تفهّمًا أكبر لحجم المشكلة واهتمامًا أكبر بالقطاع الزراعي، من خلال إقامة محطّات البحوث الزراعيّة وتجهيزها بالمختبرات والمواد الضروريّة والكوادر العلميّة، وذلك في المناطق التي تعاني الجفاف وتدنّي المتساقطات المائيّة كمنطقة البقاع الشمالي، ليتم استنباط أصناف وسلالات الأشجار المثمرة الملائمة للمناطق الجافة وشبه الجافة.