رحلة في الانسان

كيف نتخلص من عادة التسويف والمماطلة؟
إعداد: غريس فرح

من البديهي القول أن تحمّل المسؤوليات والإسراع في إنجاز المهام ضمن المهل الزمنية المحددة، هما من سمات الشخصية التي توحي بالثقة والاحترام، وتحفز المتحلين بها للتطلع الى المزيد من الأهداف والإنجازات. والمعروف أن القيمين على التربية في المجتمعات كافة، يولون أهمية بالغة لتعويد الصغار على تحمّل المسؤوليات والإلتزام بالوقت والواجب من أجل تحصينهم في وجه مصاعب الحياة. مع ذلك نرى أن نسبة كبيرة من الصغار والبالغين تجد صعوبة في الشروع بأي عمل، أو تماطل بإنجازه ثم تهرع لاهثة للتعويض عن إهمالها في اللحظة الأخيرة، وهو سلوك يؤخر الإنتاج ويضيّع الكثير من فرص الكسب والنجاح.

واللافت أن الذين ينساقون عنوة في دوّامة التسويف والمماطلة، يندمون لاحقاً لضياع الفرص من أيديهم، ويتمنون لو باستطاعتهم التغلب على هذه العادة السيئة التي تشعرهم بالنقص، وتحط من قدرهم في نظر الغير.

هذا يعني أن التلكؤ في تنفيذ المهام وتحقيق الأهداف لا يحصل بالضرورة كنتيجة لتراكم أخطاء التربية، بل قد يكون حالة ذهنية قسرية تتسبب بها تفاعلات ظروف الحياة مع كل شخص على حدة. أما بالنسبة لكيفية نشوء هذه الحالة غير السوية وطرق علاجها، فالشروحات يتولاها إختصاصيون بعلم النفس السلوكي.

 

خلل بفعل الظروف آخر الدراسات التي طاولت مجموعات من الطلاب والموظفين ورجال الأعمال، وركّزت على عادة التأجيل وانعكاساتها السلبية على شخصية الفرد وقدراته، أفادت أن هذه العادة ليست تقصيراً في احتساب الوقت، أو كسلاً كما يحلو للبعض تسميتها، بل إنها خلل ينشأ بفعل الظروف، ويتمثل بسوء تقدير معنى الإنتاج. وهو خلل يشل عمل الفكر التنفيذي، ويخلق صراعاً داخلياً سببه الرغبة في الإنجاز والعجز عن التنفيذ. وهذا يعني حصول هوة سحيقة تفصل ما بين الحافز المعنوي وآلية الأداء لأسباب أهمها:

 

 • القلق والخوف من الفشل: من المعروف أن معظم الذين تخطوا مرحلة الطفولة، ومرّوا بتجارب حياتية مختلفة، قد ينتابهم الشعور بالقلق والرهبة قبل الشروع بتنفيذ أي عمل يطلب منهم. وهذا الشعور كما يؤكد الإختصاصيون هو توجّه طبيعي وصحي، الغرض منه إثارة الحذر الضروري لتجنب الأخطاء وتحقيق النجاح. إلا أن هذا الإتجاه قد يتحوّل عند البعض، ولأسباب بعضها بيولوجي، الى ظاهرة سلبية تتمثل بتضخيم الخوف من الفشل والتعرض للإنتقاد، الأمر الذي يحدث شللاً في التفكير ويحول دون الشروع بالعمل. وهذا ينطبق عموماً على نسبة من رجال الأعمال الذين يخافون من تنفيذ المشاريع، وعلى الطلاب الذين يعبّرون عن قلقهم بالكسل والإهمال والمماطلة. هنا يلفت الإختصاصيون الى أن الخوف من الفشل يتأصل مع الوقت في السلوك، ويتجلى أحياناً بردات فعل عكسية أهمها لذّة العمل في اللحظة الأخيرة وحتى ساعات متأخرة من الليل. والقيمون الذين راقبوا هذه المشكلة السلوكية، وجدوا أن العالقين في شباكها يدورون في حلقة مفرغة قوامها القلق والمماطلة والشعور بالنقص. فهم يماطلون لأنهم قلقون، ويزداد قلقهم وشعورهم بالنقص لفشلهم في إنجاز المهام الموكلة إليهم. والملاحظ أيضاً أن هذه الفئة من الناس تعاني عموماً من بعض الأمراض العضوية والنفسية وفي مقدمتها الرشح والربو وآلام الظهر إضافة الى الاكتئاب والعادات العصبية كنتف الشعر وأكل الأظافر. كما يتعرض بعضهم لإضطرابات الطعام والنوم ويميل الى إدمان التدخين والكحول والمخدرات. أما السبب فيعزوه الأطباء الى تأثير القلق على جهاز المناعة والجهاز العصبي.

 

 • نقص الكفاءة: من جهته يعتبر البروفيسور الأميركي نيل فيور، مؤلف كتاب ˜العادات المكتسبةŒ، أن سلوك المماطلة يكون أحياناً قناعاً يخفي وراءه الخوف من الإقدام لنقص في القدرات أو الكفاءة والإختصاص. والمماطلون في حال كهذه يختبئون بطريقة لا إرادية في ظل هذا السلوك للهرب من الفشل وانتقاد الغير. واللافت أن معظمهم يبعدون التهمة عن أنفسهم ويعزونها الى عامل الوقت، أو قصر الفترة الزمنية التي أتيحت لهم للتحضير أو الإنجاز في اللحظة الأخيرة. وعادة يتذرعون بأسباب لا حصر لها لعدم تمكنهم من العمل في وقت مبكر.

 

 • الطموح الى المثالية: حسب رأي الإختصاصيين فإن المماطلين هم عموماً من المثاليين الذين يطمحون الى تحقيق الأفضل ويخافون من الإنتقاد. هنا يشير الإختصاصيون الى دور التربية في تأهيل الفرد للعمل إرضاءً لنفسه لا للغير. كما يلفتون الى الخطأ التربوي الفادح الذي يرتكب بحق الصغار عن طريق دفعهم الى التفوّق بأساليب غير مدروسة. فالطفل الذي يشعر أنه مضطر الى تحصيل نتائج مدرسية جيدة لإرضاء غرور والديه وطموحهم الى المثالية، يماطل خوفاً من الرسوب ومع الوقت يتأصل الطموح الى المثاليات في سلوكه، وتصبح رغبته في النجاح حاجة لاجتذاب حب الغير ورضاه. وهذه الفئة من الناس تجد نفسها منساقة الى صراع نفسي يتجاذبها من خلال الميل الى الإكتفاء الذاتي، والهوس الى تحقيق أهداف ترضي الآخرين؛ وهو صراع ينتهي بها الى التسلّح بالمماطلة. ومراقبة هذه الفئة عن كثب، أكدت أن معظمها يفتقر الى صلابة الرأي والإنضباط، كما يميل الى الإدمان على شعور النشوة التي يولدها تدفق هرمون الأدرينالين، وذلك أثناء الهروع لإتمام المهام في اللحظة الأخيرة. وهذا ما نلمسه عموماً في سلوك الطلاب الذين يتباهون بالسهر حتى ساعات الصباح الأولى، وذلك أثناء التحضير للإمتحانات. كيف نتغلّب على هذه المشكلة؟ الإختصاصيون الذين راقبوا حجم الصراع الداخلي الذي يولّده التجاذب الدائم بين الميل الى الإهمال والرغبة في الإنتاج، نصحوا المعانين من هذه المشكلة السلوكية بوضع برنامج حياتي جديد يرتكز على أسس أهمها:

 

 • تحديد أهداف ترضي الطموح الذاتي وتؤجج الحوافز الكامنة

. • وضع أهداف واقعية قابلة للتنفيذ والتخلي عن المثاليات التي تعرقل آلية الفكر وتقود الى المماطلة.

 • إعطاء الأولوية للطموحات الشخصية مهما كان نوعها وحصر الهدف من النجاح بإرضاء النفس وليس باجتذاب رضى الغير.

 • الإمتناع عن مقارنة النفس بالآخرين، والإقتناع بأن لكل إنسان مواهبه وقدراته الفردية.

 • عدم الخوف من الإنتقاد وتحويله لصالح تصحيح الأخطاء وتفعيل الإنتاج.

• الإستعانة باختصاصيين في حقل العلاج السلوكي عند الحاجة.